أصول الدعوة المحمدية
فبراير 5, 2024شعراء نصارى مدحوا النبي ﷺ
فبراير 5, 2024
تمر الأيام وتنطوي الذكريات، ويظلُّ الواقع يُلهِب ذكرى التاريخ، مثلما يَظلُّ التاريخ ينيرُ ظلامَ الواقع..
(1) طمس النور الإسلامي في الهند!
كان شهر يونيو/حزيران هذا عصيباً على المسلمين في الهند، ولا يُتَوقعُ أن يهدأَ الأمر في فترةٍ قريبةٍ، فقد أسفرت الألسنةُ عما تنطوي عليه النفوسُ، وسمع المسلمون تصريحات هندوسية كانت فوق خيالهم، فهذا إعلاميٌ هنديٌ يهدد بقصف المدينة المنورة، وهذا آخر يقرر أن كل مسجد بُنِي في الهند، فقد بُنِي على أنقاض معبدٍ هندوسيٍ، وبلغ الحال براهبٍ هندوسيٍ حتى يقول: بأن مكة كانت هندوسيةً زاخرةً بتماثيل إلههم، وأن الكعبة بُنيت فوق أنقاض معبدٍ هندوسيٍ قديمٍ، ومن ثَمَّ فإن على الهندوس واجبٌ مقدسٌ يصل إلى هدم الكعبة، وإعادة بناء المعبد الهندوسي الكبير! ونَشرَ بعضُهم خريطةً تشمل البلاد العربيةَ، وهي تحت حكم الهندوس، الذين قرروا أن يثأروا للبقرةِ من أولئك الناس الذين يأكلونها!
وقبل قليل من كتابة هذا المقال، طالعتُ تحقيقاً نشرته الصحيفة الهندية (The Indian Express) بتاريخ 21 يونيو 2022م، تكشف فيه عن خطةِ الحكومة الهندية لطمسِ التاريخِ الإسلاميِ في الهند، وحذفِه من مناهج الكتب الدراسية، في المراحل التعليمية، وأنها الآن في المراجعة الثالثة، حيث نفذّت الحكومة 1443 تغييراً على 182 كتاباً مدرسياً في المراجعة الأولى، التي جرت في 2017م، بخلاف التغييرات التي جرت في المراجعة الثانية (2019م)، ثم الثالثة التي تجري هذه الأيام!
وليس هذا غريباً، فإنه لا بد للظلمِ والباطلِ من طمس تاريخ، واصطناعِ تاريخٍ آخر، فهذه من ضرورات الظلم والباطل، وقد نبَّهَنا إلى هذا المعنى سيدُنا عمرُ رضي الله عنه حين ذكر بأن الهلاك يأتي على يد مَن لم يعرف الجاهلية! وذلك أن المسلم إذا لم يعرف الجاهلية لم يعرف قيمة نعمةِ الإسلام عليه!
والهند كانت من أشد البلاد انحطاطاً أخلاقياً وظلماً اجتماعياً واستغلالاً طبقياً، إذ كان يجتاحها نظامٌ طبقيٌ في غاية القسوة، يجعل غالب الناس في مرتبة الحشرات والبهائم، الذين لا كرامة لهم، ولا حق في الحياة، ولا في الارتقاء، إنما هم عبيدٌ خُلِقوا لخَدمِ السادةِ لا غير! فإذا طُمِس تاريخُ الإسلامِ، فسيُطْمَس معه ما جاء به من العدالة والسعادة، وإنقاذ الناس من الظلم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
لهذا فإن كثيراً من مثقَّفي الهند وزعمائه أثنوا على الإسلام ثناءً كثيراً، حتى لو أنهم لم يعتنقوه، وقد نقل العلامةُ أبو الحسن الندوي عن الكاتب الهندي نانالال شامانلال ميهتا قوله: “إن الإسلام قد حمل إلى الهند مشعلاً من نورٍ، قد انجلت به الظلمات التي كانت تغشى الحياة الإنسانية، في عصر مالت فيه المدنياتُ القديمةُ إلى الانحطاط والتدلي، وأصبحت الغاياتُ الفاضلةُ معتقداتٍ فكريةٍ، لقد كانت فتوح الإسلام في عالم الأفكار أوسع وأعظم منها في حقل السياسة، شأنه في الأقطار الأخرى، لقد كان من سوءِ الحظ أن ظل تاريخُ الإسلام في هذا القطر (الهندي) مرتبطاً بالحكومة، فبقيت حقيقةُ الإسلام في حجاب، وبقيت هِباتُه وأياديه الجميلةُ مختفيةً عن الأنظار”(1).
