
الملك الأردني عبد الله الأول واتفاقات تسليم فلسطين لليهود
مارس 23, 2025
أوقفوا تصدير البترول
مارس 25, 2025أحمد الشقيري – رحمه الله
قصر الملك حسين، 1 يونيو 1967
قال الملك حسين: لنعُد إلى الضفة الغربية..كيف وجدت الروح المعنوية لدى الشعب؟؟
قلت: لم أر أحداً من الشعب.. كل زياراتي كانت لمواقع الجيش.. غير أني واثق من الروح المعنوية لدى الشعب.. ولكن المشكلة أن الشعب لا مكان له في المعركة.. إنه أعزل.. إنه غير مدرب على السلاح.. وهذا ما كنا نطالب به على الدوام.
قال (وكأنه يريد أن ننصرف عن هذا الحديث): وهل من ملاحظات أخرى؟؟
قلت: لا توجد في الضفة الغربية استعدادات للدفاع المدني.
قال: ولكن الأوامر صدرت إلى قيادة الدفاع المدني باتخاذ الإجراءات اللازمة.. وإن كانت إمكاناتنا المالية قليلة.
قلت: الشعب هو الإمكانات المالية. الشعب مستعد لأن يحفر الخنادق ويبني المخابئ.. وأن يكدّس أكياس الرمل في الشوارع وأمام المنازل.. الشعب مستعد لأن يقوم بكل ذلك.. ولقد مررنا بالضفة الغربية كلها، فلم أجد خندقاً ولا كيس رمل واحداً أمام المنشآت العامة.. على حين أننا كنا نرى بأعيننا اليهود يعملون في حفر الخنادق.
قلت: وأعتقد أنه يجب توزيع الأسلحة على الأهلين حتى يشتركوا في الدفاع عن مدنهم وقراهم.
قال الملك: نخشى أن تحصل الفوضى.. توزيع السلاح على الأهالي موضوع صعب.
قلت: فليكن على رأس هذا العمل ضابط من الجيش الأردني في كل قرية وفي كل مدينة.. لقد استطعنا أن ننشئ في قطاع غزة في الأسبوع الماضي كتائب للمقاومة الشعبية تعدادها عشرون ألفاً، وهم يباشرون الآن حفر الخنادق وبناء الملاجئ وحماية الجسور وما إلى ذلك، فلِمَ لا نفعل ذلك في الضفة الغربية؟
قال: هذه كلها مسؤوليات الجيش، ونحن لا نريد أن يقع تضارب بين القوات المختلفة.
قلت: إذا كان الجيش يقوم بهذه المهمة، فلا مانع.. المهم أن تقوم بها جهة مسؤولة سواء كان الجيش أو غير الجيش.
قال: وهل أنت مطمئن للدفاع عن القدس؟ لقد رأيت كل شيء.
قلت: ما زلت عند رأيي.. القدس معرضة للسقوط في كل لحظة.. الأسوار وحدها هي التي تفصل إسرائيل عن القدس من الداخل.. يجب أن تتمركز القوات المسلحة في داخل المدينة، في البيوت، في الشوارع، على الأسطحة. على الأسوار.. إن بيت المقدس لا يحميها إلا حرب الشوارع. في كل حارة وزقاق، بل وراء كل حجر.
والتفت الملك حسين إلى الشريف ناصر وسأله: وما رأي أبي ناصر في الموضوع؟
وقال الشريف ناصر: عين خير.. يا سيدنا. عندك رجال مستعدون يموتون قبل أن تسقط القدس.. لقد أعددنا خطة عسكرية متكاملة للدفاع عن القدس.. الحرب الحديثة هذه الأيام تفرض أن يكون الدفاع عن القدس من الخارج لا من الداخل.
قلت: أنا لست عسكرياً.. ولكني أريد أن أسأل.. وما العمل إذا سقط الخارج، فما هو مصير الداخل؟
فقال الملك حسين: فليطمئن الأخ أحمد.. سأتولى بنفسي الدفاع عن القدس.. الله يعطيك العافية اليوم تعبت كثيراً.. خليك تستريح.. والقدس أمانة في أعناقنا، نفديها بأرواحنا.
فنهضنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وأنا أحسب أن كل اقتراحاتي متأخرة.. فلم تعد المعركة تنتظرنا لنستعد ولم تعد إسرائيل تنتظرنا لنستكمل استعداداتنا.. ولم أستطع أن أحبس نفسي عن كلمة أخيرة قلتها له على الطريقة العربية، بل على الطريقة العشائرية: مرة أخيرة أقولها لسيدنا.. القدس في رقبتك.. أنا ما زلت أعتقد أن إدخال جيش التحرير الفلسطيني إلى القدس هو أمر ضروري لحماية المدينة.. ولو أذنت لي أن أتصل تلفونياً في دمشق صباحاً، فإن كتائبنا في درعا مستعدة لأن تكون ظهراً في بيت المقدس.
فقال الملك حسين: عين خير.. القدس في رقبتي.. روح نام مطمئن.. والله لا تدخلها إسرائيل إلا على جثتي.
