
مؤتمر اتحاد علماء أفريقيا: حدث علمي ودعوي استثنائي.
أبريل 26, 2025
غينيا بيساو تشهد وقفة احتجاجية دعمًا لفلسطين بتنظيم سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
أبريل 27, 2025أحمد حسن الزيات
رحمه الله*
مضى ربيع القلوب كما يمضي نيسان ربيع الطبيعة. وإذا كان نيسان يخلف من ورائه في الأرض الخصب والنماء والكلأ والنضارة، فيرتع في خيره الإنسان والحيوان سائر العام كله، فهل يعيش المسلمون بعد رمضان على زاد من تقواه وعدة من قواه وذخيرة من بره تعصمهم من نزوات النفس وشهوات الجسد بقية عامهم إلى أن يعود؟
المفهوم من حكمة الصوم في شريعة الله أن يكون هذا، ولكن الواقع أن رمضان كان في حياة أكثر الناس ثلاثين عيداً تبتدي بليلة الهلال وتنتهي بيوم الفطر، تمتعوا فيها بملذات الحس ومسرات النفس، فتفننوا في الطعام والشراب، وتدفقوا في اللهو والأُنس، حتى إذا خرجوا منه إلى شوال خرجوا من الواحة إلى الصحراء، ومن الهداية إلى التيه، لا يملكون الزاد الذي يبلغهم الأمن، ولا يجدون الدليل الذي يجنبهم الضلال.
لذلك كان المسلمون في توديع رمضان جد مختلفين:
فمنهم المتقون والقرويون والذين لم تقسُ قلوبهم على جفاف المادية وكلِب العيش، وهؤلاء يودعونه وعلى وجوههم غشاوة من الأسى، على بركات تريد أن تنقضي، وخيرات توشك أن تنقطع، كأنما يعتقدون أن باب السماء في غيره مغلق، وأن وجه الأرض من بعد ربيعه جديب، فإذا بدأ الربع الأخير منه ظهر الحزن عليه صادقاً في الوجوه ناطقاً على الأفواه؛ إذ يتمثلونه محتضراً يقاسي غصص الموت، فيتفجع عليه الصائمون في البيوت، والمصلون في المساجد، والمؤذنون فوق المآذن، والمسحرون على الأبواب، وكلهم يقولون سراً وجهراً: لا أوحش الله منك يا شهر البر والذكر والفكر والرجاء.
ومنهم الـخُلعاء والـمُجان والذين في قلوبهم مرض وفي إيمانهم ضعف. وهؤلاء يودعون في رمضان قيداً ثقيلاً غلّهم عن الشهوات الخسيسة، فهم يفرحون لوداعه فرح السجين إذا أُطلق والمحروم إذا نال، ومن هؤلاء أكثر الشعراء، وتمردهم على رمضان معروف، وابتهاجهم بشوال مأثور، فمن قول الفرزدق :
فإن شال شوال نشل في أكفنا ** كؤوساً تعادي العقل حين تسالمه
إلى قول ابن المعتز :
أهلاً بفطر قد أتاك هلاله ** فالآن فاغدُ إلى الـمُدام وبكّرِ
إلى قول شوقي :
رمضان ولّى، هاتِها يا ساقي ** مشتاقةٌ تسعى إلى مشتاقِ
ولا أحب أن أخوض في حماقات هؤلاء المجان فإنهم ليسوا من رمضان ولا من أهله، إنما أسوق حديثي إليكم أيها الذين صاموه بالتقوى، وقاموه بالإخلاص، وودعوه بالحسرات، وشيعوه بالدموع، وأبدؤه بهذه الأسئلة:
هل أنتم يوم ودعتموه خير منكم يوم استقبلتموه؟
هل تشعرون بعد أن أديتم فريضة هذا الركن الشديد من أركان الإسلام أن نفوسكم أصبحت أطهر، وأن أخلاقكم صارت أكرم، وأن أهواءكم غدت أرفع؟
وهل تحسون أثر أولئك كله في دنياكم الخاصة والعامة، فأنتم اليوم أشد قرباً من الله وأوثق صلة بالناس وأطيب نفساً بالحياة؟
اسألوا أنفسكم هذه الأسئلة ثم أجيبوا عنها، وأنا واثق من أن أجوبتكم ستكون بالإيجاب وإلا لما حزنتم على انقضاء رمضان، وأسفتم لانقطاع الخير فيه، فإن المرء لا يحزن إلا على عزيز، ولا يأسف إلا على نافع.
