فضل النبي ﷺ في نهضة العرب
فبراير 23, 2024هم مَن قَتل ونحن مَن استُشهد
فبراير 26, 2024
لقد فوجِئت وفوجئ كل مسلم، بل كل منصف، بما نشرته مجلة “العربي” في عددها الأخير (شباط 66) عن الحديث النبوي في باب “أنت تسأل ونحن نجيب” الذي يشرف عليه السيد عبد الوارث كبير، ودهش القراء لهذه الحملة المنكرة بالعناوين البارزة وبالبنط العريض، على أعظم كتاب في الإسلام بعد القرآن “الجامع الصحيح للبخاري” الذي تلقته الأمة -منذ اثني عشر قرناً بالقبول والرضا جيلاً بعد جيل، الخاصة منها والعامة حتى إن الناس إذا أرادوا أن يهونوا من خطأ وقع فيه إنسان قالوا: “إنه لم يخطئ في البخاري!”.
ولكن المجلة -ويا للهول- نشرت عنواناً ضخماً تقول فيه: “صحيح البخاري ليس كله صحيحاً- وليست هذه الأحاديث مفتراة بل منكرة”.
لقد وقف شعر رأسي، واقشعر جلدي، حين وقعت عيني على هذه العناوين المثيرة التي تحدت بها المجلة مشاعر المسلمين، وصدمت أفكارهم بما يشبه القذائف المدمرة وما لقيت أحداً قرأ هذا الشيء أو سمع به إلا أنكره واستبشعه، وحوقل واسترجع، وعجب الناس وعجبت معهم كيف يصدر هذا المنكر من مجلة عربية في بلد عربي مسلم، تُطبع بمال المسلمين، ويُحررها مسلمون أيضاً، كما يُفهم ذلك من أسمائهم!
والعجب أن كاتب ذلك العنوان المثير سلك للتدليل عليه منهجاً غير مستقيم، منهجاً لا يرضى عنه العلم، ولا يرضى عنه الخلق، ولا يرضى عنه الدين. فقد مهد للحملة على صحيح البخاري بذكر جملة من الأحاديث الموضوعة أو التي لا أصل لها بالإجماع، مع عدم الحاجة إلى ذكر هذه الأحاديث، فقد وُئِدت في مهدها بفضل جهود أئمة الحديث الذين أفنوا أعمارهم في سبيل خدمة السنة النبوية، وتنقيتها من زيف المزيفين، وانتحال المبطلين، وقد قيل للإمام عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: “تعيش لها الجهابذة” وصدق عبدالله فقد عاشوا لها وماتت هي ولله الحمد، وحفظ الله دينه وصدق وعده: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
ولا ريب أن حفظ الذكر “القرآن” إنما يتم بحفظ ما يبينه ويشرحه، وهي السُّنة التي خاطب الله صاحبها بقوله: ﴿بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44].
أجل. لم يكن من الجد أن يحشر الأستاذ مجموعة من الأباطيل المكشوفة مثل: “عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبياً” ونحوه، فإن أصل الموضوع الذي جرت فيه المناقشة هو تنقية كتب التفسير والحديث مما فيها من شوائب وإسرائيليات فما لهذه الكتب ومثل “اتخذوا الحمام المقاصيص..”… إلخ؟
إن إيراد ذلك في مثل هذا المقام يوهم القراء أن كتب الحديث روت هذه الأباطيل أو اعتمدتها، أو سكت علماء الحديث عن بيان درجتها، وهو إيهام غير صحيح قطعاً. وهو يدل على أن الغرض من وراء هذه الحملة إنما هو التشويش والتشكيك في الإسلام ومصادره وأئمته، بالجد والهزل والهدم بكل معول تناله اليد.
وأغرب من ذلك أن الكاتب ذكر هذه الأحاديث الباطلة المفضوحة بلا شك، ثم قال بالحرف الواحد -ويا لهول ما قال-: “ليس هذا فقط، فإن في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ما هو أدهى من ذلك وأمر، في مخالفة أمر ما أمر الله به عباده وأنزله في محكم كتابه”.
يا لله! أصحيح البخاري وكتب الحديث فيها أدهى وأمر من الأحاديث المكذوبة المفتراة التي ذكرها الكاتب! أما والله لو صح ذلك لكان الأستاذ أعظم المكتشفين في العصر الحديث، فقد أزاح الستار عن حقائق غابت عن الأمة الإسلامية كلها اثنى عشر قرناً، حتى أتى هو آخر الزمان بما لم تستطعه الأوائل!
تُرى ما هذه الأحاديث التي رواها البخاري وهي عند الكاتب أدهى وأمر مما ذكر من الأكاذيب والأباطيل؟
لقد تمخض الجمل ولم يلد شيئاً، لم يلد فأراً ولا ضفدعة! وذكر الكاتب حديثين رواهما البخاري (كما يقول) زعمهما مخالفين لكتاب الله. وينسب إلى الجامع الصحيح اشتماله على أحاديث مناقضة لما أنزل الله في محكم كتابه. ويحكم على هذا الحديث المتفق على صحته بأنه منكر ومفترى.
