
20 دليلا على نبوة محمد بن عبد الله ﷺ.. شهادات العلماء والرُّهبان والمثقفين عبر العصور (2/2)
أبريل 21, 2025
يوم تاريخي في ديار بكر: الآلاف يحيون ذكرى المولد النبوي الشريف
أبريل 23, 2025د. إسماعيل محمد رفعت-من علماء الأزهر الشريف
استعرضنا في المقال السابق مغالطة الإعلام في تقديم العظماء كعماليق، مما يختصر صورتهم في المخيلة باعتبارهم أصحاب قدرات بدنية خارقة لا يمكن السير على طريقتهم، ويترسخ ذلك في ذهن الناشئة الذين اعتادوا مشاهدة (الدراما) التي في الأصل يجب أن تكون هادفة، والخوارق الجسدية لم تتوفر حتى للنبي ﷺ! وليس بالضرورة أن يكون البطل عملاقاً، وإن كانت بسطة الجسم لها مزية كما جاء في حق طالوت -أول ملوك بني إسرائيل- قول الله تعالى: ﴿… إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةً فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ﴾ [البقرة: 247].
وفي هذه المقالة نتعرض لذكر أبطال عانوا من مشاكل صحية، وكان لهم ارتباط تاريخي بقضايا الأمة المصيرية منهم:
نور الدين زنكي (511- 569هـ)
وهو سادس الراشدين باعتبار تحريه تحقيق العدل والزهد، كان يعاني من مرض الخانوق (التهاب الحلق الحاد)، وكان أستاذاً لصلاح الدين الأيوبي وممهدًا له، وأعد منبر القدس ليوم الفتح!
صلاح الدين الأيوبي (532- 589هـ)
أحد أعظم القادة في التاريخ كله، عُرف بإنجازاته الكبيرة في توحيد مصر والشام واليمن، ومقاومة الحملات الصليبية حتى استعاد القدس، وكان لديه مشاكل صحية لم تمنعه من متابعة مهامه الجسام، كان يعاني من تقوس في الساقين بسبب كثرة ركوبه الخيل لمسافات طويلة، فكان لا يحسن المشي إذا ارتجل، يسافر بحامية صغيرة ليسهل عليه التخفي لمروره بقلاع الصليبيين المحتلة للكرك وبيت المقدس وطبرية وأنطاكية وطرابلس والرُّهَا المعروفة اليوم بـ «أورفا» ويسافر من القاهرة إلى ديار بكر في تركيا عبر جبال لبنان الثلجية الوعرة ثم يعود إلى الموصل، وعانى من حمى متكررة سببت له تدهورًا عامًا في صحته، ولم ينم تحت سقف يملكه طيلة حياته، لم يكن يجلس في القصور، بل كان دائم الحركة مع جيوشه، ومات ولم يمتلك بيتاً لنفسه ولا لأولاده، كفنه القاضي الفاضل عبدالرحيم البيساني (526- 596هـ) على نفقته الخاصة، وتُوفي بالحمى.
وبالإضافة إلى المرض الجسدي، كان يواجه تحديات كبيرة بسبب الحروب المستمرة، على أصعدة مختلفة، وكان يكره منظر الدم ويجنب أولاده رؤيته حتى لو دجاجة مذبوحة، حفظ القرآن الكريم واهتم بالحديث وقيل إنه حفظ الصحيحين وتفقه على المذهب الشافعي.
ورغم معاناته استمر في قيادة جيشه وحافظ على عزيمته وقوة إرادته فلم تتأثر إنجازاته بأمراضه، بل كان سر قوته في إرادته وإيمانه وحكمته في تأسيس وتوحيد دولة استردت القدس وطردت الصليبيين من المشرق، فلم يكن فارسًا استثنائيًا، ولا أفضل الفرسان مهارة في القتال الفردي، لكنه كان قائدًا استراتيجيًا بارعًا، واعتمد على التخطيط العسكري أكثر من القوة البدنية المباشرة، وعلى عكس الصورة النمطية التي ترسم القادة العسكريين بأنهم يتمتعون بجسد مثالي، كان صلاح الدين محبوبًا ومهابًا رغم علته الجسدية، فلم يُعرف عنه أنه كان ضعيفًا أو مترددًا، بل كان ذو إرادة صلبة وعقل استراتيجي حاد، ولم يكن خارق البنية الجسدية، لكنه أثبت أن العظمة لا تُقاس بالقوة الجسدية، واستعاد القدس في معركة حطين سنة 583هـ.
