ميراث الحبيب ﷺ
فبراير 6, 2024النصرة الحقيقية لخاتم الرسل
فبراير 6, 2024
ربما سيكتبُ التاريخُ يوماً أنَّ مَن أصدر شهادةَ وفاةِ علمانيةِ الهند، التي كانت تُوصف بأنها أكبرُ ديمقراطيةٍ علمانيةٍ في العالم، هو رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندرا دمودارداس مودي، السياسيُ القادم حقيقةً وفعلاً على أنقاضِ الورثةِ الشرعيين للهند، وهو حزبُ المؤتمرِ الهندي بزعامة آل غاندي، الذي تحكّم في الهند لأجيال ثلاثة، فقد ورثتْ أنديرا غاندي إرثها السياسي من والدها جواهر لال نهرو، لتقضيَ نَحبَها لاحقاً في عمليةِ اغتيالٍ من حارسِها السيخي المتطرف عام 1984، رداً على أوامرها بالهجوم على المعبد الذهبي المقدَّس لدى السيخ في أمريتسار، والذي كانت حصيلتُه مقتل 500 من السيخ، لينتقمَ أحدُ حراسِها السيخ فيقتلها، ومع تَسَلُّمِ ابنِها راجيف غاندي قيادةَ الحزبِ بعدها، فقد عُيِّنَ رئيساً للوزراء خلفاً لوالدته، وتسلمها مع قيادةِ الحزب، وبرزَتْ إلى جانبه زوجتُه الإيطالية الأصل سونيا مانيو، التي التقاها حين كان يدْرسُ الطيران في بريطانيا.
في 14 أغسطس/آب المقبل تحتفلُ الهند بيوبيلها الماسيّ، وذلك بمناسبةِ مرور 75 عاماً على تحرُّرِها من الاستعمار البريطاني، الذي حكمها لأكثر من قرنين ونصفِ القرن تقريباً. وبهذه المناسبة تتجدد الأسئلةُ القديمةُ الجديدة، وعلى رأسها التعدُّدية الدينيةُ والثقافيةُ والإثنية الهندية، في ظل ما تتعرّضُ له الأقليةُ المسلمةُ من انتهاك لمقدساتِها، عبر الإساءةِ لمقامِ نبيّها ﷺ، أو بقتل أتباعها وذبْحِهم وسحلِهم على مرأَى من العالم وبصرِه، بل طال أئمةَ المساجدِ في محاريبِهم، كما شاهدنا في حالة الإمام محمد صافي، الذي نَحرَه متطرفون هندوس، بينما كان نائماً بمسجده، يوم الجمعة في العاشر من يونيو من العام الجاري، في منطقة سيوان بولاية بيهار الهندية.
بعد فترةٍ قصيرةٍ على رحيل أنديرا غاندي عام 1984 جرت انتخاباتٌ مبكرةٌ، واستغلّ راجيف حادثَ مقتلَ والدتِه، على غرارِ حالاتِ التعبئة والحشدِ التي تحصلُ في العادة بدولِ جنوب آسيا، في مثل هذه الحالات، كما حدثت بعدها عودةٌ متأخرة لـ(بي نظير بوتو)، بعد مقتلِ والدِها ذو الفقار علي بوتو في باكستان، وكذلك ظهور زوجِها آصف علي زرداري، إثر مقتلِها واستثمارِه انتخابياً من قِبَلِه، فكان أن فاز بالأغلبية مطلع عام 2008.
أما راجيف غاندي فقد تمكن في الانتخابات، من حصد 411 مقعداً، من أصل 542 مقعداً. لكن لم تدُم حياته السياسية طويلاً، إذ عاجلته خلال حملته الانتخابية في 31/5/1991 انتحارية من مليشيات نمور التاميل المعارضة للحكومة الهندية فقتلته، فكان الشخصية الثانية من عائلة غاندي التي تذهب قتلاً في أقل من عقد، ليتركَ حزبَ المؤتمرِ وحده في مهبّ الريح، بل الهند كلها على كفّ عفريت، ولم يُفلح اختيارُ زوجتِه الإيطاليةِ الأصلِ زعيمةً للحزب، نظراً لصعوبةِ تَقَبُّلِ الحاضنةِ المجتمعيةِ للحزبِ الهندي لشخصيةٍ إيطاليةٍ مثل سونيا غاندي، على الرغمِ من إطلاق اسم غاندي على عائلتِها، كما أنه فشل في شدّ العصبِ الهندي القائم بالأصل على زعامةٍ عائليةٍ، تماماً كباكستان، وسريلانكا وبنغلاديش.
