
كيف جلبت الإمارة الإسلامية الأمن إلى أفغانستان؟
أبريل 24, 2025
المعنى السياسي في العيد
أبريل 26, 2025بوفاة الشيخ أبي إسحق الحويني ذهب علم كثير
الشيخ جلال الدين بن عمر الحمصي
سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ في لبنان
الحمد لله الذي جعل عمارة الأرض بأنبيائها وعلمائها والصلاة والسلام على إمام الدعاة وسيد العلماء نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فقد قال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ﴾ [الرعد: 41]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “مَوْتُ عُلَمَائِهَا وَفُقَهَائِهَا”، فنقص الأرض يكون بموت العلم والعلماء، وعمارها يكون بحياة العلماء العاملين الذين يصدعون بالحق ولا يداهنون على حساب دينهم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: “إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “وهو نصٌّ في أن رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور، بل بموت العلماء وبقاء الجهال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يفتون بالجهل ويعلمونه، فينتشر الجهل ويظهر”.
فموت العالم العامل سبب لانتشار الجهل والضلال، وموت العالم ثُلمة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “موت العالم ثلمة لا يسدّها شيء ما اختلف الليل والنهار”. وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها، رَفَعَتْهُ إلى النبي ﷺ قَالَتْ: “مَوْتُ الْعَالِمِ ثَلْمَةٌ في الإِسْلَامِ لَا تُسُدُّ، مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ”.
وفي ذلك أحاديث وآثار منها الصحيح ومنها الضعيف وكلها تفيد، أن ذهاب العلم بذهاب حملته. قال سعيد بن المسيب: شهدت جنازة زيد بن ثابت فلما دلّى في قبره قال ابن عباس: “من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دُفن اليوم علم كثير”.
وقَالَ كَعْبٌ: “عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ، فَإِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ مَوْتُ أَهْلِهِ، مَوْتُ الْعَالِمِ نَجْمٌ طُمِسَ، مَوْتُ الْعَالِمِ كَسْرٌ لَا يُجْبَرُ، وَثُلْمَةٌ لَا تُسَدُّ، بِأَبِي وَأُمِّي الْعُلَمَاءُ -قَالَ: أَحْسَبُهُ قَالَ-: قِبْلَتِي إِذَا لَقِيتُهُمْ، وَضَالَّتِي إِذَا لَمْ أَلْقَهُمْ، لَا خَيْرَ فِي النَّاسِ إِلَّا بِهِمْ”.
وقيل لسعيد بن جبير: “ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم”.
قال يحيى بن جَعْفَر البيكندي: “لَو قدرت أَن أَزِيد من عمري فِي عمر مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل لفَعَلت، فَإِن موتِي يكون موت رجل وَاحِد وَمَوْت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فِيهِ ذهَاب الْعلم”.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أَفْرَضُ عليهم من طاعة الأمهات والآباء؛ بنص الكتاب”. وقال الإمام أحمد: “ولولا العلم كان الناس كالبهائم”، وقال: “الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه كل وقت”.
وصدق القائل:
الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها ** متى يمت علم فيها يمت طرف
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها ** وإن أبى عاد في أكنافها التلف
فإنَّ طَائِفَةً مِنْ عِبَادِهِ فَضَّلَهُم عَلَى خَلْقِهِ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَزيدِ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ، رَفَعَ دَرَجَاتِهِمْ، وَأَعلَى مَقَامَهُم، وَكَرَّمَهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فأَعلَى مَنزِلَتَهُم، وَقَصَرَ خَشْيَتَهُ الحقيقيَّةَ علَيهِم، فَضَّلَهُم علَى النَّاسِ لِأنّهُم المَصَابِيحُ يَدلُّونَ النَّاسَ فِي سَيرِهِم إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ.
ألا وإن أهل هذه الطائفة هم العلماء.. أولياء الله وأصفياؤه.
فَالعُلَماءُ فَضَّلَهُمُ اللهُ علَى غَيرِهِم فقال جلّ وعلا: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [الزمر: 9]، ورَفَع دَرَجَتَهُم فَقَال فيهم:﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٍۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11].
فَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ عَلَى أَيدِي العُلَمَاءِ الحَقَّ وَالنُّورَ، وَقَمَعَ بِهِمُ البَاطِلَ وَالشُّرُورَ، فَكَمْ مِنْ هَالِكٍ أَنقَذُوهُ، وَكَمْ مِنْ شَقِيٍّ أَسعَدُوهُ، فَرُبَّ هِمَّةٍ أَحيَتْ أُمَّةً.
