
تاريخ الصهاينة الأسود
أغسطس 8, 2024
ذكرى الشهيد علي حيدر وسفينة مرمرة وطوفان الأقصى
أغسطس 10, 2024الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد رسولِ الله وآلهِ وصحبهِ ومن والاه.
تعدّ عمليَّةُ التواصلِ في حياتنا اليومية ضرورة حتمية لكلِّ من أراد أن يوضِّح فكرةً علميّةً أو أدبيّة أو دينيّة، ولكي تترك أثراً في غيرك يتحتًّم عليك أن تصل إلى مرحلةِ الإقناعِ والتأثيرِ، وبالتالي لا بدَّ أن تمتلك مهاراتٍ وقدراتٍ وفنونَ متنوعة حتى تصل إلى هدفك؛ ألا وهو جذبُ الانتباهِ بشتى الوسائلِ والأساليبِ المحفِّزةِ، وجعل المتلقِّي متوجِّهاً إليك بكلِّيَّته سمعاً وبصراً وفكراً. ولا سيَّما في هذا العصر الذي يتَّسم بفرْطِ المشتِّتَاتِ من هواتفَ ذكيةٍ لا يكادُ تخلو منها يدٌ، وهموم أثقلت الكواهلَ، وحروب دمَّرت العقولَ قبلَ الأجسادِ.
ومن خلال هذه المقدمة ندرك عظيم المسؤولية التي تقع على عاتق المعلم والمربّي وحتى الخطيب والواعظة الَّذي يريد أن يؤثِّر في المتلقِّي لكلامِه، ليتِّم الفائدة المرجوَّة، وكأنَّه في سباقٍ محمومٍ مع هذه المشتِّتاتِ الذهنيِّة.
والناظر في أحاديثِ النبيِّ ﷺ وسيرته العطرة، يجد أنَّها خيرُ معلمٍ ومرشدٍ لأساليب التأثير وجذب الانتباه، بل هي أهم مصدرٍ من المصادر التي تضمَّنت فنونَ وأساليب ومهارات جذب الانتباه بجميع أشكالها الحركية واللفظية، فما كان ﷺ يدَّخرُ أسلوباً من الأساليب المؤثرة إلا وأتى به معلماً ومربياً وهادياً. ونظراً لأهمّية هذه الأحاديث النبويّة الشَّريفة التي قد تضمَّنت أساليب ومهارات إثارة الانتباه بكل أشكالها، كتبتُ هذه السُّطور المتواضعة في خِضَمِّ هذا البحر الزَّاخرِ لعلِّي أوفَّق لتقديم نموذجٍ تربويٍ نبويٍّ لكلِّ معلمٍّ ومربٍّ وأبٍ وأمٍّ وخطيبٍ وواعظ. وبطبيعة الحال فإنِّي لن أستطيع أن أستوعب كمَّاً كبيراً من أساليب النبي ﷺ في طرق جذب الانتباه في هذه العُجالة المختصرة، إلّا أنّي سأسلِّط الضَّوء على بعض الأساليب النبويَّة وأضرب لها الأمثلة المناسبة من أحاديث النبيّ ِ ﷺ مع شيءٍ من التَّحليل الموضوعيِّ ما أمكن ذلك.
1 – أسلوب طرحِ السؤال:
لا شكَّ أنّ طرحَ السؤال وإعطاءِ الوقت للتفكيرِ والإجابة، طريقةٌ فعالة في تعزيزِ عمليةِ إثارةِ الانتباهِ؛ لأنَّها تشركُ المتلقي في المحادثةِ كلما أمكن ذلك، وبهذا الأسلوبِ التعليمي فإنَّ المخاطبَ سيصيرُ أكثر انخراطاً واهتماماً حتَّى وإن كان غافلاً أو شاردَ الذِّهن عمَّا يقولهُ المعلم، فأسلوبُ طرحِ السُّؤال سيعيد له حضوره الذِّهني.