ونُقل أيضاً عن الزعيمِ الهندي الشهير جواهر لال نهرو، قولَه: “إن دخول الغزاةِ الذين جاءوا من شمال غرب الهند، ودخول الإسلام له أهميةٌ كبيرةٌ في تاريخ الهند، إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي، إنه قد أظهر انقسامَ الطبقاتِ واللمسَ المنبوذ، وحبَ الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، إن نظريةَ الأخوةِ الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثَّرت في أذهان الهندوس تأثيراً عميقاً، وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير، البؤساءُ الذين حرَّم عليهم المجتمع الهنديُ المساواةَ والتمتعَ بالحقوق الإنسانية”.
وهذا الزعيم الهندي، جواهر لال نهرو، له فصلٌ رائعُ متميزٌ في كتابه “لمحات من تاريخ العالم”، يختصر فيه قصة الإسلام وحضارته، ويعرضُها بشكلٍ جميلٍ، وقد كتب الكتاب على صيغة رسائل منه لابنته، وهذه بعض أقواله(2):
- يقول عن عظمة إيمان النبي ﷺ برسالته: “هيَّأ بهذه الثقةِ وهذا الإيمان لأُمَّته أسبابَ القوةِ والعزةِ والـمَنعةِ، وحَوَّلها من سُكَّان صحراء، إلى سادة يفتحون نصف العالم المعروف في زمانهم. كانت ثقةُ العرب وإيمانهم عظيمَين، وقد أضاف الإسلام إليهما رسالة الأخوّة والمساواة والعدل بين جميع المسلمين، وهكذا وُلِدَ في العالم مبدأٌ ديمقراطيٌ جديد”.
- “كان محمد ﷺ -كمؤسسي الأديان الأخرى- ناقمًا على كثير من العادات والتقاليد التي كانت سائدةً في عصره، وكان للدين الذي بَشَّر به -بما فيه من سهولة وصراحة وإخاء ومساواة- تجاوُب لدى الناس في البلدان المجاورة؛ لأنهم ذاقوا الظلم على يد الملوك الأوتوقراطيين والقساوسة المستبدين، لقد تعب الناس من النظام القديم، وتاقوا إلى نظامٍ جديدٍ، فكان الإسلام فرصتهم الذهبية، لأنه أصلحَ الكثير من أحوالهم، ورفع عنهم كابوس الضيم والظلم”.
- “المدهش حقًّاً أن نلاحظ هذا الشعب العربي -الذي ظلَّ منسيًّا أجيالاً عديدة، بعيدًا عمَّا يجري حوله- قد استيقظ فجأةً، ووثب بنشاطٍ فائقٍ أدهش العالم، وقَلَبَه رأسًا على عقب، وإن قصة انتشار العرب في آسيا وأوربا وإفريقيا، والحضارةَ الراقيةَ، والمدنيَّةَ الزاهرةَ التي قدموها للعالم، هي أعجوبةٌ من أعجوبات التاريخ! إن الإسلام هو الباعث والفكرة لهذه اليقظة العربية؛ بما بثَّه في أتباعه من ثقة ونشاط”.
- “إنكِ إذ تقارنين رسالةَ الأخوّة الإسلامية هذه بحالة النصرانيةِ المنحلَّة، تعرفين مقدار سِحْر هذه الرسالة وتأثيرِها، لا على العرب وحدهم، ولكن على جميع شعوب البلدان التي وصل إليها العرب!”.
- “سار العرب من فتحٍ إلى فتحٍ، وكثيرًا ما ربحوا الحروب بدون قتالٍ، وفي غضون خمسةٍ وعشرين عامًا من وفاة الرسول ﷺ، فتح العرب جميع بلاد فارس وسوريا وأرمينيا، وجزءًا من أواسط آسيا الشرقية، ومصرَ، وجزءًا من شمال إفريقيا، وقد سَلَّمتْ لهم مصرُ بسهولةٍ، لأنها كانت قد قاست كثيرًا من استبداد الإمبراطورية الرومانية، ومن الحروب الطائفية”.
