زيارة ووداع إلى القدس
مايو 20, 2024العدد الخامس والعشرين
يونيو 1, 2024ما من مسلم اليوم إلا وعاصَر على مدى عمره مذابح ومقاتل وابتلاءات تسلّط تعرضت لها جماعات مسلمة في بقاع شتى، بدءًا بفلسطين التي عُمر بلائها يوازي عمر أمم لا أمّة، ومرورًا بالبوسنة والصين والشيشان، وليس انتهاء بالإيغور والروهينجا والسودان. ومع كل فورة تهب الأمة أو غالبها لاستنفار الطاقات في مختلف نشاطات الدعم من احتجاج وتبرع ومقاطعة وغيرها.
ومع أن هذه النصرة مطلوبة إلا أن المشكلة في كونها فورات تهيج حينًا وتخمد أحيانًا، ويظل البلاء الأكبر المحيط بالأمة كلها هو كونها في وضعية المغلوب بين الأمم. هذا البلاء الذي تتفرّع عنه كل محنة استضعاف وقهر لجماعة من المسلمين في زماننا. ولذلك ستظل كل أشكال النصرة والغوث منقوصة مدخولة، ما لم تَستَفق الأمة فردًا فردًا لتدرك خطر السبات الذي أغرَقتْ فيه، وعِظَم الإثم الذي تتحمّله بتفريطها في حق وراثة أرض الله تعالى والسيادة فيها لتعبيدها على أمر الله تعالى.
وإن وضعية المغلوبية التي تعيشها الأمة ليست وليدة هذا الزمان، بل هي أثر تفريط على مدى قرون من تخاذل المسلمين عن نصرة إسلامهم، واستحيائهم من ابتغاء العزة الخالصة منه وبالكامل فيه، وإحناء الرؤوس للثعالب خشية الرجعية عن ركب التقدم والتحضر، بالمنظور والتصور الذي فرضه أهل الباطل في زمان فخنع له المسلمون في كل زمان ودفعوا ثمنه رجعية عن دينهم!
“ومن المفارقات الغريبة أن هذه الأمة تجمع بين كونها الأمة الأكبر عددًا من حيث عدد المنتمين إليها، والأكثر من حيث العدة المادية، لكونها أغنى الأمم في الأراضي والموارد، وفي الثروة الفكرية لحيازتها أعظم تراث، وتفردها بعقيدة متمشية مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، مما يجعلها هي الأقدر بين نظيراتها على الحياة. بيد أن تلك الأمة تمثل من الجانب المقابل واحداً من أضعف مقومات النظام العالمي الراهن، وتقبع في مكانة متدنية على هرم ذلك النظام. وصورتها من هذه الزاوية هي صورة أمة ممزقة، بين تشكيلة متباينة من الدول القومية، المنقسمة على نفسها، والمتخاصمة مع الأمم الأخرى المجاورة لها، العاجزة عن إنتاج ما تستهلكه وما تحتاج إليه، وغير القادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة خصومها وأعدائها… وباتت أمة متواضعة الإسهام في العصور الحديثة، وإن كانت ذات ماضٍ عتيد قدمت فيه إسهامات مهمة في المعركة التي تخوضها الإنسانية على هذه الأرض ضد المرض والفقر والجهل والرذيلة والبغضاء والعقوق”1.
وقد أنبأنا ربنا تبارك وتعالى بطبع هذه الدنيا على الاختبار والتمحيص صراحة وتكرارًا، فليس الأمر سرًّا. من ذلك الآية الركينة في الإخبار عن نوع نقص لا بد وارد على كل بني آدم –مؤمنهم وكافرهم–: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]. فكلا الفريقين يبتلَى، ويختص المؤمن ببشارة حُسن العاقبة من الله تعالى إذا أحسن المعاملة مع امتحان الله تعالى، صبرًا واحتسابًا وغيرهما.
وإنما من غفلة المؤمن عن استحضار هذه المعاني في وقت الرخاء، وشدّة الركون للدنيا باللهو والمتاع والتكاثر، تأتي أوقات الشدة كقنبلة انفجرت على حين غِرَّة، أو كأن صاحبها “ضحية قدر غادر” على ما تعبّر كثير من الأدبيات التي ينتسب أصحابها للإسلام ومع ذلك يخالفون أدبه!
وكذلك أنبأنا سبحانه بما جعل لابن آدم من طاقة تمييز واختيار بين الخير والشر أو الحق والباطل، بعد أن عرّفهما له، كما في قوله تعالى: ﴿وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾ [البلد: 10]. فأول الخيط في ضبط التوقعات هو ضبط الأفهام على ما طبع الله عليه الوجود وموجوداته وفق مشيئته، والتوقف عن التهيؤات والأوهام التي تفترض ما لم يفرضه الله تعالى.
وإذ ذاك، فالإشكال ليس في محض وجود الباطل أو الشر فحكمة وجودهما معلومة، بل في تسلطهما على الحق والخير. ومن ثمّ فالسؤال الصحيح هو: أين الخيّرون وأهل الحق؟ كيف بلغ بهم الانحطاط ما بلغ حتى سمحوا للشر أن يتسلط عليهم وللباطل أن يظهر على ما معهم من حق؟!
إن ما نعيشه اليوم من خذلان فبما كسبت أيدينا على مدى قرون من التفريط في الحق الذي أكرمنا الله به، وتراكم عقد النقص بالاستحياء منه والاندفاع للترقيع والتطبيق والتصالح الوهمي مع الغير، الذي أخذته العزة بالباطل حتى نصَّب نفسه اليد العليا في كل المناحي على هذه الأرض، التي كان يفترض بنا أن نعبّدها لله لا أن نتركها نهبًا لأهواء البشر تعبّدها!
