لك الله يا رسول الله!
فبراير 6, 2024لا هجرة بغير تضحية
فبراير 7, 2024هكذا كان الاستفهام المحوري، في استجلاء النصرة للنبي ﷺ من أتباعه، فتنادت أرواح المؤمنين المحبين لتُبايع رسولَ الله ﷺ، ولتشكل جنداً يحمل مِشْعَل النور لينصر نبيَّ النور والهدى، فتحولت قلوبُ تلك الفئة المستجيبة لأمر الله القدري والشرعي لتكون الطائفةَ الناصرةَ والمنصورةَ ومن اتَّبَعها إلى قيام الساعة.
وكانت جميعُها من المهاجرين الذين تركوا أرضهم وسماءهم وأموالهم وأبناءهم، فرَبِحَ البيعُ، وجاءت البشائر تَطُلُ من وراء سُجُف الغيب، بطابعِ الصدق، الذي كان علامةً مميّزةً لطائفةِ المهاجرين الأبرار، والمحبة والإيثار والنصرة، للخِيَرة من الأنصار، وكلهم أنصار، قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 8-9].
بل تَنزّل الرضى الذي يَشدُوه كل مؤمن على ظهر هذه البسيطة، من ربه ليناله عذباً زُلالاً لا سخط بعده: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
وكيف لا يحمل وسام الشرف والرضى مَن جعل رُوحه على كفه يبتغي بها الموت مظانَّه، لينصرَ هُدَى اللهِ الذي جاء لعباده، ويكون سهماً يُرمى بها في نحور أعداء نبيه ﷺ.
وقِفْ معي – رعاك الله – عند صهيب الرومي، وهو يلملم أطراف قلبه ينتزعه من أرضٍ نِيطَت بها عليه تمائمه، ومس جلده ترابها، فها هو خارج من مكة مهاجراً ومناصراً، فيلحقه القوم البغاة الأشقياء ليَرُدوه ليرْدُوه، فيخاطبهم في عزةِ المهاجر لله ورسوله، الواثقِ من نصرة الله لنبيه وأنصار دينه، كما يحكي عن نفسه فيقول:
لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي ﷺ قالت لي قريشٌ: يا صهيب، قدِمتَ إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدًا. فقلت: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي، تخلّون عني؟ قالوا: نعم. فدفعتُ إليهم مالي، فَخَلَّوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: “ربح صهيبٌ، ربح صهيبٌ”. مرتين(1).
وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207].
وهذا نموذج آخر من طائفة الأنصار، الذين نصروا النبي المختار، فصار حبهم من الإيمان، وبغضهم من الفسوق والعصيان، ألا وهو الشاعر الأريب عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. والذي ما فتئت نبالُ شِعْرِه تمزّقُ نياطَ أفئدةِ الشرك وأهلِه.
يقول رضي الله عنه ليلةَ العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال ﷺ: “أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم”. قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: “الجنة”. قالوا: ربح البيع، ولا نَقِيلُ ولا نَستَقِيلُ(2).
لم تقتصر تلك النصرة على الرجال، بل خالطت قلوبَ رباتِ الحجال، فصنعت من تلك القوارير، جلاميد صماء، تقصم ظهور الصناديد، من أهل الكفر والطغيان. لقد جالدت نُسَيبةُ بنت كعبٍ رضي الله عنها، فأبلت بلاءً حسناً، ونافحت عن سيد الخلق، فكانت مثالاً لبنات الإسلام.
قال محمد بن عمر: شَهِدَتْ أمُّ عمارة بنت كعب أُحداً، مع زوجها غزية بن عمرو وابنيها، وخرجت معهم بِشَنٍّ لها في أول النهار تريد أن تَسقي الجرحى، فقاتلت يومئذٍ وأبْلَت بلاءً حسناً، وجُرِحَتْ اثني عشر جُرحاً بين طعنةٍ برمحٍ أو ضربةٍ بسيف، فكانت أمُّ سعيد بنت سعد بن ربيع تقول: دخلتُ عليها فقلت حدثيني خَبَركِ يومِ أُحدٍ. قالت: خرجتُ أولَّ النهارِ إلى أحدٍ، وأنا أنظر ما يصنعُ الناس، ومعي سقاءٌ فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول الله، وهو في أصحابه، والدَّولةُ والريحُ للمسلمين، فلما انهزم المسلمون، انحزتُ إلى رسول الله، فجعلتُ أباشرُ القتالَ، وأذُّبَ عن رسول الله بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى خَلُصَتْ إليَّ الجِراح.
قالت: فرأيتُ على عاتقها جُرحاً له غورٌ أجوف، فقلت: يا أمَّ عمارة مَن أصابك هذا؟ قالت: أقبل ابْنُ قَمِيئَة، وقد ولىَّ الناس عن رسول الله، يصيح: دلُّوني على محمدٍ فلا نجوت إن نجا، فاعترض له مصعبُ بن عميرٍ، وناسٌ معه، فكنتُ فيهم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربتُه على ذلك ضرباتٍ، ولكن عدوَّ الله كان عليه درعان” (3).
وإن أنسى، فلن أنسى صغاراً في إهاب الكبار، حيث صنعوا المجد من أطرافه، وساسوا العالم، فانتزعوا منه عصيانَه وتمَرَّدَه، وأَدخلوا في قلبه ديناً يمشي أصحابه على ظهر الأرض، كأنهم ملائكٌة في طُهرهم، وأشاوسُ مجدٍ وحضارةٍ في سرهم وجهرهم.
