
والله بقوته معنا
مارس 8, 2025
أمتنا في رمضان
مارس 10, 2025ثمرات الطوفان خارج غزة
الشيخ محمد محمد الأسطل – من علماء غزة
قد انتهينا في الحديث عن ثمرات الطوفان التي أثمرت داخل غزة، وذلك هو القسم الأول من الثمرات.. غير أن للطوفان ثمرات أخرى أثمرت خارج غزة، وهذا هو القسم الثاني منها، وإليك بعضا من أهمها:
القسم الثاني: الثمرات على المستوى الإقليمي
الثمرة الأولى: إعادة الحيوية للعالم الإسلامي، وتحريك الجماعات الإسلامية الراكدة.
لقد أصيب العالم الإسلامي في مقتلٍ عقب إجهاض ثورات الربيع العربي، وشعر الناس أنَّ الأملَ كأنه فقد، لا سيما بعد فشل أكثر التجارب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم أو صار لها موضع بعد الثورات، كما الحال في المغرب وتونس مثلًا.
فجاءت المعركة تجمع قلوب المسلمين والإسلاميين على مشروع إعادة تحريك الجهود، ليبدأ العمل من جديدٍ على تفعيل الأهداف التي أقعدتها الهزائم، مع الاستفادة من التجارب القاسية التي تلقتها الأمة في أفران البلاء لا سيما ما جرى إبان الثورات المضادة وإجهاض مخرجات الربيع العربي.
وأي انبعاثٍ وصحوة لا بد أن يُسبقَ بشحنٍ نفسي، وهو ما تتولاه معركة طوفان الأقصى.
الثمرة الثانية: طوفان الوعي
وبه تُحَلُّ إحدى المشكلتين اللتين تمثلان مفتاح الانبعاث الإسلامي الجديد، والثانية هي القدرة.
إنَّ الحقائقَ التي قررتها المعركة في أسماع العالمين عامة وأهل الإسلام شرقًا وغربًا خاصة ما كان بإمكان الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام مع جهود عباقرة الفكر مجتمعين أن تنجز نصفها في هذا الوقت القياسي.
ومن ذلك هذه العينة اليسيرة:
– حاكم العالم المتمثل في الولايات المتحدة حاكمٌ قاتلٌ مجرمٌ مخادعٌ يقتات على الأزمات ويديرها دون أن يقدم أي حلٍّ لها.
– الأنظمة العربية أنظمة خائنة، وهي جزءٌ من العدو لا جزءٌ من الشعوب.
– الليبرالية صنمٌ تعبده أمريكا لكنه حين جاعت بدأت بأكله.
– الرواية الصهيونية روايةٌ زائفة، وهذا في الغرب يعمل عملَه.
– التطبيع بمعنى دمج العدو في المكون الاجتماعيِّ للمنطقة فكرةٌ ساذجةٌ غبية، لا مجال لأن تشق الطريق إلى الشعوب الحية.
– القوة لا تواجه إلا بالقوة، وعلى هذا فالسلمية ليست أقوى من الرصاص، وإذا لم يكن مشروع القوة العسكرية في مقدمة اهتمامات الأمة فإنَّ هذا العالمَ الظالمَ لن يتأبى من الاستكثار من العبيد.
قد تقول: هذه القناعات معلومةٌ سلفًا، أقول: صدقت، لكن ذلك كان بالنسبة إلى النخب وبعض العامة أصحاب الاهتمام، وربما كانت متفاضلة المقدار لدى النخب؛ أي أنَّ نفس القناعة الواحدة تختلف درجة اتضاحها ومدى الإيمان بها من شخصٍ إلى آخر، فجاءت المعركة وقررت الحقائق وأزاحت كثيرًا من الأوهام السائدة.
إنَّ معركةَ الأمة اليوم هي معركةُ قدرةٍ لا وعي، وقد بات كثيرٌ من أبناء المسلمين يدركون أنهم كالسجين المجاهد البطل الذي ينتظر فرصة للتفلت من السجان، ومن ثم يكسر السجن ويهدمه ويواصل صياغة مشروع التحرر الإسلامي.
الثمرة الثالثة: تقديم الأنموذج الملهم الناجح
من المعلوم وجود فارق معتاد بين النظرية والتطبيق، ولكن الأنموذج الذي قدمته معركة طوفان الأقصى أنموذجٌ حقيقي؛ فإن ألفًا من المجاهدين أو ألفين استطاعوا تمريغ أنف العدو في التراب، ولم يقف هذا عند العملية التي اندلعت أول يوم، بل إن معجزة الثبات لمن عاين الأهوال التي نراها كل يوم لتزيد عن بأس العملية الكبرى في أول يوم.