قلت: لقد سبق للسلطان عبد الحميد في زمن الدولة العثمانية أن قال لهرتزل مؤسس الحركة الصهيونية: إن الوطن القومي اليهودي لن يقوم إلا على جثتي.. ولقد قام الوطن القومي اليهودي.. وقامت إسرائيل.. والسلطان عبد الحميد تحت التراب.. وقد أكرمه الله أنه مات قبل أن يقوم الوطن القومي اليهودي.
القدس، 2 يونيو 1967
عدت إلى فندق أمباسادور القائم في حي الشيخ جراح، وهو على بضعة أمتار من خطوط الهدنة الإسرائيلية.. وجلست على الشرفة، كانت مدينة القدس أمامي بشطريها، القديم والجديد، وكلاهما عربي. عشت شبابي في المدينة… وها إني أرى القدس الجديدة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويهود اليمن القذرون قد بنوا أكواخهم وراء الأسوار، وأولادهم يعبثون بالوحل، ويلعبون بالأوساخ.
وأزعجني خاطر رهيب.. كنت أرى القدس الجديدة تعج بالحركة والحياة.. ورأيت العمال اليهود يحفرون الخنادق أمام بيوتهم وحول أحيائهم، ويكدسون أكياس الرمل في الميادين والساحات وفوق أسطح المباني.. أما المدينة القديمة، فقد كانت راقدة راكدة بين أسوارها، لا مخبأ ولا ملجأ.. ولا حفنة من الرمال أمام هذا المستشفى، أو ذلك المخيم.. وكأنما أصبحت القدس القديمة، البلدة اليتيمة، تحت رحمة الجارة اللئيمة.
القدس، 5 يونيو 1967
من غير ما سبب أعرفه طال وقوفي في الشرفة ذلك الصباح على غير عادتي.. لعله الإحساس بالكارثة قبل وقوعها… وقفت طويلاً أُجيل الطرف في مدينة القدس، حياً حياً، شارعاً شارعاً، ومنزلاً منزلاً.. ورحت أتذكر..
وبين كل هذه المشاهد وقفت أمام المسجد الأقصى، أتأمل جلاله وقدسيته، وأتذوق سناءه وبهاءه، واستذكر تاريخه، ورحت أرسل إليه النظرات عميقة واجدة، مولهاً مدنفاً. وداومت النظر إلى بيت المقدس كلها أتأملها، أحدّق فيها… تماماً كما يفعل الوالد يوم يودّع ولده وهو في طريقه إلى ميدان المعركة…
ونفضت نفسي من هذه الرؤى، وعدت إلى غرفتي وأعددت نفسي للسفر إلى عمّان، فأنا على موعد مع الفريق طاهر يحيى رئيس وزراء العراق لتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع الملك حسين. وخرجت من الفندق إلى سيارتي.. وكان كل شيء عادياً… ركبت السيارة، وأنا أقول للسائق: إلى عمّان… إلى السفارة العراقية.
وسارت بنا السيارة في ذلك الطريق الأفعواني منحدرة إلى أغوار نهر الأردن والبحر الميت… وانطلق المذيع يعلن: لقد بدأت القوات الإسرائيلية بالهجوم على مصر.. تصدّت القوات المصرية للعدو.. بدأت إسرائيل عدوانها في الساعة التاسعة من صباح اليوم بغارات جوية على القاهرة وجميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة، وتصدت طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات…. ثم راح المذيع يناشد إخوة الحرب في الأردن وسوريا أن يزحفوا على إسرائيل ويدمروا الصهيونية.
وبعد فترة من الأناشيد الحماسية استأنف المذيع صائحاً: إن الجيش العربي الموحد يزحف الآن من دمشق وبغداد وعمّان إلى مكان الالتقاء في تل أبيب…. المذيع في القاهرة يواصل صيحاته، فترة بعد فترة:
أسقطنا 23 طائرة إسرائيلية حتى الآن في الغارات التي شنتها إسرائيل علينا صباح هذا اليوم.. ارتفع عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها حتى الآن إلى 42 طائرة.. إجمالي الطائرات التي أسقطت للعدو حتى الآن 44 طائرة إسرائيلية.. تم استجواب أول أسير من طياري العدو، الكابتن مردخاي.. أسرت قواتنا سبعة طيارين آخرين للعدو في منطقة القنال.. أصبح عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها سبعين طائرة.. اضطر العدو إلى أن ينسحب من خان يونس بعد قتال عنيف، وبعد أن تصدت له القوات الفلسطينية والأهالي الفلسطينيون داخل المدينة، وقد دمرت للعدو أعداد كبيرة من دباباته قبل انسحابه.