والنَّاظر في أحاديث النبي ﷺ يجد كمَّاً كبيراً منها تضمَّن هذا الأسلوب الراقي، ويجد أن طرحَ السؤال في عمليّةِ التَّعليم أسلوبٌ نبويٌّ كريمٌ استخدمهُ النّبيّ ﷺ في كثيرٍ من الأحيان ليجذب انتباهَ أصحابهِ فيفوزوا بخيريَّ الدّنيا والآخرة.
ولتوضيحِ ذلكَ الأسلوبَ النّبويَّ، نستعرض حديث النبي ﷺ عن أبي هريرة أنَّ رسول ﷺ قال: “أتدرون مَن المفلسُ؟” قالوا: يا رسولَ اللهِ المفلسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. قال: “إنَّ المفلسَ من أمتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وزكاةٍ وصيام،ٍ وقد شتم هذا وضرب هذا وأخذ مالَ هذا؛ فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أخذ من سيئاتهم فطُرِحَ عليهِ ثم طُرِحَ في النار“1.
يتبين لنا أنَّ سؤال النّبيّ ﷺ لم يكن لطلب ما ليس معلوماً عنده، بل هو استفهامٌ تعليميٌ غرضه جذبُ الانتباه، وتقرير المعلومة وترسيخها في ذهن المتلقِّي، ليفتح باب المناقشة والمفاعلة المشتركة بينه وبين الصحابة رضي الله عنهم.
وبهذا الأسلوب التربويِّ المؤثِّر وردت أحاديثُ كثيرة يضيق البحثُ عن ذكرها ودراستها، منها حديثُ أبي بن كعب رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: “يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم“؟ قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: يا أبا المنذر، أتدري أي آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: “واللهِ ! لِيَهْنِك العلمُ أبا المنذِر“2.
2 – أسلوب ضرب المثل:
كان النبيُّ ﷺ في كثيرٍ منَ الأحيان يستعينُ بهذا الأسلوبِ لإثارةِ وجذبِ انتباهِ الصحابة وحصولِ الفائدة المرجوَّة، وخيرُ ما يوضِّح هذا الأسلوب النبويَّ الشّريف ما رواه أبو موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: “إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ“3.
وعلى غِرارِ هذا الحديث النبوي العظيم أحاديث كثيرةٌ تبرزُ أهميَّة أسلوبِ ضربِ الأمثال والتشبيه في عمليِّة جذب الانتباه لدى المتلقي.
3 – أسلوب السكوت أثناء الكلام:
وهو أسلوبٌ نبويٌّ كريمٌ هدفه إثارة الفضول لدى المتلقِّين وإعطاؤهم مساحةً للتفكير فيما سيقوله، وبذلك يكون قد تغلب على كل ما يشتِّت أذهانهم بهذه السَّكتة اللَّطيفة التي جاءت على غير المعتاد.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خاطبنا النبي ﷺ يوم النحر فقال: “أتَدْرُونَ أيُّ يَومٍ هذا؟ قُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: “أليسَ يَومَ النَّحْرِ؟” قُلْنَا: بَلَى. قالَ: “أيُّ شَهْرٍ هذا؟“، قُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، فَقالَ: “أليسَ ذُو الحَجَّةِ؟” قُلْنَا: بَلَى، قالَ: “أيُّ بَلَدٍ هذا؟” قُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: “أليسَتْ بالبَلْدَةِ الحَرَامِ؟” قُلْنَا: بَلَى، قالَ: “فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا إلى يَومِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟” قالوا: نَعَمْ، قالَ: “اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِن سَامِعٍ، فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ“4.
فاستخدام النبيّ ﷺ لهذه الوسيلة المؤثِّرة دليلٌ كبيرٌ على وقعها في النُّفوس، فهم في يوم النَّحر مشتغلون بأعمال ومناسك الحجِّ، فأراد ﷺ أن يستحضر أذهانهم ويجذب انتباههم لما سيقوله.