فراغٌ سهّل على القوى المتطرفةِ القفز إلى الساحة، ومن بينها حزب جاناتا بارتي الهندوسي المتطرف، الذي ظهر للعلن عام 1977، وينتمي إليه اليوم رئيسُ الوزراء مودي، فبدأَ صعودَه السياسي على استحياءٍ، خلال فترة حكمِ أنديرا غاندي، حين شقّ طريقه بِكَسبِ مقعدين في البرلمان الهندي، خلال انتخاباتِ أكتوبر/تشرين الأول من عام 1984. ومع رحيل آل غاندي (الأم والابن) عن الحياة السياسية، برزَ هذا الحزب في انتخابات 1996 كأقوى كتلةٍ برلمانيةٍ هنديةٍ. تَمكّنَ في البدايةِ من تشكيل حكومةِ لـ 13 يوماً، ثم شكّل تحالفاً مع أحزابٍ أخرى، وتولّى رئاسةَ الحكومة أتال بيهاري فاجباي المتطرف لمدةِ عامٍ كاملٍ، مما عنى للمهتمين بالشأنِ الهندي أن الهندَ المعروفة بعلمانيتها، قد انتهت أو ماتت، وأن الهند العنصرية المتطرفة، قد وُلدت مع فاجباي، ومِن بعدِه مُودي، وحزبِهما جاناتا بارتي المتطرف.
تعود جذور التطرف والقومية الهندوسية إلى القرن التاسع عشر، يوم وضعت أسس الدولة الهندية الحديثة عبر دستورها كدولة علمانية، إذ رأت الأغلبيةُ الهندوسيةُ ممن تشكّل نسبة 80% يومها أن الدستور يعد خذلاناً لهذه الأغلبية، الطامحةِ برغباتٍ وأهدافٍ لا تتفقُ ولا تتسق مع دولةٍ علمانيةٍ هندية، طرحها الدستورُ الهنديُ الجديد.
لم يألُ الحزبُ جهداً في الحشد الجماهيريّ والشعبي لحاضنتِه، فكان هدفُه المسجدَ التاريخيّ المعروف بالمسجد البابريّ، الذي بناه ظهيرُ الدين بابر مؤسّس الإمبراطوريةِ المغوليةِ في المنطقة، وذلك عام 1528م، وتَجمَّعَ في السادس من ديسمبر/كانون الأول من عام 1992 أكثر من 15 ألف من أتباع الحزب، لهدمِ المسجد بحجةِ وجود قبرٍ لمعبودهم الهندوسيّ في المكان نفسِه، لكن وقف المسلمون في الهند بقوةٍ، ومِن خلفِهم إخوانُهم المسلمون في العالم الإسلامي، حتى تمكنّوا لاحقاً عبر المحكمةِ العليا الهندية من وقف الهدم.
مودي.. حارق مسلمي كوجرات
وُلد مودي 17/9/1950 في منطقة فاندناغار بولاية كوجرات الهندية، ودرسَ العلومَ السياسيةَ في جامعةِ الولاية، ونالَ شهادةَ الماجستير، ثم التحق مبكراً في شبابه بحركةٍ هندوسيةٍ متطرفة تُدعى آر إس إس، وهي النواةُ الحقيقيةُ لحزب جاناتا بارتي الذي يقوده الآن، وأسّس للحركةِ الجناحَ الطلابيّ عام 1977.
وفي عام 1987 التحق بالحزب، وبعدها بعامٍ واحدٍ فقط اختير أميناً عاماً للحزب بالولاية، مما فسّر مدى نشاطه وولائه وحماسه وقدراته، لدى قادةِ الحزب في حينِه. ولعب مودي دوراً محورياً في تعزيز قوةِ الحزب في الولاية، فكان أحدَ الركائز الأساسية بفوز الحزب في انتخاباتِ عام 1995، التي أدت إلى وصولِه للسلطة لأول مرةٍ، وحكمِه الهندَ لعامٍ كامل. واصل مودي صعودَه الصاروخي في الحزب، ففي العام نفسِه عُيّن أميناً عاماً للحزب في نيودلهي، ثم أميناً عاماً للحزب على مستوى الهند كلِها، وبرز بقوةٍ في انتخابات 2001 عن ولاية كوجرات. ثم أتى زلزال الهند يومَها، الذي أودى بحياة 20 ألفاً من أهالي كوجرات فرصةً استغلّها في صعودِه المتسارع، لاسيما بعد أن أخفق كبيرُ وزراء الإقليم حينَها في الاستجابةِ لهذه الكارثة، فحلَّ مودي بديلاً عنه في رئاسة حكومةِ الإقليم، للفترة الواقعة بين 2001-2014، وهي الفترة الأطول لأي كبير وزراءٍ لهذه الولاية في تاريخها.