عمّان، غرفة العمليات العسكرية، 5 يونيو 1967
قلت للفريق رياض: هل من كلمة موجزة عن الموقف العسكري، فقد غادرت القدس صباح هذا اليوم والناس في شؤونهم في الشوارع كباقي الأيام المعتادة والقطاع الإسرائيلي في القدس الجديدة كان هادئاً.. فما الذي جرى؟
قال: ملخص البرقيات التي وردتنا من القاهرة أن الطيران الإسرائيلي قام بغارات متوالية على مطارات الجمهورية العربية المتحدة والمعركة محتدمة، وقد أبرق إلي المشير عبد الحكيم عامر صباحاً يقول إن طيراننا قد أعطب 75 بالمئة من الطيران الإسرائيلي، وأن سلاحنا الجوي قد دمر عدداً من المطارات الإسرائيلية، وأن جيشنا في طريقه إلى النقب.. وتقديري أن إسرائيل بهذه المفاجأة تستهدف ضرب السلاح الجوي المصري وتفتيت الجيش المصري بحيث يمكن إخراج مصر من المعركة.
قلت: والجبهة السورية، والقوات العراقية؟
قال: الجبهة السورية فيها مناوشات وتبادل إطلاق النار، وتقوم بعض أسراب سلاح الجو السوري بقصف مواقع العدو، ولكن القوات السورية الآلية لم تتدخل بعد بمعركة شاملة مع العدو.. وقد طلبت صباح اليوم من الطيران السوري إسناد الجبهة الأردنية، غير أن إخواننا في دمشق أجابوا بأنهم فوجئوا بالمعركة، وطلبوا إمهالهم بعض الوقت، واتصلت بدمشق مرة ثانية، فطلب الإخوة مهلة ثانية، وبعد ذلك طلبت منهم أن يرسلوا قوات مدرعة لإسناد قطاع جنين، ولكنهم اعتذروا بأنهم لا يملكون غطاء جوياً كافياً.
وتابع الفريق رياض كلامه قائلاً: أما القوات العراقية، فقد بدأت تصل صباح هذا اليوم وهي في طريقها إلى الجبهة الأمامية… الصعوبة التي نواجهها أن القوات الأردنية تقاتل ببسالة وشجاعة، ولكن من غير غطاء جوي كاف.. ولعلنا نستطيع غداً أو بعد غد إقحام الطيران المصري والسوري في المعركة.. فالطيران العراقي والأردني غير قادرين على حماية الجبهة الأردنية وحدهما.
قلت: والقوات السعودية المرابطة على الحدود الأردنية السعودية، ألا يمكن استخدامها؟
قال: القوات السعودية بعيدة عن ميدان المعركة.. وهي غير مهيأة للقتال، فإن أسلحتها خفيفة ومتوسطة.. وفضلاً عن ذلك، فقد ذكر لي قائد القوات السعودية أنه لا يستطيع أن يتحرك إلا بأمر من جلالة الملك فيصل!
وانصرف عبد المنعم رياض والضباط إلى الخارطة المعلقة على الجدران، يدرسون ويتباحثون، والملك حسين، وأنا نستمع ونراقب، كل منا في كرسيه.
قال الفريق رياض: لقد أصدرنا الأوامر باحتلال جبل المكبر (سكوبس)، فهذا مركز استراتيجي مهم دفاعاً وهجوماً.. دفاعاً عن القدس القديمة، وهجوماً على القوات الإسرائيلية في القدس الجديدة. وما هي إلا لحظة حتى دق جرس التلفون، وصاح الشريف ناصر وهو يمسك بيده التلفون ليردّد النبأ من القيادة الأمامية: احتلت قواتنا جبل المكبر بعد معركة حامية بالسلاح الأبيض، وقد دمرنا دبابات العدو، وتكبد العدو خسائر فادحة…
وانصرف الفريق رياض إلى الخريطة هو والضباط الأردنيون، وساد القاعة جو من الفرح والحماسة، وكدنا نكبّر، كما كبر المسلمون الأوائل على هذا الجبل الأشم، قبل ثلاثة عشر قرناً من الزمان. وأصدر الفريق رياض باسم القيادة العربية المشتركة بلاغاً أن القوات العربية المشتركة استولت على جبل المكبّر، وأن العدو قد فرّ من جنوبي القدس بعد أن تكبد خسائر فادحة في الأرواح والسلاح.
ثم بدأت البرقيات تتوالى على غرفة العمليات من المراكز الأمامية. القتال يدور على كل الجبهات، نحن نكبد العدو خسائر فادحة على رغم تفوقه العددي.. مدفعيتنا تقصف تجمعات العدو ومعسكراته.. نيران هائلة شبّت في منطقة المستعمرات الخمس نتيجة لضرب مدفعيتنا. قواتنا الأرضية أسقطت طائرة للعدو في منطقة الخليل.. مدفعيتنا أسقطت طائرة إسرائيلية من نوع ميراج فوق المفرق، وطائرة أخرى فوق غور الصافي.. وطائرة أخرى فوق منطقة السموع… فتح أحد الضباط الراديو على الإذاعة الأردنية، فإذا بالمذيع الأردني يعلن بأعلى صوته: إن مجموع ما حطمه جنودنا البواسل خمسون طائرة مقاتلة…
قلت للملك حسين: الزيادة في خسائر العدو، والنقصان في خسائرنا، هما من ضرورات الحرب.. هذا لا شك فيه.. ولكن لو تفضلتم جلالتكم بإصدار الأمر بعدم المبالغة في الزيادة والنقصان ما أظن أن المواطن العربي تجوز عليه هذه المبالغات.