يا عجباً! كأن الكاتب الذي تربع على منصة الإفتاء ظلماً وزوراً يظن أن البخاري وغيره من أئمة السنة كانوا متسولين يأخذون الحديث عن كل من هب ودب، فكل من قال لهم: قال رسول الله ﷺ.. قالوا له: صدقت هات ما عندك. وفرحوا به كما يفرح الصبي بقطعة الحلوى!
لا يا مفتي “العربي” لقد كانوا لا يقبلون قولاً حتى يعلموا أصله ومصدره، ولهذا اشترطوا الإسناد الذي تفردت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم.
قال ابن سيرين: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”.
وقال غيره: طالب علم بلا إسناد كحاطب بليلٍ.
ونظر الشافعي في تفسير اشتمل على قصص وعبر، فقال: يا له من علم لو كان له إسناد!
ولم يكونوا يقبلون أي إسناد يُذكر، بل يضعون كل راوٍ من رواة السند على مشرحة التحليل، يسألون عنه.. عن عقله ودينه، وخُلقه وسيرته، وعن شيوخه وتلامذته، فمن اشتبهوا فيه أسقطوه، وردوا حديثه، ومن قامت الدلائل على صدقه وحفظه وعدالته وضبطه رووا عنه وقبلوه، وقد كان من ثمرات هذه البحوث المتشعبة المستفيضة علمان جليلان من علوم السنة هما: علم رجال الحديث، وعلم الجرح والتعديل.
وكانوا يجوبون الآفاق، ويذرعون الأرض، طلباً للحديث ممن سمعه بأذنيه، قال سعيد بن المسيب: “إنا كنا نسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد”.
وسأل رجل الشعبي عن مسألة فأفتاه فيها ثم قال: “خذها بغير شيء وإن كنا نسير فيما دونها من الكوفة إلى المدينة”.
ولنأخذ لذلك مثلاً، حديث عائشة الذي رده الصحفي المفتي، وزعم أنه منكَر ومفترَى (ونعوذ بالله من ذلك)، إن سند هذا الحديث -عند من له أدنى ذوق بهذا العلم- نير كضوء الشمس. فقد رواه البخاري عن شيخه قبيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان، عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ورجال هذا السند كلهم كوفيون، تلقى بعضهم عن بعض، خلفاً عن سلف، فهم تلاميذ المدرسة الكوفية التي أسسها الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، وخرّجت أساطين العلم، وأعلام الهدى في الحديث والفقه، وفي العلم والسلوك، أمثال الأسود وعلقمة وإبراهيم وحماد بن سليمان وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان وغيرهم من عظماء الإسلام.
ورواة هذا الحديث الشريف: سفيان الثوري ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي والأسود النخعي، كل واحد منهم جبل من جبال العلم، وبحر من بحور الرواية وإمام من أئمة الدين، لا ترقى ذرة من شك إلى أمانتهم أو علمهم أو وعيهم، حتى يأتي مفتي “العربي” في آخر الزمان فيتهمهم بخيانة الأمة وتضليل أجيالها وتحريف دينها، والكذب على رسولها باختراع الأحاديث المفتراة المنكرة (سبحانك هذا بهتان عظيم).
ومع هذا لم يروِ البخاري هذا الحديث بهذا السند وحده، وعن هذا الطريق فحسب -وإن فيه لغناء وكفاية- بل روى معناه عن عائشة بأكثر من طريق.
ولم يُروَ ذلك عن عائشة وحدها من نساء النبي ﷺ بل روى البخاري ذلك عن ميمونة أيضاً، وليس البخاري وحده هو الذي روى حديثي عائشة وميمونة رضي الله عنهما، بل خرجتهما جميع كتب السنة ودواوينها المتقدمة منها والمتأخرة لإجماع أهل العلم على صحتهما وتلقيهما بالقبول.
ولعمري لئن كان مثل حديث عائشة -بسنده الذي ذكرناه- منكراً ومفترى كما يزعم هذا الزاعم الجريء، لكان هذا الدين باطلاً، وكانت السُّنة كلها وهماً، وكان تاريخ هذه الأمة زوراً، وكان تراث هذه الأمة خرافة كبيرة، وكان أئمة هذا الدين وهذه الأمة أكبر دجاجلة عرفهم تاريخ الأديان والشعوب!
ولقد زعم الكاتب في مستهل كلامه أنه لا يتهم أبا هريرة ولا البخاري بصنع الأحاديث. والحق أنه لم يتهمهما وحدهما، بل اتهم معهما سائر علماء الإسلام وحملة رسالته، في القرون الأولى التي هي خير القرون، واتهم الأمة كلها بالغباوة والغفلة والجهل، حيث تقبلت هذه الأحاديث بضعة عشر قرناً بقبول حسن. وأثنت على رواتها، وخلعت عليهم وصف الإمامة في الدين، حتى جاء الكاتب النحرير، فوصفهم بما يستحي من ذكره.