مع احتدام الصراع الديني بين المسلمين والهندوس في الولاية، وتحديداً في منطقة غودهارا، ظهر تواطؤٌ، بل تشجيعٌ من مودي كرئيس لحكومة الولاية، في قتلِ وحرقِ المسلمين، وتحديداً حين أقدم متطرفون هندوس على إضرام النار بقطار فيه مئات المسلمين، وتحدثت التقارير يومها عن مقتل 1000-5000 آلاف مسلم، معظمهم قضى حرقاً، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية بعدها إلى عدم منحه تأشيرة دخول دبلوماسية عام 2005، كما انتقدت بريطانيا تقاعسَه في وقف الصراع بين المسلمين والهندوس. ومع هذا كله نجح مودي في الإفلات من الملاحقات القانونية الدولية، على الرغم من إدانةِ كثيرٍ من قيادات الحزب الذين كانوا حوله، بل حُكم على بعضهم بالسجن لفترة طويلة.
حرق المسلمين طريقٌ للصعود
الحزب الذي اتخذ من مقاومة المسلمين في الهند مبرراً لوجوده وتأسيسه، طارحاً نظرية الهندوتفا، التي تمتد جغرافيتها حتى الجزيرة العربية، والدول المحيطة بالهند، لا بد لقادته أن يكون صعودُهم وبروزُهم على جثثِ مسلمي الهند أنفسِهم، فكان صعودُ مودي الحقيقي بعد مجزرةِ كوجرات. حيث رأى الحزب أن شخصيةً مثل مودي لا يمكن الاستغناء عنها، لاسيما أنه قد لعب دوراً مهماً في الانتخابات اللاحقة، بتعزيز مكانة الحزب، وسط تراجع القوى التقليدية الهندية العلمانية، وعلى رأسها حزب المؤتمر الهندي.
في عام 2013 بينما كان الحزب يتهيأ لانتخابات مايو 2014، اختير مودي رئيساً للحزب، ليقود حزبه في انتخابات 26 مايو/أيار 2014 لفوز كبير، وأغلبية تمكنه من تشكيل حكومة بمفرده، وهي من الحالات النادرة، لا في الهند فحسب، بل في سياسات دول جنوب آسيا بشكل عام. وعلى الفور تمكن مودي من تسجيل انتصارين دبلوماسيين، كان الأول باستضافة الرئيس الصيني جي جينبينغ، لأول مرة في الهند منذ ثماني سنوات، والثاني بحصوله على زيارة رسمية لأمريكا، بعد أن مُنعها بسبب تواطئه في مجزرة كوجرات، والتقى حينها الرئيس الأمريكي باراك أوباما.
كان التحدي في انتخابات عام 2019 من وجهين، الأول: أن مودي يواجه حزب المؤتمر بزعامة راهول غاندي حفيد أنديرا، ونجل راجيف، وهو الذي يمثل الجيل الجديد من الغاندية، والثاني: أنه سيكون حال إعادة انتخابه، أولَ رئيس وزراء يعاد انتخابه بعد آل غاندي، وقد كان له ذلك، ربما بفضل المواجهة الهندية الباكستانية يومها، وتصاعد الصراع بين البلدين بشأن كشمير، فاستغلّ ذلك بشكل كبير، وتمكن من حشد الرأي العام لصالحه ولصالح حزبه ضد باكستان.
خلال الفترة الماضية تصاعدت حملات العنصرية ضد المسلمين وضد الأقليات الأخرى من السيخ والمسيحيين، وتُوّج ذلك بنيل المتحدثين الرسميين باسم الحزب من الرسول ﷺ، وهو ما أدّى إلى انتفاضة المسلمين في الهند، ترافق مع حملة مضايقات وقتل وتعذيب وسحل، للمسلمين والمسلمات، وهو ما فجّر الوضع الداخلي الهندي، وتعاطَف المسلمون في العالم العربي والإسلامي مع مسلمي الهند، الأمر الذي كشف أسوأ ما يعتمل في تضاعيف الهند من عنصرية وحقد، ووضع الهند وعلمانيتها على كفّ عفريت، ولم تعد الهند أكبر دولة علمانية في العالم، بقدر ما بدت تعني للكثيرين أنها أكبر دولة عنصرية في العالم.