فقال: هذه ملاحظة مفيدة يا أخ أحمد.. ليتك تنصح إذاعة القاهرة كذلك. إن أحمد سعيد قد أسقط في إذاعة صوت العرب ما لا يقل عن مائتي طائرة إسرائيلية حتى الآن.
دخل علينا في هذه البرهة وصفي التل رئيس الديوان الملكي، وهو بملابسه العسكرية، والغليون في فمه، وفي وجهه أمارات الشماتة والحقد. وما إن طاف على الضباط مسلّماً حتى كان هدير الطائرات الإسرائيلية يمزق سماء عمّان، وبدأ القصف كأنه على موقع القيادة الأردنية، وعلى غرفة العمليات بالذات، ثم بدأت تتوالى الأسراب الإسرائيلية تقصف وتدمر… ودق جرس التلفون وأمسك به الشريف ناصر، وراح يردد: قصف العدو مطار عمان، ودمر كل طائراتنا على أرض المطار واستشهد مازن العجلوني وهو يحاول الطلوع بطائرته. ودق جرس التلفون مرة ثانية وأمسك به اللواء عامر خماش وردّد: قصف العدو مطار المفرق ودمر منشآت المطار وعدداً من طائراتنا…
وضرب وصفي التل يداً على يد وهو يقول: لقد فقدنا جميع طائراتنا. سلاحنا الجوي الذي بناه سيدنا كل عمره قد ضاع في دقائق. والتفتَ إليَّ وصفي التل كما لو أني تقمصت جمال عبد الناصر جسداً وروحاً، وقال بصوت مملوء بالشماتة والسخرية: وأين سلاح الجو المصري، وأين الميغ 17 و 70؟ ثم التفت إلى الفريق عبد المنعم رياض وقال: كان الاتفاق أن تقوموا بغارات جوية على إسرائيل في أول ساعات القتال.. أين صواريخكم الظافر والناصر والقاهر؟! وراح التل يرغي ويزبد وهو يشير بغليونه إلى الخارطة المثبتة في الجدار…
واصلت الإذاعة السورية تلخيص البلاغات العسكرية التي صدرت طيلة النهار، وكان آخر بلاغ عسكري يقول: بلغ عدد الطائرات التي أسقطها سلاح الطيران السوري للعدو أربعاً وخمسين طائرة. ثم نقل المذيع السوري مقابلة مع الطيار الإسرائيلي الذي أسقطت طائرته على الأراضي السورية، الملازم ابراهام زيلاك…
أفزعني آخر بلاغ أردني (الساعة 11,00 ليلا) وهو يعلن: أن العدو قام بهجوم واسع النطاق على المناطق الشمالية لمدينة القدس، وحاول يائساً احتلال مناطق الشيخ جراح والطور وشعفاط.. وأن قواتنا اشتبكت مع قوات العدو في المناطق الواقعة جنوب القدس وما زالت المعارك مستمرة في شمال القدس وجنوبها. لقد فزعت حقاً.. فإذا كان العدو قد أصبح يقاتل في حي الشيخ جراح، وهو من أحياء القدس.. وأن المعارك محتدمة في جنوب القدس، فمعنى ذلك أن إسرائيل في طريقها إلى القدس من الشمال والجنوب، ومعنى ذلك سقوط القدس غداً أو بعد غد…
أعلنت الإذاعة الإسرائيلية عند منتصف الليل: أن القوات الإسرائيلية استولت على مدينة جنين وعلى قرية النبي صموئيل قرب القدس. وصاح الذعر في نفسي: هل سقطت جنين؟ هل سقطت قرية النبي صموئيل؟ إذن أصبحت القدس تواجه خطر السقوط!
ومع أن القدس أحب مدائن الأرض إلى نفسي، فقد تصاعد وجومي وذهولي حين سمعت الإذاعة الإسرائيلية تقول: استولت قواتنا على مدينة العريش التي تقع على بعد سبعين كيلومتراً داخل الأراضي المصرية في سيناء، هكذا بكل بساطة، وبلا مقدمات وبلا ضجيج ولا عجيج!! وكان خبر العريش أشد إيلاماً في نفسي من خبر القدس… فالجبهة الأردنية أمرها معروف عندي.. إنها لا تتحمل الصمود طويلاً.. ولكن سقوط العريش معناه اختراق الجبهة المصرية إلى عمق بعيد…
عمّان، 6 يونيو 1967
خرجت من الفندق، وهذه الهواجس تملك عليّ مشاعري، واجتازت سيارتي شوارع عمان لأرى الجماهير تطوف في تظاهرة كبرى، والشباب يحملون اللافتات، ويصيحون بالشعارات، وكانت تهتف مطالبة بالسلاح وتنادي بالزحف إلى الضفة الغربية لمشاركة الجيش الأردني في المعركة. وأيقنت أن هذه المسيرة لن تجد من يستجيب لها، فقد سارت مثلها تظاهرات وانعقدت اجتماعات قبل سنين تطالب بالتسليح والتدريب، ولكن من غير جدوى.