لقد سُئل القاضي أبو يوسف: أتقبل شهادة رجل يسب السلف الصالح؟ فقال: لو عرفت رجلاً يسب جيرانه ما قبلت شهادته، فكيف بمن يسب أفاضل الأمة؟
أقول: فكيف بمن يسب الأمة كلها، ليأتي على دينها من القواعد، لتقر أعين المبشرين والمستشرقين والشيوعيين؟! اللهم لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
ولا يفوتني أن أسجل هنا على الكاتب المتهجم أمراً معيباً حقاً، فقد قال في فاتحة حديثه: “لست أقول عن حديث ما، إنه ضعيف أو موضوع، لمجرد أنه لا يتفق مع العقل والمنطق فحسب بل لأن ذلك رأي كثير من الأئمة والفقهاء القدماء والمحدثين على السواء، أمثال ابن تيمية، والقسطلاني، والذهبي، والبيهقي، والطبراني، والدارقطني، والهيثمي، والعراقي، والسيوطي، والعسقلاني، وغيرهم”.
ثم طعن في أحاديث متفق على قبولها، مجمع على صحتها، ولم يطعن في ثبوتها عالم قط من هؤلاء الذين ذكرهم، ولا غيرهم، فليت شعري لمَ أوهم الأستاذ بذكر أسماء هؤلاء الأعلام؟ الذين يبدو -من ترتيبه لهم- أنه لم يعرفهم ولم يقرأ آثارهم، ولم يرجع إليها فيما انتقده على البخاري وزعم أنه مفترى بل منكر.
(جعل الكاتب المنكِر أشد من المفتري، وليس الأمر كذلك لغةً ولا اصطلاحاً فليس هناك أسوأ من المفتري).
أما حديث أبي طلحة الأنصاري وأكله البرَد في الصوم فلم يروه البخاري ولا مسلم ولا أحد من الكتب الستة، ولهذا لا نطيل بالرد عليه، والجزء الموقوف فيه على أبي طلحة صحيح من حيث سنده، ولكن لا حجة فيه، لأنه اجتهاد صحابي انفرد به في فهم النص وخالفه سائر الصحابة، فلا عبرة به، ولهذا مات في مهده، ولم يقل به أحد طوال القرون الماضية. وأما الجزء المرفوع إلى النبي ﷺ فغير صحيح. كما قرره علماء الحديث.
ولو كان هذا الصحفي يقدر أمانة القلم الذي في يمينه، ويحترم العقول التي في رؤوس الناس، ما جشم نفسه ذكر هذا الحديث، فإن ميدان المعركة بينه وبين الأخ العالم العراقي الذي اتخذ لنفسه لقب “جابر عثرات الكرام” (وكان أولى أن يسمى: كاشف سوءات اللئام) هو: صحيحا البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح، فليس لإيراد هذا الحديث معنى في هذا المقام إلا الادعاء والتطاول، والتكثر بالباطل، والتمويه الذي لا تنفق سوقه إلا عند البسطاء وضعاف العقول.
وبعد:
فإن الحملة على سنة رسول الله ﷺ ليست بنت اليوم، فإن وراءها جهات ومؤسسات تغذيها وتمدها، ولم يزل المبشرون والمستشرقون والشيوعيون يقودون المعركة ضدها، ويرمون لها بالوقود الدائم لتظل مستعرة الأوار، وليس من الضروري أن يظهروا بأنفسهم على المسرح، فقد يوغر ظهورهم الصدور، ويثير الشكوك، ففي تلامذتهم -المخدوعين منهم والخادعين- الكفاية كل الكفاية. وما أكثر الذين تحركهم مؤسسات التبشير والاستشراق والإلحاد الأحمر، ليحطبوا في حَبْلِهم وهم لا يشعرون، بل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وما أكثر المأجورين الذين يشترون بدينهم ثمناً قليلاً! أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار.
ألا وإن هذه الحملات لا تزيدنا إلا استمساكاً بالحق، وثباتاً عليه، واعتصاماً بسنة الرسول العظيم التي دونها لا يُفهم القرآن ولا تستبين معالم الدين وحدوده، وقد قال ﷺ: “تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي”.
والذي نأسف له حقاً أن تكون الحملة اليوم من منبر شبه رسمي لدولـة عربية مسلمة هي الـكويت، فلعل المسئولين فيها ينتبهون إلى هذا الخطر الذي يخلق البلبلة والحيرة، ويجر إلى الاضطراب والصراع، فالخراب والدمار، وبالله نستعيذ ونعتصم وهو تعالى من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فتاوى معاصرة، ط5 (الكويت، دار القلم، 1990م)، 1/91 وما بعدها (باختصار).