وعقد للحديث مجالس في المعارك، ولم يتفق هذا لأحد قبله! وليس لملك رحلة في طلب العلم، إلا لـ «هارون الرشيد» (149- 193هـ) فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطّأ على الإمام مالك (93- 179هـ) ثم رحل لسماع الحديث السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى الإسكندريّة، سنة 577هـ هو وأولاده وكبار رجال دولته فسمعوا الموطأ على أبي الطاهر بن عوف إسماعيل بن مكي (485- 581هـ) وليس لهما في ذلك ثالث!
قال له المنجمون: تفتح القدس وتذهب عينك! فقال: أفتحها وأعمى! ففتحها وأقر الله عينه! وكان له النصر المبين يوم حطين (583هـ) ولم تقتصر عظمة صلاح الدين على إنجاز هذا النصر العظيم، بل في جهاد (سنين) لتنفيذ خطة توحيد مصر والشام التي أُطلق عليها عسكرياً خطة الكماشة التي كانت أهم تمهيد تحررت بعده فلسطين!()
الظاهر بيبرس (620-676 هـ)
تذكر المصادر التاريخية أن إحدى عينيه كانت مصابة أو عوراء() وأيما كانت الإصابة كبيرة إلى حد العور أو مجرد نقطة بيضاء في عينه، فمع ذلك كان «بيبرس» أحد أعظم السلاطين، وقاد المعارك ضد المغول والصليبيين، وهو شاب قاد الهجوم المعاكس في معركة المنصورة ضد الصليبيين في (رمضان 647هـ/ فبراير 1249م) وتسبب بنكبتهم الكبرى في المنصورة، ووقع فيها الملك الفرنسي لويس التاسع أسيرًا في قبضة المسلمين، وحُبس في دار ابن لقمان، وكان انكسارهم هذا بمثابة البداية التي توالت بعدها الهزائم عليهم حتى حُرر كامل الشام من الحكم الصليبي، وشارك في معركة عين جالوت (25 رمضان 658هـ/ 3 سبتمبر 1260م) هي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي؛ إذ استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول.
وفي تاريخنا المعاصر
الشيخ الأزهري القعيد أحمد ياسين (9 ربيع الثاني 1355- 1 صفر 1425هـ)
في السادسة عشرة من عمره وإثر مصارعة ودية بينه وبين أحد زملائه عام 1371هـ أصيب الشيخ بكسر في فقرات العنق، اتضح بعدها أنه مصاب بشلل رباعي، ولم يخبر أحداً بسبب الإصابة؛ خوفاً من حدوث مشاكل عائلية بين أسرته وأسرة رفيقه، ولم يكشف عن ذلك إلا عام 1409هـ، ونتيجة لذلك كان لا يقدر على تحريك الأشياء إلا بلسانه فقط!
وبعد إصابته بالشلل كرَّس الشيخ «أحمد ياسين» شبابه لطلب العلم الشرعي، فالتحق بجامعة الأزهر في القاهرة، ولم يثنِه الشلل عن مواصلة تعليمه، ثم عمل مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية.
وبالإضافة إلى الشلل التام فعلى إثر ضرب المخابرات الإسرائيلية له أثناء التحقيق معه، فقدَ البصر بالعين اليمنى وضعفت عن الإبصار عينه اليسرى ضعفاً شديداً، وعانى من التهاب مزمن بالأذن وحساسية في الرئتين وبعض الأمراض والالتهابات المعوية الأخرى، وأدى سوء ظروف اعتقاله وعدم توفر رعاية طبية ملائمة له إلى تدهور حالته الصحية.