حَمَلُوا الهَمَّ لِهَذَا الدِّينِ، وَسَلَكُوا طَرِيقَ خَيرِ المُرسَلِينَ. بِأَخْبَارِهِم سَارتِ الرُّكبَانُ، وَبِآثَارِهِم اهْتَدَى الثَّقَلَانِ، فَهُمْ ضَوءُ الشَّمسِ لِلأَبصَارِ، وَنُجُومُ السَّائِرينَ فِي الأَسفَارِ، مَشَاعِلُ الهُدَى، وَأَعلَامُ التُّقَى، بِهِمُ الدُّنيَا قَدْ زَانَتْ، وَعَمَرُوا الأَيَّامَ بِالعُلُومِ يَنشُرُونَهَا.
ومن العلماء العاملين في زماننا والذي وافته المنية قبيل أيام في ليلة الثامن عشر من رمضان الشيخ المحدث أبو إسحق الحويني رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.. وبمثله ذهب علم كثير، فالشيخ رحمه الله تعالى قد اشتهر بحبه للسنة والتمسك بها والدعوة إليها. وبفقد الشيخ يشتد الأسى، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَأْسَونَ أَشَدَّ الأَسَى لِفَقدِ عَالِمٍ مِنَ العُلَمَاءِ: قال أيوب السختياني رحمه الله :«إِنِّي أُخْبَرُ بِمَوْتِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَأَنِّي أَفْقِدُ بَعْضَ أَعْضَائِي» ، وإني أتصور لو أن الإمام الذهبي رحمه الله ترجم له في سير أعلام النبلاء لقال فيه:
حجازي محمد يوسف شريف، المعروف بأبي إسحاق الحويني، مولده في كفر الشيخ بمصر سنة ثلاث مئة وخمس وسبعون وألف المُحَدِّثُ، العَالِمُ المُتْقِنُ، الوَاعِظُ، القُدْوَةُ، الزَّاهِدُ، شَيْخُ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الإِمَامُ جِهْبِذاً، بَصِيْراً بِالرِّجَالِ وَالعِللِ عَالِماً بِالصَّحِيح وَالسَّقيم، حَسنَ المَعْرِفَة بِالرِّجَال وَالمُتُوْنِ، مَوْصُوَفاً بِالخَيْرِ وَالصَّلَاح، وَالزُّهْد، وَالوَرَع، وَلزوم السُّنَّة، وَالتقلّل مِنَ الدُّنْيَا، مشَاركاً فِي الأَدب وَقول الشِّعر، لَهُ مَقَامَاتٌ كَرِيْمَة، وَموَاقفُ مَحْمُودَة فِي الدَّفع عَنِ الإِسْلَام، وَالذَّبِّ عَنِ السُّنَّة، لم يسلم من جور السلطان وفرّ بدينه من أرض الكنانة إلى قطر، وابتلي بلاء عظيمًا بمرضه فصبر واحتسب، تُوفي بدار الغربة في قطر مظلومًا في رمضان سنة أربعمائة وست وأربعين وألف بعدما اشتد عليه المرض في أيامه الأخيرة. قيل: شيّعه خلق عظيم أكثر ممن يشهد صلاة العيد.. رحمه الله تعالى.
وطاب الثناء عليه رحمه الله من علماء زمانه، وعلى رأسهم محدّث الشام محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله. وتتلمذ على يد كبار علماء زمانه كفقيه الحجاز العلامة محمد بن صالح العثيمين ومفتيها عبد العزيز بن باز والعلامة ابن جبرين ومحدث المدينة النبوية عبد المحسن العباد، وغيرهم الكثير من أهل العلم والفضل في زمانه.
ألّف العديد من الكتب القيمة التي خدمت السنة النبوية منها: إسعاف اللبيث بفتاوى الحديث، تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في كتب الأماجد، غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود، وبذل الإحسان بتقريب سنن النسائي أبي عبد الرحمن، نهي الصحبة عن نزول بالركبة، نثل النبال بمعجم الرجال، صحيح القصص النبوي، وله شرح لصحيح البخاري، وغير ذلك من المصنفات فضلًا عن الخطب والدروس والمحاضرات والدورات.
ومما يواسينا أن الشيخ رحمه الله تعالى ورفع درجته قد ترك عملًا عظيمًا، يكون له في الأجر العظيم؛ كما ثبت في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.
وللشيخ رحمه الله إرث عظيم من علمه ينتفع به بعد موته رحمه الله، وقد ترك أولادًا صالحين نحسبهم والله حسيبهم؛ كالشيخ هيثم والشيخ حاتم وإخوتهم، ألهمهم الله وجميع أسرة الشيخ وأحباب الشيخ وطلابه الصبر والسلوان..
ورحم الله القائل:
قَدْ مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَتْ فَضَائِلُهُم ** وَعَاشَ قَومٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَموَاتُ
أسال الله العظيم أن يجزي الشيخ أبا إسحاق على ما قدم في دفاعه عن سنة الحبيب ﷺ ونشره لعقيدة السلف والمنافحة عنها وتبليغها والدعوة إليها خير الجزاء، وأن ينزل عليه شآبيب رحمته وأن يجعل مسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً..
وإنا لله وإنا إليه راجعون.