- “إن العرب كانوا في بداية يقظتهم متقدين حماسًا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قومًا متسامحين؛ لأن دينهم يأمر في مواضعَ عديدةٍ بالتسامح والصفح، وكان عمر بن الخطاب شديد الحرصِ على التسامح عندما دخل بيت المقدس، أما مسلمو إسبانيا فإنهم تركوا للجاليةِ المسيحيةِ الكبيرة هناك حريةَ العبادةِ التامَّة، وكانت صِلات المسلمين مع الهند -التي لم يحكموا منها إلا السند- صِلاتٍ ودية، والواقع أن أبرز ما يميز هذه الفترة من التاريخ هو الفرقُ الشاسعُ بين تسامحِ العرب المسلمين، وتعصُّبِ النصارى الأوربيين”.
- “برز هؤلاء العرب السُذّج شامخين في عالمهم، فدانت أمام زحفهم المظفر، الجيوشُ الجرارةُ والأمراءُ، كانت الشعوب الأخرى متململةً من أمرائها، فَلَاحَ العرب كبارقةِ الأملِ لهذه الشعوب التي كانت ترقُبَ الفرجَ والثورةَ الاجتماعية”.
وقد رأى فريقُ مجلتِنا “أنصار النبي ﷺ” في هذا الموقف أن نخصص قسم “أئمة الهدى” من هذا العدد، والذي يستعرض تراث علمائِنا الراحلين، ومؤسساتنا الإسلامية العريقة، رأى فريق المجلة أن نُخصّصَ هذا العدد للعلماء الهنود، وسيرى القارئُ الكريمُ في هذه المواد المعروضة عليه، كيف كانت الجاهلية الهندية التي قاسى منها الناس في زمن بعثة نبينا ﷺ، ثم سيرى نقولاً بسيطةً من بحثٍ بديع للشيخ صفي الرحمن المباركفوري عن البشارات بالنبي ﷺ في كتب الديانات الهندوسية القديمة، وهو بحثٌ عجيبٌ، نرجو ونُلِحُّ على القارئ الكريم أن يرجع إليه كاملاً، ليرى كيف أن نبينا ﷺ كان موصوفاً في كتب الديانات القديمة باسمه، واسم أبيه، واسم أمه، واسم بلدته، وعدد صحابته وأعدائه، حتى نوع دابته!
إن المسلمين في شبه القارة الهندية وحدها (الهند، باكستان، بنجلاديش)، يمثلون ثلث الأمة الإسلامية، وإنتاجهم العظيم قد استفاد منه المسلمون شرقاً وغرباً، ولا يزال الكثير من تراثهم العظيم بحاجة إلى ترجمة وعناية ونشر، وكل هذا يُضاعِف من مسؤوليتنا تجاه إخواننا المسلمين في الهند.
(2) الحملة المباركة
في شهر يونيو الماضي (2022م)، جاوزت الحملةُ المباركةُ، حملةُ مقاطعةِ المنتجاتِ الفرنسية، حاجز الستمائة يوم، في أطول حملةٍ شعبيةٍ تستمر عبر منصاتِ التواصل الاجتماعي، ثم تأتي الحوادث لتزيدَنا إصراراً وتمسكاً بهذه الحملة، ففرنسا كانت القدوةُ في تبنّي النظامَ السياسيّ نفسه للإساءة للإسلام والنبي ﷺ، وتمسَّكت بهذا الموقف بل رأت فيه الفرصةَ المناسبةَ لبدء عمليةِ تضييقٍ واسعةٍ على المنظمات الإسلامية، وشرّعت القانون الذي زعمت أنه لمناهضةِ “الانفصالية الإسلامية”، ثم إنها لم تقف ساكتةً إبان الحملة الهندية، بل خرجت تصريحاتٌ فرنسيةٌ داعمةً لما تقوم به الهند، وهو ما يجدّدُ ويؤكدُ هذه العداوةَ المتأصلةَ والمستمرة في فرنسا للإسلام والمسلمين.