فهذا ابن عمرُ رضي الله عنهما، يحكي لنا فيقول: عُرضت على رسول الله ﷺ في جيش، وأنا ابن أربع عشرة فلم يقبلني، فعُرضْتُ عليه في قابل، وأنا ابن خمس عشرة فقبلني.
ما الذي دفع هذا الصغيرَ ليَعرِضَ نفسه على السيف، وهو يطاول الكبارَ، كان له مندوحةً في اللعب واللهو مع أترابه؟
وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسامُ
أقول وأنا أتنفس الصعداء، شتان بين مَن خُلق للنزال والحروب، ومن صُنع للقصعة والثريد، شتان بين مَن يحملُ الرسالة الخالدة، ومن همُّه الأموال الطارفة والتالدة، إنها النصرة أيها السادة، التي تَرَبى عليها فتيانُ الإسلام، وغير هذا السَّمَيدع من الفتيان كثيرٌ، منهم أبو سعيد الخدري، وخبر موقفه يومَ أُحد وهو صبي صغير، مشهورٌ غير مغمور.
بل تزدادُ دهشةً حينما تعلمُ أن امرأةً ماجدةَ الأعراقِ، دفعت إلى ابنها يوم أُحد السيف، فلم يُطِق حملَه، فَشَدَّتْهُ على ساعده بنسعةٍ، ثم أتت به النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، هذا ابني يقاتل عنك، فقال النبي ﷺ: “أي بُنيَّ احمل هاهنا، أي بني احمل هاهنا”. فأصابتْه جِراحةٌ فَصُرِع، فأتى النبي ﷺ فقال: “أي بُنيَّ لعلك جَزِعتَ؟”. فقال: لا يا رسول الله…
يا لها من مواقف، تذوبُ أمامها الجبال الشُم، وتَجْبُنُ في ساحها الأسود الغطارفة الشداد.
وقف معي متعجباً – في ساح الوغى والموت الزؤام يزحف كأنهم ينظرون إليه – من طفلٍ يتوارى خشية أن يُرد، فيا سبحان الله، فهذا عمير بن أبي وقاص لما سار رسول الله ﷺ إلى بدر، وعُرض عليه جيشُ بدرٍ، رد عميرَ بن أبي وقاص، فبكى عمير فأجازه، فعقد عليه حمائل سيفه، ولقد كان عمير يتوارى، حتى لا يراه رسول الله ﷺ، فقال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يَعرِضَنا رسول الله ﷺ يوم بدرٍ يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله ﷺ فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج، لعل الله أن يرزقني الشهادة. وقد استُشهد بالفعل.
وقِفْ معي متأملاً، بين موقفين: طفل يتوارى خشية أن يُرَدّ، ومنافق يتسلل لواذاً، وقد ملأ الحقد قلبه على سيد المرسلين، ودين الله المبين.
فاللهم ثبِّت قلوبَنا على دينك، وانصرنا على عدونا وعدوِّك، واجعلنا من أنصار نبيك سيد الأولين والآخرين.
ولقد صدق (إقبال) حينما قال:
كنّا جبالاً فوق الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتحُ الأمصارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعوا جهاراً لا إله سوى الذي صنع الوجود وقدر الأقدارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
فيا معشر أهل الإسلام، ويا مَن أحب نبي خير الأنام، ألا تسمعون النداء لا يزال صداه يتجلل في أذن الدهر، فيسمعه الأصم، ويبصر آثارَ مجدِهِ الأعمى.
إن (مَن أنصاري إلى الله) هي التي صنعت أبا بكرٍ، فصار مُعَلِّمَ الصدقِ، وعمر فأصبح منار العدل، وعثمان فسقى الحياءُ مُحَيّاه أبدَ العصر، وعليّاً فما زالت شجاعته مَضْربَ المثلِ في كل برٍ وبحرٍ، وصَنَعتْ بقيةَ العشرةِ المبشرين، وصَقُلَت أفئدةَ الأنصارِ والمهاجرين، وازدان بها كل مسلم اعتصم بالنصرة لنبي الإسلام ﷺ في كل عصر ومصر.
لئن قال الحواريون لعيسى عليه السلام: نحن أنصار الله، فإن أمة محمد ﷺ في طول الأرض وعرضها أنجبت أنصارَ صدقٍ، يَصدَقُون في اللقاء، ويُوَفُّون في الرخاء، فلا يَسُبُّ أحدٌ نبيَّهم، أو ينتقصُ من علوِّ رفعته، إلا طاروا كالصقور يجؤون عنق كل باغٍ، ويهدمون مناة وعزى كل طاغية، ويقاطعون من أجل نبيهم ما تُصَدِّرَهُ دول البغي والعهر والعداء، نصرةً لنبيهمً وحسبةً لجلال ربهم.
إنها النصرة التي تحتاج منا الغالي والنفيس، وتطالبنا أن نمشي في كل سرية وخميس، إنها النصرة التي تنادينا صباح مساء، أن بَرْهِنُوا على إيمانكم، وجدِّدُوا للعهد قسيا، تمحو الباطل وتقصيه، وتنصر الحق وتدنيه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: 14].
فأبشروا بنصر الله لكل من نصر اللهَ ورسولَه، وليسعدَ كلُ موحدٍ بفتح الله القريب، ونصره المبين: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 13] ﴿إلا تنصروه فقد نصره الله﴾ [التوبة: 40]
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
(1) رواه ابن مردويه.
(2) أبو نعيم، كنز العمال، 1525، وللحديث شواهد كثيرة قد يتقوَّى بها.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 8/413