فلماذا إذن لا تجعلون سائر الأشهر كشهر رمضان؟ لماذا لا تستمرون في الصيام عن ظاهر الإثم وباطنه فتغلوا أيديكم عن الأذى، وتصونوا ألسنتكم عن الكذب، وتطهروا أفئدتكم من الفحش، وتنزهوا مكاسبكم عن الحرام، وتبرئوا أعمالكم من الغش، وقد جربتم ذلك في رمضان فنفعت التجربة وحسُنت العاقبة؟
لماذا لا تضيقون الكلفة في القهوة لتوسعوا النفقة في البيت؟ وتقتصدون قليلاً في الأنس بالأصدقاء، لتوفروا كثيراً من الأنس بالأسرة وقد فعلتم ذلك في رمضان فاعتدلت الحال وطابت المعيشة؟
هذا السكير الذي استطاع أن يهجر الخمر ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة، فزكا قلبه، وامتلا جيبه، وصح بدنه، لماذا لا يواصل العيش بعد رمضان على هذا المنهاج، وقد علم بالاختبار أن هذا الهجر قد نفعه ولم يضره، وتيسر له ولم يتعسر عليه؟
وهذا المدخن الذي ترك التدخين ثلاثين يوماً فأراح صدره، وسكن أعصابه، وقوّى شهيته، لماذا لا يستمر صائماً عنه ليله ونهاره، وقد رأى أن في طاقته الاستغناء عنه والحياة بدونه؟
وهذا القوي الذي كان وهو صائم يمر باللغو كريماً، فيقابل الذنب بالمغفرة، والسيئة بالحسنة، والقطيعة بالصلة، فوصل السلام بين قلبه والأمن، وقرب الوئام بين نفسه والسعادة، لماذا لا يحرص على هذا الخلق وهو مفطر بعد ما جنى من خيره في أربعة أسابيع ما لم يجنِه من غيره في العام كله؟
وهذا التاجر الذي راضه الصوم على أن يقف نفسه عند حدود الله في التجارة، فلم يطفف الكيل ولم يخسر الميزان ولم يقارف الاحتكار ولم يغش البضاعة ولم يرفع السعر، ثم تحقق من جدوى ذلك عليه في رضا ربه وراحة ضميره ومصلحة وطنه، لماذا لا يلزم نفسه ذلك في كل وقت بعد أن استمرأ طعم الحلال وأدرك لذة الحق؟
وهذا الغني الذي ذاق في رمضان ألم الجوع، وكابد مشقة الحرمان، ثم استطاع بالصدقة أن يخفف عناء الفقر عن فقير، ويدفع شر الحاجة عن محتاج، لماذا لا يشعر دائماً أن الجوع بعد رمضان باقٍ، وأن العِوز في أكثر الناس قائم، وأن للسائل والمحروم حقاً لا يتقيد أداؤه بيوم، ولا يتخصص قضاؤه بصوم؟
وهذا الموظف الذي عوّد أنامله طوال رمضان أن تساقط حبات المسبحة ليسبح، وأن تبسط سجادة الصلاة في أوقاتها ليصلي، فنسي أن يمد عينيه إلى جيب المواطن ليرتشي أو يديه إلى خزانة الدولة ليختلس، وذكر أنه إنسان كمله الله بالعقل وجمّله بالخُلق وهذّبه بالضمير، لمَ لا يذكر في شوال أن أنامله التي تمسك القلم وهو مفطر كانت تمسك المسبحة وهو صائم، وأن ربه الذي كان يخشاه في رمضان لا تأخذه سِنة ولا نوم في سائر الأشهر؟
إن رمضان سَنة لا شهر، وذخيرة لا نفقة، ومصحة لا ملهى، ورياضة لا متاع، نروّض فيه أنفسنا على الخير لتمرن عليه، و نعالجها به من الشر لتبرأ منه، وليس الغرض من علاج النفس والجسم فيه أن ينقضي أثره الطيب بانقضائه، فإن ذلك يخالف حِكمة الشارع من الصوم، ويناقض منطق الأشياء في الواقع؛ فإن المريض الذي يطلب العافية في مدينة من مدن المياه الطبية لا يطلبها للمدة التي يقضيها في المصحة، وإنما يطلبها لتكون عماداً قوياً لما وهن من جسمه، وزادا صحياً لما بقي من عمره، وما أبعدَ المسلم عن الإسلام إذا اعتقد أن الصلاة لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر إلا وهو في المسجد، وأن الصوم لا يعصمه من اللغو والأذى إلا وهو في رمضان، وأن الصدقة لا تطهره ولا تزكيه إلا وهو في العيد!
خذوا إذن من ربيع القلب ما تأخذه الأرض من ربيع الطبيعة.. خذوا لعبوس حياتكم من طلاقته، ولسموم طبيعتكم من طراءته، ولجدب دنياكم من خصوبته، ولاضطراب عيشكم من سكينته، ولاعوجاج سلوككم من استقامته، ولميوعة مجتمعكم من صلابته، ولشتات كلمتكم من وحدته. وذلكم هو الزاد الإلهي الذي تخرجون به من رمضان لغذاء القلب والروح، وخدمة الوطن والأمة، وعدة العمل والجهاد.
وبهذه النية وهذه العزيمة تكونون خُلقاء أن تهنئوا بحزنكم في وداع شهر الصوم، وبفرحكم في استقبال عيد الفطر. فإن الحزن على رمضان تقوى وبر، لأنه حزن على خير مضى وأُنس فات، وإن الفرح بالعيد عبادة وشكر، لأنه فرح ببشرى نزول الوحي وذكرى يوم بدر.
ـــــــــــــــــــــــــــ
- أحمد حسن الزيات، رئيس مجلة الأزهر الأسبق، مقال: مضى ربيع القلوب فهل ترك فيها أثره؟ مجلة الأزهر، ج8، شوال 1387.