وكانت آخرها قبل ثلاثة أيام وأنا في أحد اجتماعاتنا في مدينة القدس حين طلب المحافظ أنور الخطيب من الشريف ناصر عشرة آلاف بندقية لتسلم إلى المقاومة الشعبية، فأجابه الشريف ناصر: أرجوك ألا تتكلم في هذه الأمور.. نحن رتبنا كل شيء.. نحن لدينا خمس فرق لحماية القدس. وهذه الخطة التي أمر بها سيدنا (الملك حسين)…
واصلنا سيرنا إلى القيادة الأردنية، إلى غرفة العمليات، ووجدت الملك حسين وقد سبقني ببضع خطوات.. وقال الملك حسين: الموقف غير حسن… أليس كذلك؟ فقال الشريف ناصر: والله يا سيدنا الطيران الإسرائيلي أهلكنا هذه الليلة… كان الليل كالنهار والطائرات الإسرائيلية تضرب مواقعنا بالصواريخ والنابالم… دباباتنا تذوب تحت القصف الإسرائيلي.
وقال الفريق عبد المنعم رياض: المعركة محتدمة على طول الجبهة.. هناك شكوى في جميع القطاعات من قلة الوقود والمؤن.. الدبابات في قطاع جنين أصبحت بلا وقود.. وأنا أعتبر أن قطاع جنين أصبح في حكم الساقط بيد القوات الإسرائيلية.. أظن أنه سقط فعلاً، فلم نتلق أية أخبار من قيادة القطاع منذ بضع ساعات…
بدأ الفريق رياض يشرح الموقف العسكري بتفاصيله، ورسم صورة قاتمة للحالة في الضفة الغربية، وكيف أن القوات الأردنية تتراجع أمام القوات الإسرائيلية…
وتناول الملك حسين من جانبه شرح الموقف، وقال إن جميع التقارير التي وصلته ليلاً وصباح اليوم تفيد بأن القوات الأردنية لم يعد باستطاعتها الصمود طويلاً أمام القوات الإسرائيلية، وأن الدفاع عن الضفة الغربية أصبح مستحيلاً ما لم تسترد القوات المصرية زمام المبادرة.
وأطرق الفريق رياض قليلاً، وقال وهو يتمالك أعصابه: إذا كانت القوات المصرية تستطيع أن تثبت أقدامها في سيناء، فذلك فضل من الله.. لمعلوماتكم الخاصة… لقد حلّت بالطيران المصري خسائر فادحة بالأمس، وأصبحت قواتنا تقاتل في سيناء من غير غطاء جوي بصورة فعالة، والطيران الإسرائيلي يكاد يكون مسيطراً على الجو… ولا يمكننا في الظروف الحاضرة أن نتوقع مساندة من مصر إذا تغير ميزان القوى بتدخل الاتحاد السوفياتي، وإن كان هذا في ظني يحتاج إلى وقت.. ولم يبق لنا في الجبهة الأردنية إلا الاعتماد على أنفسنا.
قلت: أليس هذا هو الوقت الملائم لتدخل القوات السورية من الجولان وتشنّ حرباً شاملة، وبهذا يخف الضغط عن الجبهة المصرية والجبهة الأردنية معا؟
فقال الفريق رياض: هذه بديهية عسكرية، لم يعد ينقذ الموقف إلا أن يقوم الجيش السوري بحملة شاملة.. وكان الأمل أن تبدأ سوريا بالالتحام منذ الصباح الباكر أمس.. ثم إننا طلبنا منهم ثلاث مرات أن يسندوا قطاع جنين فلم يفعلوا حتى الآن… كل ما قالوا إنهم فوجئوا بالحرب وإن قواتهم غير مستعدة للمعركة.
سألت: وما هو الموقف بالنسبة إلى القدس؟ قال الفريق رياض: القدس والضفة الغربية في حال واحد يسقطان معاً وينجوان معاً.
والتفت إلى الملك حسين وقلت: ألا يمكن إنقاذ القدس؟
قال: كيف؟
قلت: يظهر من التقارير العسكرية أن القدس مطوقة وقد أصبحت في خطر، وأنا لا أريد أن أعود إلى الماضي، لقد طلبت إلى جلالتكم قبل أيام أن تتمركز قوات جيش التحرير الفلسطيني في داخل بيت المقدس حيث تقاتل قتال الشوارع وإلى آخر رجل.. والآن، وإن كان الأمر قد أصبح متأخراً.. لعلنا نستطيع أن ننقذ القدس، في خلال بضع ساعات نستطيع أن نوجه قوات جيش التحرير الفلسطيني من درعا إلى القدس.
فقال الملك حسين: القدس مطوقة ولم يعد ممكناً أن ندخل عليها جنوداً أو سلاحاً.
قلت (برفق ولطف): سيدنا.. فلنحاول أن تقوم قوات التحرير مع الجيش الأردني بتطويق التطويق الإسرائيلي.. ما رأي الأخ الفريق رياض؟
فقال الفريق رياض: ممكن.. ولكن الوقت أصبح متأخراً.. وأظن أن القدس إن لم تسقط الليلة فهي ساقطة غداً على أكثر تقدير.