وهذا من أهم ثمراته أنه يوجه الشعوب المغلوبة جهة التفكير الثوري ضد المحتل الغربي، لا سيما في الدول الأفريقية التي تموت من الجوع مع أنها بلد الموارد؛ لأنها تُسرَقُ من فرنسا وغيرها.
ثم إن قيمة هذه الثمرة في منطقتنا الإسلامية أنها تسد جانبًا مفقودًا عند كثيرٍ من شعوب الأمة، صحيحٌ أنَّ مجاهدي العراق وأفغانستان وسوريا قد أروا الله منهم خيرًا، ورأى المسلمون منهم قوةً وبأسًا.. إلا أن هذه المعركة بموقعها وظروفها وملابساتها وتغطيتها الإعلامية كانت أكثر إظهارًا للدروس والمعاني؛ لتأتي نتائجها تتمةً للنتائج الحاصلة في العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها من المواقع.
إن معركة طوفان الأقصى هي معركة الأمة وليست معركة غزة وحدها.
ومن الفقه الذي نرى علائمه في العلماء والدعاة والمشايخ والمفكرين والمحرضين والمهتمين وأصحاب المال ورجال الإعلام والمؤسسات الإغاثية أنهم يدركون أن هذه المعركة معركتُهم، وهم حين يدعون ويتضرعون ويُفتُون ويحرضون ويبثون الوعي وينفقون يعلمون أنهم لا يفعلون ذلك عونًا لإخوانهم في غزة؛ إنما يفعلون هذا مرابطةً على ثغورِ معركةٍ هم جزءٌ منها.
والسراج المنير في هذا الإنجاز المعنوي الكبير هم أهل هذا البلد “غزة”، هم شبابها ومجاهدوها الأخيار، الذين استعملهم الله تعالى في إحياء قلوب عباده في شتى أقطار الأرض، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
وأذكر حين كنت مسافرًا قبل سنوات أني قصدت أحد مشايخ اليمن بالزيارة، وقد ذُكِر لي تمكنه في علم العقيدة فهيأت أسئلة أسأله عنها، وتم تحديد الزمان والمكان، ولما وصلت المكان المتفق عليه وجلسنا أخرجت ورقة الأسئلة ومعي دفتر لأكتب، فلما رآني قال لي: ماذا تفعل؟ هل تصدق نفسك أنك تسألني، ضع الورقة في جيبك وأجبني عن سؤالٍ خطر ببالي كثيرًا، فحاولت معه لكنه أبى.
فقلت: تفضل، فقال: هذا الشاب الذي نراه في المقاطع يخرج بعبوته ويتجه نحو الدبابة التي يقترب حجمها من حجم بيت ويقوم بتفجيرها وهو يعلم أنَّ احتمالَ الشهادة غالبٌ ما الذي يُقال له في الدروس والمحاضرات بالضبط ليصل إلى هذا المستوى من الإقبال وابتغاء ما عند الله؟!
وذكر لي أنه ممن يشتغل بالتربية، ويحرص على العناية بالنشء، إلا أن النتائج لا توازي الجهود المبذولة، ويريد أخذ مسارات تُثَوِّر من الحالة التربوية التي يُصنع بها الشاب على عين الله بإذنه تعالى وعونه وفضله.
وبعيدًا عن المبالغة؛ فإنَّ الأنموذج الذي قدمه شبابنا الصلحاء -على ما لا يخلو منه بشر من التقصير والذنب- أنموذجٌ حقيقيٌّ لا مبالغة فيه، وليست المقاطع مدبجلةً كما يروق لبعض المتنكرين لفكرة الجهاد في فلسطين الآن أن يدَّعوا؛ وإنما هو التثبيت من الله، وإنما هي السكينة المنزلة من عند الله، ويُجمِعُ من يضرب ويُثخن في العدو ويعود أن كل ذرة من المهابة والتوجس تختفي حين رؤية جنود العدو، وأنه يصبح كالمضطر للضرب لا يحسن أن يعود إلا بعد أن يثخن ويُحسن الإثخان.
وإنَّ من أقرب الناس إلي أخي المجاهد سلمان الحلو رحمة الله عليه من حي الزيتون بغزة، وهو من خيار طلبة العلم وأكثرهم أدبًا وحياء، ويحفظ قريبًا من ألف حديث من كتاب “معالم السنة النبوية” للشيخ صالح الشامي فرج الله كربه، رأى مرة في المنام أنه يمسك بيده وإذا بها صناعية، ثم يضع يده على عينه فإذا هي صناعية، فتوجس من الرؤيا وذهب إلى الشيخ أبي البراء حلس وفقه الله -وهو الذي أخبرني بالقصة- يسأله عن تعبير الرؤيا فقال له: أبشر؛ إن الرؤيا إيذانٌ بأنك تصنع على عين الله كما قال سبحانه: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: 41].
