الهجرة النبوية
فبراير 9, 2024في رحاب سيرة أمنا سودة بنت زمعة
فبراير 9, 2024تُذكِّرُنا دومًا مناسبة قُدوم عام هجري جديد، بحدث عظيم فريد بنوعه وحجمه وأهدافه في التاريخ البشري، هو حدث الهجرة النبوية المباركة، وبنجاح أعظم نهضة نَعِمت البشرية بهدايتها وآثارها الحضارية لقرون طويلة، في الوقت الذي لا يزال (مشروع النهضة) اليوم – بعد تراجُع المسلمين المُزري – مُلقياً بثِقَل تعثُّره وبالتحدّيات الضّخام في وجهه على كاهل هموم واهتمامات المؤمنين بحتميّة هذا المشروع، وهداية أهدافه وإنسانية منطلقاته، وبواجب حشد الجهود والطاقات لإنجاحه.
وهذا يُوجب على كل المسلمين الغيارى، وفي طليعتهم حَمَلة المشروع النهضوي الإسلامي وهمِّ واقع الأمّة الإسلامية ومستقبلها، ومستقبل الدور الذي كلفها الله به، والذي بتراجُعها المريع عن فهمه العميق وتهيئها له، والسير في رسم مخطط تستعيد بتنفيذه مجدها ونهضتها.. يوجب عليهم التعمّق في تحليل الأسباب، ووضع برامج العلاج والسير بإيمان عميق وعزة قعساء، وبعقلية علمية، وعزيمة حديدية؛ لردم فجوة الخسارة التي خسرتها هي، كما خسرت معها البشرية خسائر فادحة استراتيجية بعدم قيامها به! وقد فصّل صوَر حَجْم هذه الخسارة ومجالاتها المفكّر الإسلامي العلّامة الداعية الإمام أبو الحسن النَّدْوي رحمه الله في كتابه الفذّ: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟”
ولنبدأ بمعالجة القضية من الحجر الأساس
لا يوجد دين أو فلسفة أو أيديولوجيا تُداني الإسلام – الدين الحق – في اعتنائه بالإنسان، وتحقيق التوازن بين مكوناته وأبعاده، ولا في تفجير طاقاته وإشعاره بدوره العظيم الكريم في الحياة.
وليس هذا بمستغرب أو عصيّ على الاقتناع.. ذلك أن هذا الكون المذهل وسُنَنه الدقيقة هو خَلْق الله العظيم، وهذا الإنسان بتركيبته وطبيعته الطينية، والنفخة العُلوية المركَّب منها، وبرسالته المحدَّدة، اختيار الله جلّ وعلا ومشيئته، وهذا الإسلام هو دينه وتشريعه للإنسان، ليسير على هداه ويحقق هدف وجوده.
ولقد أحدثت بعثتُه المباركة نُقلة هائلة في التعاطي مع الإنسان، واستثمار طاقاته إلى أقصى مدى في كل مجالات الحياة، مع مراعاة التنوّع بين الطاقات البشرية، والتخصُّص الذي يمكن أن يتفوّق به كلُّ واحد بحَسَبِ مواهبه وقُدُراته.. وهذا سرّ آخر من أسرار عظمة الإسلام!
ذلك أن هذا الدين العظيم كما قالت مهتدية إلى الإسلام برتغالية اسمها ماريا جو “Meria Joauo”: “مثل آلة هندسية مفعمة بالألوان، كل جزء فيها يُكمل بتناغم الجزءَ الآخر”. وكما عبّر مهتدٍ آخر كان يهودياً ثم أسلم وهو نمساوي تعمّق في دراسة الإسلام حتى عُدّ من المفكرين المسلمين المهمّين في القرن العشرين وهو د. محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) في مقدمة كتابه القيّم (الإسلام على مفترق الطرق) فقال: “الذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل والمتناسق الذي لا يمكن وصفُه”!
وبعد تراجع دور أُمّتنا وهزيمتها السياسية منذ نحو قرنين، تنصبّ جهود كل الغيارى من النُّخَب المثقفة التي تنطلق من الإسلام عقيدةً وفكرًا، ومن شريعته التزامًا وانضباطًا، ومن غاياته توجُّهًا وأهدافًا، لتستنهضَ طاقات الأُمّة في سياق برامجها النهضوية لإعادة دورها في عالم اليوم وتجديد رسالتها ولن يتم ذلك إلا وَفْق المنطلقات التالية:
- فَهم الإسلام
عقيدة وأخلاقاً، منهجًا وتشريعًا، فهماً واضحاً شاملًا للحياة كلِّها، وبالتالي الانتقال في الصلة به من الانتساب الشكلي أو التقليدي أو الطائفي، إلى الانتماء الإيماني الحقيقي والالتزام القانوني والرسالي الفعلي، فالله سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15].