نهضت واقفاً، ومن غير وعي، وقلت: الله أكبر، كيف تسقط القدس؟ يا أخي.. يا أخي.. اتصل بعبد الناصر حتى يناشد الجيش السوري أن يبادر لإنقاذ الموقف. أنا أعلم أن الجيش السوري، ومعه الشعب السوري، مستعد أن يفنى عن آخره من أجل الدفاع عن القدس.. القدس أغلى عليه من دمشق.
وضع الملك حسين يده على كتف الفريق رياض وأخذه إلى غرفة أخرى، وبقينا وحدنا اللواء خماش وأنا، في غرفتنا، في صمت كصمت أهل الكهف. وبعد برهة، عاد الملك حسين والفريق رياض… وبدأ الملك حسين يتحدث بلهجة صارمة كأنه يصدر أمراً عسكرياً وقال: نحن أمام خطر داهم يتطلب منا أن نتحمل مسؤولياتنا… الموقف العسكري سيئ للغاية، ولم يعد بالاستطاعة الدفاع عن الضفة الغربية والقدس… وإذا استمرت الحرب فنحن نعرض الجيش للإبادة، وأرى أن نسحب الجيش إلى الضفة الشرقية.
قلت: بدلاً من الانسحاب إلى الضفة الشرقية أرجو أن تقوموا بتجميع الجيش حول القدس وداخل القدس، وإذا أمكن الصمود بضعة أيام، لعل مجلس الأمن يوقف القتال ونحن في القدس، وإن إسرائيل لا تحارب داخل القدس لأن ذلك يؤدي إلى الدمار الشامل.. ولا أظن إسرائيل تغامر بتدمير المدينة بكاملها.. إنها تريد الاستيلاء عليها سالمة بقدر الإمكان.
قال الملك حسين: سأتحمل المسؤولية وحدي.. إنها مسؤوليتي وحدي.
عند المساء وصلت برقية من المشير عبد الحكيم عامر جواباً عن برقية عبد المنعم رياض تقول: لا مانع من انسحاب الجيش النظامي بعد بذل آخر مجهود مع المبادرة لتوزيع السلاح على الأهالي للقيام بمقاومة شعبية.
أرسل الملك حسين إلى المشير عامر البرقية التالية: سنحاول الاستماتة في الصمود ولن نتراجع إلا إذا كان بقاء القوات الباقية عرضة للتدمير التام. الأسلحة أساساً موزعة على الأهالي.
وناولني الملك حسين البرقية، ووقفت عند عبارة “الأسلحة أساساً موزعة على الأهالي”، وقلت للملك حسين: بالأمس كانت المسيرات الشعبية في شوارع عمان تطالب بالسلاح لنجدة الضفة الغربية. وأردت أن أسترسل في هذا الموضوع، ولكني كظمت نفسي، فليس هذا وقت الحساب، وتركت للتاريخ أن يحاسب.. إذا لم يقع التاريخ تحت وطأة الزور والبهتان.
وفي ثنايا البلاغات التي كانت تنهمر على القاعة جاء جواب الرئيس عبد الناصر، نواجه على جبهتنا موقفاً متدهوراً نتيجة للضربة الجوية القاصمة التي جرت أمس… إن القرار الذي أراه هو إخلاء الضفة الغربية الليلة.
صعقت وأنا أقرأ برقية الرئيس عبد الناصر، فقد تجسدت أمامي الهزيمة وعلى لسان الرئيس عبد الناصر وفي اليوم الثاني من المعركة. ولمعت في ذهني أسئلة صارخة:
أبهذه السرعة الخاطفة حلت بنا الهزيمة؟
هل أصبحنا نطالب بوقف القتال في اليوم الثاني من القتال؟
هل نخلي الضفة الغربية لتتسلمها إسرائيل ومعها بيت المقدس، قدس أقداس الإسلام بعد مكة والمدينة؟
هل تحطم الجيش المصري أمل الأمة العربية، بدباباته ومدرعاته وطائراته.. هل تحطم في يوم واحد، بعد خمسة عشر عاماً من التدريب والتسلح؟
ما الذي جرى؟ أهي صاعقة ماحقة من السماء، أم زلزلة ساحقة من جوف الأرض؟
وتساءلت وتساءلت.. ثم جمدت أحاسيسي وتلبدت جوارحي، فقد كانت الصدمة فوق إحساسي وجوارحي. وكذبت سمعي وتناولت برقية الرئيس عبد الناصر بيدي لأقراها بعيني… فقرأت تماماً كما سمعت يا لهول ما سمعت وما قرأت!
