الهجرة سُنة نبوية وكونية
فبراير 7, 2024الوعد والأجل .. لماذا يتأخر تحقق الوعد الرباني؟
فبراير 7, 2024الحمد لله رب العالمين.. شرع لنا الدين القويم وهدانا الصراط المستقيم، وأتانا الكتاب المبين، وجعلنا من خيرة أمة أخرجت للعالمين، وأرسل إلينا خاتم الأنبياء والمرسلين، وخير البشر أجمعين، سيدنا محمد بن عبدالله.. النبي البسّام، والفيصل القسام، عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام.
قد تكون العلامة الفارقة والحادثة المفصلية في التاريخ شخصية أو رحلة أو فكرة، تلقي بظلالها على مر الزمان بعدها، فتجعل من المتأثرين بها دلائل على عمقها، واستمرارها بقصصهم، ومبادئهم وتجاربهم.
في ظلال الرحلة الأشهر والأهم والأطيب على مستوى تاريخ البشر، بطلها وفارسها أطهر وأصدق مَن خط على الثرى، أي في ظلال هجرة محمد ﷺ من مكة إلى المدينة، أو من ظلام الجاهلية الذي استعصى وتمنعّ أمام العقل والحوار والحجة والمنطق والدليل، إلى النموذج المشرق الذي يتغنى الزمان به في مدينة رسول الله ﷺ الفاضلة المنورة، في حمى تلك الظلال الوارفة التي لا سبيل إلى الهدى دون النزول بها، ولا قرار ولا استقرار للنفوس أو القلوب دون اللياذ إليها، ولا تمامَ لوعي ولا فهم دون قصدها..
فهي:
1) ذات المعنى السّامي. عدم الاستسلام لأرباب الظلام في ظل وجود أرض للنور، وعدم الانكفاء عن الإصلاح ما دامت الحاجة إليه، وبذل كل سبب، وصبر كل صبر، فكانت الهجرة من ظلام إلى نور، من جهل إلى علم، من أثرة إلى إيثار، من بهيمية إلى إنسانية، من غوغائية إلى نظام، من خوف إلى أمن، أمنٍ نفسي ومجتمعي وميداني، ومن قلق واضطراب إلى سلام وسكينة.
والأهم على الإطلاق: من القيد إلى الحرية، فقد كانت رسالة محمد ﷺ رسالة حرية كاملة، في النفس والسلوك الواقع، تحرر الإنسان من قيد الخرافة والاستعباد والشهوة، لتنطلق به في معارج روحٍ نفخها الله في آدم من روحه، حرية لا تقتصر على جنس، أو عرق أو طبقة أو مجال، كل من كان في صفها كان حراً، وكل من عاداها كان مقيداً مهما تكن دواعي عداوته.
ولأنها كذلك:
2) فقد حوربت بهمجية بلا هوادة ولا اعتبار لذمة أو عهد، حوربت في الفكرة والأشخاص والكلمة والعمل، فكان لابد من هجرة إلى واقع تتمكن فيه من إقامة نموذجها الناصع.
وبعد انتظار اللحظة المناسبة، وإعداد الرجال المناسبين لهذا الحدث الكبير، انطلقت الرحلة.. مع اتخاذ الأسباب المادية كافة لإنجاحها، حتى باستخدام الدليل المشرك، واتكالاً على الله سبحانه في أتم وأكمل ما يكون التوكل {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
وكان يلزم الرحلة صديق بحجم أبي بكر رضي الله عنه.. يحرسه من الجهات كافة، يسلمه زمام قلبه بعد أن وجد لديه كل ما يتمنى الإنسان في الأسوة القدوة، وأفلح مَن أمسى رفيق محمد ﷺ، وأصبحت كل تفصيلات الرحلة دروساً في التاريخ وعبراً للبشر.
نطاق أسماء، غار ثور، سراقة بن مالك، شاة أم معبد، فداء علي، عدوان أبي جهل على بيت الصديق.. وغيرها، رحلة مضطهد في وطنه: “والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.
3) ومثل تلك الرحلة صنعت التاريخ
تحدثت مئات المصنفات عنها ولا تزال أقصر من أن تحيط بكافة ما صنعت، أصبحت البرية تقول ما قبل البعثة وما بعدها، ما قبل الهجرة وما بعدها.
وأهم ما صنعته تلك الرحلة: الإنسان، الذي رضي أن يهجر النزاع مع أخيه الإنسان، ويتقاسم معه داره وماله، ويفديه بروحه.
صنعت الفتح الذي كان محتماً منذ بداية الرحلة، لأن الهجرة تبني بنيانها، والباطل يهدم عروشه بُحمقه، {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا}. ولسان الحال:
فلولا مبعث المختار كنا عبيداً في سلاسل من غزانا
فصلى الله رب العرش دوماً على الحر الذي أحيا الزمانَ
4) وبفطنة وبصيرة محمد ﷺ.. قرر للمسلمين في زمانه ومن بعدهم، أن الهجرة ليست بشكلها، فيوم الفتح قال: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية”. لتستمر الهجرة حيثما ووقتما تطلب الأمر، ولكن بالجهاد والنية.
ولذلك، يحرص أتباع محمد ﷺ الأحرار على الهجرة بمعناها السامي، فيجاهدون في كل مجال وبكل وسيلة أعداء الحرية المنتشرين في بقاع العالم، الأعداء هم ذاتهم أولئك الجاهليون، بذات أساليبهم وأهدافهم، لا يدخرون وُسعاً في شتم وهجاء النبي ﷺ في كل فترة ملؤهم الغيظ، وقد ترك لهم الرسول ﷺ أحراراً يواجهونهم ويرفضون الاستكانة ولو جارت عليهم الدنيا، لتبقى القاعدة الثابتة حاضرة في هذا الصراع الممتد منذ بداية رحلة الهجرة حتى اليوم:
{إلا تنصروه فقد نصره الله}.
في بيت المقدس وأكنافه مهاجرون، هجرواً فتناً ومغريات ولو كانت جذابة، لكنها في حقيقتها قيود، واختاروا رحلة الحرية بأسباب مادية وبتوكل على الله: إن الله معنا، ولو قست عليهم الظروف، لكنهم في سكينة وطمأنينة أنهم على حق سينتصر، وفي هجرة ستثمر، وعدوهم مدجج بكل أحقاد وغايات الجاهلية، وهو في اضطراب وأفول، اخترنا نصرة النبي ﷺ بهجرةٍ من تفصيلِه وهديهِ، لعل الله عز وجل يكرمنا بفتح ونصر من توفيقه وتمكينه.