وجاءت هذه المعركة وقضى نحبه فيها شهيدًا بإذن الله.
وأحسب أن كثيرًا من الشباب كانوا يصنعون على عين الله، دون أن ينتبه لهم أكثر الناس وسط زحمة الحياة وصخبها، ولكن أظهرتهم المعركة، ولئن انتهت المعركة على خير وظهرت تراجمهم وكشفت أحوالهم ستعاينون من النماذج ما يكون تحفةً تربويةً يقتدى بها في الظلمات التي أحدثتها ماديةُ هذا العصر، والله هو الولي الحميد.
الثمرة الرابعة: فشل التطبيع على المستوى الشعبي
فالكيان الصهيوني بزعامة نتنياهو استطاع أن يقطع شوطًا ضخمًا من مشروع التطبيع، وكانت الكفة تزيد كل يوم لصالح العدو، بحيث صار الجهاد الفلسطيني محل استهداف، وصارت القضية في سياق التصفية.
وجاءت هذه المعركة تبطل هذا الباطل، ولا كبير قيمة للتطبيع الرسمي إذا بقيت الأمة على حركة الوعي تتخذ من الكيان الصهيوني ومن يقف خلفه عدوَّها الأول؛ فتكون منحازةً لدينها وقيمها وتاريخها، ويكون الخط الذي تتحرك فيه الشعوب يصادم الخط الذي تسير فيه الأنظمة.
القسم الثالث: الثمرات على المستوى العالمي:
وفيها ثمرات كثيرة من أهمها الثلاث الآتية:
الثمرة الأولى: إنهاك الولايات المتحدة والتعجيل بمنحنى سقوطها
لقد تأسست الولايات المتحدة الأمريكية على الظلم، ونمت على الظلم، وقادت العالم بقواعد الظلم والخديعة واللف والدوران وتجميل المظهر مع شناعة الجوهر.
وهي ضمن ظروفٍ وسياقاتٍ كثيرة في رحلة سقوط، حتى صار من العناوين المطروحة لدى المشتغلين بالقضايا السياسية الاستراتيجية: ما بعد أمريكا.
ومن المعلوم لكل معتنٍ بالسياسة وبفهم الواقع أن العالم الآن في رحلة تحولٍ من النظام الحاكم أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، ولكن لم تكتمل ملامحه بعد، غير أنَّ للصين فيه حصةً جيدة، ثم لروسيا على نحوٍ أقل، وهذا يوفر مزيدًا من الهامش المتاح للدول الإقليمية، وبل ويفتح ثغرات للدول المحلية والحركات التحررية والجماعات الإصلاحية.
والعدو المركزي للولايات المتحدة -ضمن السياق القائم- هو الصين، والصين تتقدم كل يوم في مشروعها الذي تقصد به التسيد على العالم لتكون الدولة الأولى في العالم بحلول سنة 2049 ضمن خطة يكاد يكون عندها من الأعباء ما يوزع على كل يومٍ من أيام السنوات المتبقية.
والصين أسعد الدول بما يجري الآن في غزة؛ لأن اصطفاف الولايات المتحدة في خندق الكيان الصهيوني ودخولها المعركة معه كشريكٍ فيها ينهكها ماديًّا، ويسقطها أخلاقيًّا، ويضعف هيبتها إعلاميًّا، ويضربها فكريًّا كما سيأتي.
والأهم من ذلك كله بالنسبة للصين أنه يشغل الولايات المتحدة عنها، مما يعطيها فرصةً زائدة للمضي في مشروعها الذي تتقدم فيه بشكلٍ هادئٍ بعيدًا عن الصخب، وتدخل فيه منطقتنا يومًا بعد يوم بملفاتٍ تبدو منفصلة عن بعضها ولكنها تابعة لمشروع الزحف الصيني.
وهذا -بالمناسبة- يتطلب من الأمة تحديد موقعها وتموضعها الجديد ضمن حركة موازين القوى القادمة، وقد كتبتُ مقالًا من قبل بعنوان: “الإسلاميون والتحولات الجيوسياسية” بهذا الخصوص، وهو منشور.
ولم تتعلم الولايات المتحدة من إخفاقها من قبل بقرار غزو أفغانستان ثم غزو العراق؛ فقد ضيعت عشرين سنة بمن أنهكها وأذلها -وهم المسلمون المجاهدون- وأشغلها عن الصين التي كانت تهرول صاعدةً ولكن على نارٍ هادئةٍ، فترى أثرًا ولكن لا تسمع صخبًا.