عمان، 7 يونيو 1967
استيقظت على جرس التلفون، وإذا بأحد رجال منظمة التحرير يكلمني من قاعة الفندق… ودخل علي عبد الكريم العلمي، وهو يحمل على كتفيه وجهاً مكفهراً، كأنه كان مطموراً تحت الردم لبضعة أيام.. جلس يلهث وهو يقول: أنا موفد من قبل الإخوان في القدس.. لقد خرجت بأعجوبة.. المعركة رهيبة.. الطيران الإسرائيلي أحرق الأخضر واليابس والقوات الإسرائيلية اخترقت الخطوط الأردنية في كل القطاعات الأهالي فروا من القرى الأمامية، المصفحات الإسرائيلية تطارد اللاجئين وتسوقهم كقطعان الماشية.. القوات الأردنية تقاتل بشجاعة، ولكن نفدت مؤنهم وذخائرهم… كبار الضباط يقولون إنهم سيصفون حسابهم مع الملك حسين بعد انتهاء المعركة.
قلت: والقدس؟
قال: القوات الإسرائيلية احتلت جبل المكبر وجبل الزيتون.. ليس في المدينة القديمة أكثر من ثمان وثلاثين بندقية.. طالبنا بسلاح من غير جدوى… والناس الآن في هم وغم، لقد وصل إلى علمهم أن الجيش الأردني يعتزم الانسحاب من القدس، وقد اجتمع رجال المقاومة وأوفدوني لأبلغكم مطالبهم:
أولاً: إلغاء أوامر الانسحاب، والاحتفاظ بأكبر قوة ممكنة من الجيش الأردني في داخل القدس، فإن أهالي المدينة مصممون على حرب الشوارع.
ثانياً: مطالبة الدول العربية، وبخاصة مصر، بأن يشن السلاح الجوي العربي هجمات على الأهداف الحيوية في إسرائيل لتخفيف الضغط عن القدس ومناطق الضفة الغربية.
ثالثاً: مطالبة الاتحاد السوفياتي بتحديد موقفه، فإنه لا يكفي تأييد بالبيانات. إذا انكسرنا في هذه المعركة فالناس يعتبرون الاتحاد السوفياتي شريكاً في التواطؤ على الأمة العربية.
لم أدر ماذا أقول؟ وبماذا أجيب؟ وكلما حاولت أن أتكلم أحسست أن حجراً يملأ فمي.. لقد كانت مطالب أهل القدس سديدة ورشيدة.. ولكنهم لا يعلمون إلا ما تبثه إذاعات القاهرة ودمشق وعمان من أن المعركة مستمرة، وأن العدو تكبد خسائر فادحة بالمعدات والرجال.
وغادر العلمي عمان إلى القدس، ليسقط شهيداً بين القدس ورام الله بعد يومين، وينضم إلى قوافل الأبرار…
انتقلت إلى إذاعة إسرائيل، فإذا بها تنقل تصريحاً على لسان الجنرال إسحق رابين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يقول فيه إن: القوات الإسرائيلية تتجه نحو أبو عجيلة بعد أن استولت على العريش، وإنها احتلت خان يونس في قطاع غزة.
وجاء بعده تصريح للجنرال مردخاي هود قائد سلاح الجو الإسرائيلي: حطمنا 374 طائرة عربية أخرى. ولقد هالني هذا الخبر الأخير، وكدت اعتبره من باب المبالغات التي تلجأ إليها البلاغات العسكرية في زمن الحرب، ولكني تذكرت برقية الرئيس عبد الناصر إلى الملك حسين وازددت فهماً لموضوعها.. وازددت فهماً للابتهالات الإلهية التي وردت في ختام كلام الرئيس عبد الناصر. وأحسست بهول الفاجعة على قلب الرئيس عبد الناصر، وبالأمس كانت تتطلع إليه الأمة العربية بأكبر آمالها وأقدس أهدافها.
أحسست بهول الفاجعة أيضاً وأنا أستمع إلى الإذاعة الإسرائيلية وهي تذيع سقوط خان يونس وغزة، وأن اللواء عبد المنعم حسني قائد قطاع غزة قد وقع وثيقة استسلام في حفل رسمي قال فيها: أستسلم للقوات الإسرائيلية من غير قيد ولا شرط.
ثم تبع ذلك بلاغ عسكري يقول إن: إسرائيل قد أصبحت سيدة الجو في الشرق الأوسط وإن القوة الجوية المصرية قد أبيدت…
تلقيت مكالمة من الفريق رياض من غرفة العمليات يطلب مني أوافيه، وغادرت الفندق إلى سيارتي.. فإذا بالشوارع مكتظة بالجماهير في مسيرات شعبية وكلها تطالب بالتسليح والتدريب.. نريد السلاح نريد الالتحاق بالمعركة.. نريد حماية القدس… نريد مساندة الجيش الأردنى. وأمام دار الحكومة، وقف أحد الموظفين يخاطبهم: أحييكم باسم جلالة الملك، وأحيي حماستكم، أرجو المحافظة على الهدوء والنظام، لقد أمر جلالة الملك بفتح معسكرات التدريب وتسليمكم السلاح لتشتركوا بالمعركة. وتركت الجماهير تطوف في الشوارع وهي لا تدري أن زمن التسليح والتدريب قد فات، وأن المعركة تقترب من النهاية.