وهو الذي نبّه غاية التنبيه وبالتفصيل إلى أن الانتماء الشكلي والتقليدي لا يدل على صدق التدين والإيمان الحقيقي، وإنما القلب العامر بالإيمان، والبذل عن طيب نفس، وبالالتزام بحُسن الأخلاق وأداء العبادات بروحية مفاعيلها القلبية والسلوكية والاجتماعية، فيكون هذا بمجموعه هو الدليل على فَهم الإسلام حقيقة، وقد جاء هذا التنبيه بقول سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]
- الإقبال عليه دراسةً وتعلُّمًا
على أيدي علماء عاملين موثوقين من منابعه الصافية: القرآن العظيم والأحاديث النبوية الصحيحة والوقائع الثابتة في السيرة المحمدية وفهم الأئمّة المعتبرين في الاجتهاد لتشريعاته؛ كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24] وقال الرسول ﷺ: “تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي”. [الموطّأ]
- الاعتزازُ به
وطرحُه طريقًا وحيدًا لسعادة الإنسان في الدنيا وفَوْزِه في الآخرة، لأنه هُدى الله المُنزَل يتحقق به خَلاص البشرية المعذَّبة من أزمتها الحضارية في عالَم الحروب المدمّرة والصراعات، والإفلاس والأزمات، ومن انحطاطها الأخلاقي وجُمُوح مادّيتها القاسية.
ومن دون هذا الاعتزاز، وهذا الإيمان وهذه الثقة، مستحيل أن تُصنَع نهضة لأمّة الإسلام، وأن تُستعاد عزة مفقودة، وبهذا الاعتزاز – مع شروط أخرى – حقق المسلمون الأوائل الوصول إلى مركز الريادة بين الأمّم.. ولنا في موقف الصحابي رِبْعي بن عامر مع رستم قائد الجيش الفارسي الذي كان يُضرَب له ألف حساب أعظم عبرة وأكبر درس!
- تعاون وتكامل أدوار الموقنين بدور الإسلام القادم الإنقاذي والحضاري
وذلك لتجميع الطاقات وتوزيعها على جبهات (الصراع الثقافي والحضاري مع الشرّ العالمي) وَفْق مخطط مدروس رائد، خاصة إذا استيقنّا بالحقيقة العظمى التي التفت إليها د. محمد أسد – المذكور سابقاً – رحمه الله: “لا يزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلّفها تأخُّرُ المسلمين أعظمَ قوة ناهضة بالهِمَم”. [كلمة نفيسة سطّرها في مقدمة كتابه (الإسلام على مفترق الطرق)].
- استعادة الوظيفة الكبرى للأمّة
التي شرَّفَتْها طيلة تاريخها وأعلَتْ مكانتها وميّزتها عن سائر الأمم والشعوب، واللهُ عز وجل هو الذي حدّدها – وليس غيره – بقوله سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]
هذه الوظيفة هي الكفيلة بإبراز الأمّة الرسالية، بتصدّيها لنشر الهداية بكل طاقاتها وإمكانيّاتها، وبأدوار رجالها ونسائها وسائر شرائحها، وهذا الأمر بالمعروف كله من رأسه وأساسه، وهو معرفة الله بتوحيده وحاكمية شرعه وقانونه، إلى إقامة العدل والتعامل بالرحمة ونشر الخير إلى أقل جزئياته؛ والنهي عن المنكر كله من رأسه وأساسه، وهو الشرك والظلم والطغيان والإجرام والفساد، إلى أقل جزئيات المنكرات، وأضعف الأسباب الجالبة لقساوة الحياة وبؤسها، وللجفاف في العلاقة بين الناس عندما يكون همّهم التسابق إلى التسلّط، وظلم بعضهم، والتكالب على شهوات الدنيا، ولو على حساب أمنهم وسعادتهم.
وبناءً عليه فإن الأُمّة بكل قطاعاتها، وخاصة علماء الدين الأحرار العاملين، والنُّخب المتخصّصة والشباب الواعين – هذه الشرائح التي هي روحُها الوثّابة وحَيَويّتُها المتدفِّقة وعزيمتُها الفتيّة – مدعوّة لمضاعفة جهودها، وللمشاركة الفعليّة وبكامل روحها الحماسيّة في ساحات (النهوض الحضاري الإسلامي الجادّ والأصيل) لإنجاح مشروع النهضة العظيمِ النفع لها ولكل البشرية، والله الهادي إلى الخير، ومنه العون لتحقيق هذا وهو وليّ ذلك والموفق إليه.