ومع أن الرئيس الأمريكي بايدين خرج في حدود شهر أغسطس سنة 2021 بتصريحٍ يقول فيه ما مفاده: إن العدو المركزي للولايات المتحدة هو الصين وليس المسلمين إلا أن الولايات المتحدة لا تتعلم من أخطائها، ولا تحسن قراءة التاريخ وإن كانت تدرسه؛ وذلك بسبب حاجب فتنة القوة التي تُضعف من حسن قراءتها للمشهد.
ولهذا من رأى سوء تصرفاتها ظن ضعفها وجهلها ولكنه قصورٌ في النظر؛ لانعدام البصيرة لا لضعف البصر.
ومن العجب أن بقعةً صغيرةً مثل غزة لا تمثل ثقلًا استراتيجيًّا من الناحية المادية -كمصر مثلًا- تؤثر في موازين القوى الكبرى، وتقوم بعملية تسريعٍ للاصطفافات، والتي ستنتهي بمزيدٍ من الإضعاف والإنهاك للولايات المتحدة التي تخسر حرفيًّا بدوام دعمها لاستدامة المعركة، لا سيما بعد الضعف المزري الذي ظهرت به سياسيًّا، حتى إن نتنياهو كان يتهكم ببايدن ويضعف من هيبة الولايات المتحدة في خضم سجالاتٍ داخلية، والخاسر هم الطرفان معًا.
فكان على الولايات المتحدة -لو كانت تعقل- أن تُصَوِّبَ بوصلتها نحو الصين لا نحو مؤازرة الكيان الصهيوني بهذا الثقل وعلى مستوى الشراكة في المعركة؛ لأنَّ المعركةَ الحقيقيَّةَ الآن بالنسبة للولايات المتحدة إنما هي على كرسي قيادة العالم لا على حسم معركة إقليمية، ولكن الله إذا أراد أن يهلك أمةً ابتلاها بالغطرسة والغباء.
وهذه المعركة هي إحدى الجسور المهمة التي تمثل الانحناء المُعجِّل في السقوط في الهاوية بإذن الله تعالى.
الثمرة الثانية: بدء خلخلة المنظومة الفكرية الغربية المتمثلة في “الليبرالية”
من المعلوم أنَّ كلَّ أمةٍ لها مِفتاحٌ لفهم شخصيتها؛ فالأمة الإسلامية مفتاحها التوحيد، والنصارى مفتاحهم التثليث، أما الولايات المتحدة والمنظومة الغربية فمفتاحها هو الليبرالية.
وهذا المفتاح يفتح الباب على ثلاثةِ أسسٍ أخرى تُمَثِّلُ بمجموعها أسسَ المنظومة الفكرية الغربية: وهي الرأسمالية والعلمانية والديمقراطية، وكلها راجعة للفكرة الليبرالية القائمة على الحرية المطلقة؛ فالرأسمالية تقرر حرية المال، والعلمانية تقرر حرية المعتقد والسلوك بفصل الدين عن الدولة، والديمقراطية تقرر مبدأ الحرية السياسية.
وهذا الصنم -أعني الليبرالية- هو الذي تتطاول به الولايات المتحدة على الناس من خلال زخرفة القول ورفع شعارات الحرية والسلام والتسامح ومبدأ سيادة الدول وأضراب ذلك، وإن كان في الواقع يتم الدوس على كل ما هو مقدس.
والكلام في إيضاح هذا الموضوع يطول، والمقصود أن هذا الصنم بدأ في الخلخلة والتهاوي حين وقفت الولايات المتحدة من المظاهرات الطلابية التي خرجت في الجامعات الأمريكية تطالب بوقف العدوان على غزة موقف المعادي، فالدولة التي تتظاهر بتقديس حرية التعبير والرأي ضمن منظومة الحريات إذ بها هي التي تبطش بالطلاب وتلاحقهم وتسكتهم وتهددهم وتلحق بهم التهمة بمعاداة السامية.
لقد ظهر لكثيرٍ من الشباب الأمريكي أن الليبرالية منظومة فكرية لم تعد تختلف عن فكرة الشعارات الجوفاء التي تظهر بمظهرٍ مليح لكنها تخفي في باطنها كلَّ قبيح.
وهذا الإنجاز ليس ضخمًا من ناحية الأثر المادي الآني؛ ولكن رحلة السقوط الفكري تبدأ بخلخلة الأفكار.
وما زال للحديث بقية..