ذكرنا من قبل أن فرنسا هي أقدم عدوٍ للإسلام والمسلمين، وأنهم يرون أنفسهم منقذي أوروبا من الفتوحِ الإسلامية، وأنهم كانوا رأس الحربة، ولهم نصيبُ الأسد من جيوشِ الحملاتِ الصليبية، وهم أصحاب الهجمةِ الأولى على قلب العالم الإسلامي في العصر الحديث، المتمثل في الحملة الفرنسية على مصر مطلع القرن التاسع عشر!
وهذه العداوة الراسخة المتأصلة في فرنسا لا تَتخفّى، وقد نقل العلامةُ محمد رشيد رضا في “تاريخ الأستاذ الإمام” أن محمد عبده كان يقول: “لا توجد أمةٌ تبغضُ المسلم لأنه مسلم لا لأمر آخر إلا فرنسا”.
وأطال في بيان ذلك، ومما قاله: أنني لما كنتُ أجتمع مع أحد الفرنساويين للمذاكرة في أحوال الشرق أمتعض، وينتفض –أو يرتعش- جسمي كله. وقال: إن الفرنساوي إذا مدَح الإسلام، وذكر شيئاً من مزاياه، فلا بد أن يكون غرضُه من ذلك منفعةَ فرنسا، وذكر عدةَ رجالٍ منهم ألَّفُوا كتباً بهذا المعنى، ثم صرحوا، ولو في آخر ما كتبوا بحالتهم مع المسلمين في الجزائر، وما ينبغي عمله لبقاء سلطتهم فيها.
يقول رشيد رضا: كنت قد استغربت هذا القول من الأستاذ، ثم رأيت كثيراً من الشواهد والدلائل التي تؤيده، وأقواها ما كتبه فيلسوف فرنسا الاجتماعي ومؤرخها الحر الدكتور جوستاف لوبون، إلى عبد الغني ستي أفندي التركي المشهور، وهو نصٌ صريح في هذا المعنى مع بيان سببه وهو الدين الكاثوليكي.
ذلك بأن عبد الغني أفندي هذا قرأ بعد الحرب الكبرى (العالمية الأولى) كتاباً لهذا الفيلسوف في أسباب الحرب وفلسفتها، أنحى فيه بالتخطئةِ على الدولة العثمانية لدخولها الحرب مع ألمانيا، فكتب إليه مبيناً عذرَ دولتِه في ذلك، وهو اتفاقُ فرنسا مع الروسيا من قبل الحرب على تقسيم بلادها، وإعطاءِ الآستانةِ لروسيا. فلم يلبث أن جاءه مرجوع الكتاب من الفيلسوف، يعترف له فيه بالحق، أي بعذر الدولة، ويصرح فيه ببغض فرنسا وقومه المسلمين… ونشر هذا الجواب في مجلة الهلال بلغته الإفرنسية وهذه ترجمته (من ص616 من العدد السادس من السنة الثالثة والثلاثين):
“أراكم فيما كتبتم على تمام الإصابة. سأسعى في نشره في إحدى الجرائد الفرنسوية. لكنني لست واثقاً من أن أُوفَّق. لأن العقيدةَ الكاثوليكية المتوارثةَ فينا تجعلنا من ألدِّ الأعداء للمسلمين”(3).
ومن عجائبِ التوافقِ في أيام التاريخ، أن يكون هذا في ذكرى استشهاد البطل الإسلامي الكبير سليمان الحلبي (17 يونيو 1800م)، الذي قَتَل قائدَ الحملة الفرنسية الجنرال كليبر بسكينه، ثم حُكِم عليه بإحراق يده، وإعدامه بالخازوق، ليطولَ عذابُه قبل أن يموت. ولما مات أخذوا جثمانَه إلى فرنسا، وهناك نصبوه في متحف، ولا تزال جمجمته لديهم حتى الآن!
لكن جثمان سليمان الحلبي ظل منصوباً، حتى لقد رآه هناك أحمد شفيق باشا، المؤرخ المعروف الذي تولى رئاسة الديوان الخديوي زمن عباس حلمي الثاني، وذلك إبان بعثته إلى فرنسا كما سجَّل هذا في مذكراته، وكان بعض المسلمين يذهب فيصلي عليه صلاة الجنازة(4).