لكنه في عمله المدرسي كان يتأخّر مع بعض الطلاب بُعيد انقضاء الدراسة، يعلّمهم الصلاة والآداب، وتلاوة القرآن ويتدرّج بهم، حتى عوّدهم صيام النوافل، وكان الناس في بُعدٍ عن الدين، فكان أهالي الأطفال يأتون إلى المدرسة محتجّين! وكان يطوف المدن والقرى الفلسطينية رغم شلله، ولم يكن للشيخ كرسي متحرك فكان يحمله على يديه تلميذه الدكتور المحدث الشيخ الشهيد «نزار ريان» وكان البعض يظنّ أنهما يتسوّلان! وهذا جانب من تاريخ مرضه وضعف بنيته، أما آثار جهاده فلا زالت تطالعكم بها الأخبار صباح مساء!
يحيى إبراهيم السنوار (1382- 1446هـ)
في المقال السابق ذكرنا مشهد أبي إبراهيم، ونحول جسمه ووجه الباسم يلتحف بغطاء رث، ويتوكأ على عصا، ونعود إليه وهو في صدر شبابه، ففي عام 1989م، أصدرت عليه محكمة عسكرية إسرائيلية في غزة حُكمًا بالسّجن مدى الحياة أربع مرات، إضافة إلى 25 عامًا أخرى، بعد إدانته بقتل أربعة فلسطينيين اتُّهموا بالتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، قضى السنوار 22 عامًا في السِّجن قبل أن يُفرَج عنه في عملية تبادل أسرى عام 2011م، تضمّنت إطلاق سراح 1027 أسيرًا فلسطينيًا مقابل الجندي «جلعاد شاليط».
كان «السنوار» خلال سنوات سجنه يتابع الإعلام العبري بانتظام، واطلع على العديد من الدراسات العبرية التي تناولت الوضع الداخلي للكيان الغاصب، وتجلّى ذلك في أسلوب تعامله مع الاحتلال، حيث أمضى وقتاً طويلاً في الحديث مع الإسرائيليين وتعلم ثقافتهم، ووَفقًا لمسؤول سابق في خدمة السجون الإسرائيلية، كان «السنوار» مُدمنًا على القنوات الإسرائيلية.
في ديسمبر 2004، نُشِر للسنوار وهو سجين رواية بعنوان «الشوك والقرنفل» تناول فيها الواقع الفلسطيني من نكسة 1967م حتى بداية الانتفاضة الثانية عام 2000م، كتبها ونشرت له أيام اعتقاله!
ولا يخفى استشهاده وهو قائد ميداني في يوم الأربعاء (13 ربيع الثاني 1446هـ/ 16 أكتوبر من عام 2024) وتعليقاً على الفيديو الذي نشره العدو لاستشهاده قيل: لو استأجر «السنوار» أكبر مخرجي (هوليوود) لدحر ادعاءات أعدائه عليه؛ لما نجح كنجاح هذا المشهد في إبراز الصمود والتحدي والنضال الذي كان عليه الرجل حتى لحظة استشهاده!
الشيخ المحدث أبو إسحاق الحويني (1375- 1446هـ) تُوفي يوم الاثنين 17 رمضان، بعد صبر أكثر من سبع عشرة سنة على أمراض وأوجاع شتى، كبتر ساق وفشل كلوي وكبد وقلب واعتلال أعصاب وأورام وغيرها مما لا يعمله إلا الله، ومع كل هذا لم يتخلف عن إيضاح الحق في أمر المسلمين، كان مفهوم العبادة عنده يستغرق كل مظاهر الحياة، يقول: “لا يحرك المرء قدمه ولا يضعها حتى يعلم أللهِ فيها حكم أم لا؟!” وبالنظر إلى حالته فهو ليس معذوراً بعذر واحد فقط إنما اجتمعت له المُقعِدات: شيخوخة وعائلة -عائلته من الدرجة الأولى بالعشرات- مريض بأمراض كثيرة، ومبتلى باعتقال ولده، وليس عليه حرج لو صمَت ﴿لَيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [الفتح: 17].