4 – أسلوب القصَّة:
القصَّة وسيلة نبوية فعَّالة، لها في نفوسِ السامعينَ أفضلُ الأثرِ، توقُظُ مكامنَ الفضول المعرِفي، وتهيِّئ العقولَ لتلقي واستيعابِ الدَّرس والعِبرِ لما تحويه من تشويقٍ وإثارةِ انتباهٍ، وقد عرف النبي الأكرم ﷺ للقِصَصِ أهمِّيته وتأثيره القويّ في جذبِ الانتباه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “بينَما رجلٌ يمشي بِطريقٍ اشتَدَّ بهِ العَطشُ، فوجدَ بئرًا فنزلَ فيها، فشرِبَ ثمَّ خرجَ، فإذا كلبٌ يلهَثُ، يأكُلُ الثرَى من العَطشِ، فقال الرَّجُلُ: لقد بلغَ هذا الكلبُ من العَطشِ مِثلَ الَّذي كان بلغَني، فنزلَ البِئرَ فملأَ خُفَّهُ ثمَّ أمسكَه بفِيهِ فسَقَى الكلبَ، فشكرَ اللهُ لهُ، فغَفرَ لهُ”. قالوا: يا رسولَ اللهِ، وإنَّ لنا في البهائمِ أجرًا؟ قال: “في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ“5.
في هذا الحديث استطاع النبي ﷺ إثارة الانتباه وجذب المتشَتِّتِ من العقول عن طريق سرد قصةٍ من قصص السَّابقين التي أطلعه الله عليها، فاستطاع ﷺ ببراعةٍ فائقةٍ تقرير مبدأ الرَّحمة، حتى مع الحيوان الذي لا يُستفاد من لحمه أو لبنه، بل هو كلبٌ شاردٌ. ومن خلال أحاديثَ كثيرةٍ يتَّضح لنا جليِّاً، كيف وظَّف النبي الأكرم والمعلم الأكمل ﷺ القصَّة لجذب انتباه المتلقِّي، وتقرير المعلومة لديه.
وهكذا فإنَّنا إذا تتبَّعنا أحاديثَ وسنَّة النبي الأكرم ﷺ، فسنجدُ فيها كثيراً من الأساليب النبويَّة التي تعدُّ أهم مصدرٍ من مصادر اكتساب المهارات لجذب وإثارة الانتباه، فهو ﷺ أفصح من نطق الضَّاد قاطبةً، وما ترك وسيلةً لفظية أو إشارية أو جسدية في سبيل جذب الانتباه وجمعِ شتاتِ العقول والقلوب إلَّا واستخدمها لنفع أمته، حتى بلغَ ﷺ حدَّ الإعجاز في تعليمه للنَّاس وحرصه على هدايتهم باستخدامه لكل هذه الأساليب التَّعليمية، ولم يدَّخر أسلوباً إلا وجاد به ﷺ.
ولعلِّي أوفَّق في مقالات قادمة أن أبين ألواناً أخرى من هذه الأساليب النَّبويَّة لتكون مادةً علميةً وتوجيهيَّةً لمن أراد الاقتداء واكتساب المهارات الفعَّالة، ليكون ناجحاً في مهمَّته التربويَّة والتعليميَّة ورداً على بعض المُتَفيهِقينَ الَّذين تعلَّقوا بالنَّظريَّات والوسائل التعليميَّة الغربيَّة، وأغفلوا دراسة هدي النبي ﷺ في هذا المضمار. وما أجد أحبَّ على قلبي ما أختم به مقالتي إلا بقول الشاعر:
يا من بحثت عن العطور جميعها ** ليكون عطرك في الأنام نسيما
هل لي بأن أهديك عطراً فاخرا ** وهو الدَّواء إذا غدوت سقيما
هو قول ربِّ الخلق في قرآنه ** صلوا عليه وسلموا تسليما
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة. باب تحريم الظلم، رقم 2581.
2 رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافر وقصرها. باب فضل سورة الكهف، رقم810.
3 رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب فضل من علِم وعلَّم. رقم 79.
4 رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى. رقم 1741.
5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم وإطعامها. رقم 2244.