وقد انتبه أحمد شفيق إلى هذه العداوة المتأصلة للإسلام في فرنسا، مع أنه كان حينئذ طالباً مبتَعثاً خالي الذهن من هذا الشأن، وذلك حين حضر “محاضرةً في مدرسةِ العلوم السياسية عن سياسة فرنسا في الجزائر”، تناول فيها المحاضرُ السياسة الغربية في هذه البلاد وخططها ومشاريعها، ومما قاله: “إن فرنسا تلاقي عنتاً في اغتنام عطف العرب، لأنه يتعذر امتلاك قلوبهم، ما دام الإسلام ُيحول بينهم وبين الخضوع لأمةٍ نصرانية”، فكانت الفكرة المقصودة بهذه العبارة هي أن تُوجّهَ فرنسا جهودَها لإخمادِ حميةِ الإسلام في نفوس الشعب الجزائري، تمهيداً لاستعباده المطلق، وهذا ما تميزت به السياسةُ الفرنسيةُ في شمال إفريقيا”(5).
في الواقع، فإن قصة سليمان الحلبي، الذي تمرُّ بنا ذكراه، تختصر قصة المواجهة بين الأمة المسلمة وبين الغرب وفي قلبه فرنسا.. كيف هذا؟!
- مع أنه أُمْسِك بسليمان ومعه السلاح القاتل، إلا أنهم لم يقتلوه، بل نصبوا له محكمةً تسمعُ أقوالَه، وتُساءله وتسجل إجاباتِه! يبدو مظهراً حضارياً حقاً.. لكن هذا المظهر الحضاري ليس إلا غلافاً برّاقًا للجوهر الخبيث الذي عبَّر عن نفسه في الضرب الذي تعرض له المتهم حتى اعترف، ثم عبَّر عن نفسه في العقوبة الوحشية التي أُنْزِلت به، وعبَّر عن نفسه في قتل المشايخ الذين اتهمتهم الفرنسيون بأنهم عرفوا نيةَ سليمان ولم يُبَلِّغُوا عنه، وعبَّر عن نفسه في هياجِ الجنودِ الفرنساوية الذين اندفعوا في شوارع مصر يقتلون مَن قابَلهم -رجلاً أو طفلاً أو شيخاً- انتقاماً لمقتل قائدهم!
نعم، إن فرنسا أتقنت تغليفَ وحشيّتِها بغلافٍ من الشكل القانوني اللطيف، ثم تُسَمِّي هذا حضارة(6)! فهذا المظهرُ الحضاريُ الزائف، الذي يُغلِّف طغياناً وعتواً كبيراً، غرَّ بعض أبناءِ أمتِنا حتى نفروا من شريعتهم الغراء، وتعلَّقوا بهذا الطغيان المزخرف!
- قبل أن تَنخَر في عقولنا فكرةُ الوطنيةِ القُطرية الضيقة، كان الفتى الحلبي يرى نفسه مُكَلَّفًا بالدفاع عن المسلمين في مصر، وهو ابن حلب التي لم يقتحمها الجيش الفرنسي! فلو أنه كان في زماننا الآن لكان هو نفسه موصوفاً بالإرهاب، وموضوعاً تحت تصنيف “الجهادي العالمي” و”المقاتل الأجنبي” الذي تُعاقب عليه القوانين المحلية والدولية! وذلك أمرٌ صار يتقبله كثيرٌ من الناس، إذ يستغربون قتالَ الشاميّ في مصر، أو المصريّ في الشام!
إن البطولةَ التي يُمثِّلُها سليمانُ الحلبي ستظل دائماً مُلْهِمة، ستظل ذكرى تقاومُ زيف الأكذوبة الحضارية في الغرب، وتقاومُ انقسام الأمةِ وفقَ الحدودِ التي وضعها الأجانب!
(1) الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، (المنصورة: مكتبة الإيمان، د. ت)، ص117.
(2) جواهر لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز عتيق، (القاهرة: دار المعارف، 1958م)، ص26 وما بعدها.
(3) محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، (القاهرة: مطبعة المنار، 1931م)، 1/924، 925.
(4) أحمد شفيق، مذكراتي في نصف قرن، 1/312.
(5) المصدر السابق، 1/300.
(6) للأستاذ جلال كشك رحمه الله تعليق بديع على أجواء محاكمة سليمان الحلبي، في كتابه الرائع “ودخلت الخيل الأزهر”.