لكن خرج الرجل بعلّته يجرجر إلى دار غربته مشاريع حياته، وهو العالم المتفرد في علمه، ولمن لا يعرف فإن أكثر أثقال العالم هي أوراقه وكتبه، التي ألِفها وألِفته، سجل عليها تعليقاته وملاحظاته، ومهما أُبدل بغيرها فأنفَسها عنده تلك العتيقة التي عليها خطه ورسمه!
لم يرضَ «أبو إسحاق» لنفسه أن يسكت فيكون بصمته مطيةَ سوءٍ للظلم على حساب أمته ودينه برغم تملق السلطة له! مات أبو إسحاق ولديه آلاف المواد الصوتية والمرئية، وله قرابة ستين كتاب بين تحقيق وتأليف، وله مواقف لو كان ابن تيمية (728هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ بحالته الصحية والعائلية لترددنا في كيف يكون تصرفه حيالها؟! فابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ من العلماء العزاب لا زوجة ولا ولد، وكانت له قدرة على القتال جنباً إلى جنب الجنود المحترفين، أما أبو إسحاق فالقوة قوة قلب وإيمان وليست قوة جسد رَحِمَهُ اللَّهُ!
شخصيات غير إسلامية
وفي الثقافة الغربية نماذج جيدة للاستشهاد بها في تحدي الصعاب، نذكر منهم:
توماس شتروبل: Thomas Strobl (مواليد يوم 17 مارس 1960م) يشغل منصب وزير مالية لولاية بادن-فورتمبيرغ في ألمانيا، معاق حركياً، وواصل مسيرته السياسية بفعالية.
هوريشيو نيلسون: Horatio Nelson (1758-1805م) فقد إحدى عينيه وذراعه اليمنى، ويُعد من أعظم القادة البحريين في بريطانيا، وانتصر في معركة «الطرف الأغر» على الأسطول الإسباني.
وكتب حوله الكاتب «جون سوغدين» كتابه: «نيلسون: حلم المجد» 1758-1797م.
ستيفن ويليام هوكينج: Stephen William Hawking(1942- 2018م) من أكسفورد، إنجلترا وهو من أبرز علماء الفيزياء النظرية في العالم، لما بلغ عمره 21 أصيب بمرض التصلب الجانبي الضموري (ALS) الذي سبب له شللاً تدريجياً، وفقَدَ القدرة على الحركة والكلام، لكنه قدّم إسهامات رائدة في الفيزياء النظرية.
فرانكلين روزفلت (1882- 1945م) أصيب بشلل عام 1921م وفقد القدرة على المشي، ثم أصبح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية رقم 32، وقاد أمريكا خلال الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية.
أبراهام لينكولن (1809- 1865م) في التاسعة من عمره ركله حصان في رأسه وقُطعت يده بفأس، وتعرض لعضة صقيع من قدميه، وضرب بالهراوات على رأسه في عملية سطو، وأصيب بالملاريا وبالجدري، أما صحته العقلية: فقد كان يعاني من الاكتئاب السريري، وخشي عليه من الانتحار، وشهد وفاة العديد من المقربين، منهم والدته وأخته واثنان من أبنائه، لكنه كافح مزاجه الكئيب، وانتهى دوره كرئيس لأمريكا وحقق إلغاء العبودية!
وختاماً فإن الشخصيات التي استشهدنا بها في هاذين المقالين تبرز أن العظمة لا تتعلق بالقوة الجسدية أكثر من الإرادة، والعزم، وتوظيف المتاح، والتفوق يكمن في العمل الجاد، والحكمة في التعامل مع الصعاب، وما جعل من هذه النماذج عظماء هي قدرتهم على التغلب على صعوبات الحياة، سواء كانت جسدية أو نفسية، فالعظمة هي مزيج من الإرادة والعقل، والإيمان، والقدرة على تحمل المشاق ومواجهة الظروف الصعبة، وسبب ذلك كله عند المسلمين هو اتباعهم الوحي الشريف الذي علمنا أن الحياة في الاستجابة لله والرسول ﷺ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ﴾ [الأنفال: 24].