ومن هنا، فإذا بدا لنا أن نتساءل: ما ذنب بعض المسلمين الذين يُستضعفون في بقاع من الأرض أن يدفعوا ثمن إثم الغافلين المفرطين؟!
فالجواب: أن كون كل مؤمن محاسبًا وحده في الآخرة لا ينفي إمكان عموم البلاء في الدنيا. فمعلوم ما أصاب جمع المسلمين يوم أُحُد إثر مخالفة جماعة الرُّماة لأمر رسول الله ﷺ. وفي الحديث: أنَّ النَّبيَّ ﷺ اسْتَيْقَظَ مِن نَوْمِهِ وَهو يقولُ: “لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه”. وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ”2.
ثم إننا نخطئ تصور “دفع الثمن”. فلا أحد يدفع ثمن جريرة أحد على الحقيقة، وإنما هذه الدار دار امتحان واختبار وتمحيص من جهة، والله تعالى أعلم حيث يجعل عباده ويجعل امتحانهم. ثم الذي يمتحن عباده هو كذلك وليّهم الذي يتولى تثبيتهم وتصبيرهم، ثم مجازاتهم أحسن الجزاء وأوفاه. ولا يكون عبد أرحم من سيده، ولا مخلوق أرأف بمخلوق من خالقه! وفي الحديث لما شهد المصطفى ﷺ وجمع من الصحابة امرأة تبحث عن ولدها، حتى إذا وجدته ألصقته ببطنها شوقًا ومحبة ثم شرعت ترضعه، فسأل المصطفى ﷺ أصحابه: “أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟” قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”3.
وكم ممن أؤذوا واستضعفوا وعُذّبوا وقضوا من المسلمين ولم يعلم بهم غير بارئهم، سبحانه الذي أحاط بكل شيء علمًا ولا يَعزُب عنه مثقال ذرة. وفي الحديث: “إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ (وفي رواية: نيّاتهم)” 4.
وجاء في شرح الحديث في “فتح الباري”: “وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا مَشْرُوعِيَّة الْهَرَب مِنْ الْكُفَّار وَمِنْ الظَّلَمَة لِأَنَّ الْإِقَامَة مَعَهُمْ مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إِلَى التَّهْلُكَة، هَذَا إِذَا لَمْ يُعِنْهُمْ وَلَمْ يَرْضَ بِأَفْعَالِهِمْ فَإِنْ أَعَانَ أَوْ رَضِيَ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَيُؤَيِّدهُ أَمْره ﷺ بِالْإِسْرَاعِ فِي الْخُرُوج مِنْ دِيَار ثَمُود… وَالْحَاصِل أَنَّهُ لَا يَلْزَم مِنْ الِاشْتِرَاك فِي الْمَوْت الِاشْتِرَاك فِي الثَّوَاب أَوْ الْعِقَاب بَلْ يُجَازَى كُلّ أَحَد بِعَمَلِهِ عَلَى حَسَب نِيَّته.” ا. هــ.
على المؤمن أن يعي أنه هو محل الاختبار من الله تعالى لا العكس! وأن إيمانه أنت هو محل التمحيص، وليست قدرة الله تعالى هي محل التمحيص منك! فالله تعالى قادر أن يقيم الساعة ويقضي بين الحق والباطل ويؤاخذ الظالمين بظلمهم، وإنما جرت مشيئته أن يمتحن بني آدم على هذه الأرض بأعمالهم حتى حين هو تعالى مُقدّره وأجل بالغه. والله تعالى قادر أن يرفع أي ابتلاء، بل ألا يتعرض مسلم لابتلاء أصلًا. إلا أن مشيئته تعالى قضت بالامتحان في الدنيا وكتبت على الدنيا الامتحان. ودونك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلو كان أحد أولى بمعافاته من الابتلاءات لكرامته على الله تعالى لكانوا هم. وكذلك لو كان أحد أولى بالاعتراض على ابتلاء الله تعالى له رغم كرامته لكانوا هم، وحاشاهم جميعًا!
وإن البلوى الحقيقية هي أن يُمتحن المؤمن في إيمانه وهو لا يُحسّ بامتحانه ولا بإيمانه! وأما أولئك الذين يمتحن الله قلوبهم للتقوى وإيمانهم بالبلوى، فيصدق عليهم قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [النور: 11]. وهكذا يكون بلاء المبتلين سبب عافيتهم في الدنيا، بينما تكون عافية الغافل سبب بلائه في الآخرة، والعياذ بالله.
وما أحسن قول مصطفى صادق الرافعي في كتابه (وحي القلم) في مقال بعنوان (الانتحار):
“تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخِسّة والدّناءة، وتكسر الشر والكبرياء، وتَفثَأ الحدّة والطيش؛ فلا يكون من حُمقه إلا أن يزيد بها طيشًا وحدّة، وكبرياء وشرًّا، ودناءة وخِسّة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك!” ا.هــ .
1 إسماعيل راجي الفاروقي: “التوحيد”.
2 صحيح البخاري: كتاب الفتن – باب يأجوج ومأجوج – حديث رقم: 7135.
3 صحيح مسلم: كتاب التوبة- باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه- حديث رقم: 6978.
4 صحيح البخاري: كتاب الفتن- باب إذا أنزل الله بقوم عذاباً- حديث رقم: 7108.