وصلت القيادة، ووجدت الملك حسين والفريق رياض والقادة الأردنيين مجتمعين، وقد اتفقت كلمتهم أن الجبهة المصرية قد انهارت وأن القوات الإسرائيلية في طريقها إلى القاهرة غداً أو بعد غد.
وانتقلوا بعد ذلك إلى تقدير الموقف على الجبهة السورية، فقال الفريق عبد المنعم رياض: لا يوجد معركة بالمعنى الصحيح على الجبهة السورية حتى صباح اليوم، المناوشات تخف وتشتد، ولكن لا يوجد هجوم من الطرف السوري، ولا من الطرف الإسرائيلي.
وعن الجبهة الأردنية، تكلم اللواء عامر خماش قال: الانسحاب يجري بصورة منتظمة.. ونحن نأمل البقاء غربي النهر أقصى مدة ممكنة، إلى أن يستطيع مجلس الأمن تنفيذ قراره بوقف إطلاق النار، وقواتنا تتكبد خسائر فادحة.
وانتفض الملك حسين غاضباً وقال: خسارة فادحة.. هه.. الخسارة تتجاوز عشرين ألف قتيل، خسرنا كذلك معظم دباباتنا. الأرض يمكن أن تعوّض.. يمكن أن نستردها، لكن الجيش لا يعوض. وخرج الملك حسين وهو يردّد: خسرنا نصف الجيش، والنصف الثاني يعتبر في حكم الهالك.
وانفض القادة العسكريون كل إلى شأنه. وعدت إلى الفندق، فلم يعد لي مكان في غرفة العمليات بعد أن أصبح الانسحاب هو رأس العمليات… وكانت الجماهير لا تزال تطوف الشوارع كما تركتها في الصباح، وهي تطالب بالتدريب والسلاح والالتحاق بالمعركة.. والمعركة تقترب من النهاية…
فتحت إذاعة إسرائيل وكان العار، كان بركاناً من العار. قالت الإذاعة: لقد سقطت القدس القديمة بأيدي قواتنا، واستولينا على بيت لحم وأريحا ومعظم الضفة الغربية.. وكان أول ما فعله جنودنا حين دخلوا المدينة بعد الظهر أنهم صلوا عند حائط المبكى… وقد استغرق الهجوم 90 دقيقة اشتركت فيه المشاة والمدرعات والمدفعية.
وبعد ساعات قليلة وصل الجنرال موشى ديان إلى حائط المبكى وقال: لقد رجعنا ولن نتخلى عن القدس.. لقد حررت قواتنا المدينة المقسمة عاصمة إسرائيل، لقد رجعنا إلى مدينتنا، أقدس مقدساتنا ولن نتركها أبداً.
وتابعت الإذاعة الإسرائيلية كلامها قائلة: وجاء بعده ليفي أشكول رئيس الحكومة.. وبعد أن صلى عند الحائط وجه كلامه إلى المصلين معلناً: أن هذا يوم عظيم في التاريخ اليهودي، وإني أعتبر نفسي الآن وفي هذا المكان ممثلاً للشعب اليهودي بأجمعه ولأجيال كثيرة من اليهود الذين كانت تحن أرواحهم نحو القدس ومقدساتها.
الله، الله، لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب متثاقلون عن القتال!
الله، الله، لقد سقط بيت المقدس وحكام العرب والمسلمون متشاغلون عن الجهاد!
ورحت أبحث عن النكبات الكبرى في تاريخ العروبة والإسلام لأستعير كلاماً يخفف المصاب.. فلم أجد.
هل أقول وإسلاماه؟ لا، إن المصاب أعظم.
هل أقول وامعتصماه؟ لا، إن الكارثة أدهى.
لم أستطع أن أتكلم، فقد تعطلت ملكة الكلام. لم أستطع أن أبكي، فقد تجمدت عيناي عن البكاء.
لم أستطع أن أستذكر شعر المراثي في دواوين العرب، فقد تبلدت ذاكرتي.. كل مشاعري تعطلت.. كل أحاسيسي تجمدت، كل جوارحي تحجّرت. فقد كانت الكارثة فوق قدرة الشعور على الشعور، وفوق طاقة الإحساس على الإحساس.
وانثنيت إلى الإذاعة الأردنية لأسمع ماذا تقول، فانقلبت أضحك كالأبله.. وشر البلية ما يضحك. كانت الإذاعة الأردنية تذيع برقية بعث بها جلالة الملك فيصل إلى جلالة الملك حسين، يعرب فيها عن: إعجاب العرب والمسلمين وتقديرهم للموقف الذي يقفه الشعب والجيش في الأردن… وأن السعودية تضع كل إمكاناتها في خدمة المعركة.. إلى آخر الكلام… وأورام الكلام.
ولكن أورام الكلام تكاثرت بعد المعركة؛ فقد انطلقت الخطب الرسمية في الوطن العربي، تقول: لقد انتصرت إسرائيل في الحرب، ولكن عجزت عن تحقيق أهدافها السياسية. كانت إسرائيل تريد إسقاط النظم التقدمية، ولكنها فشلت في تحقيق ذلك… لقد احتلت الأرض، ولكن الحكومات الثورية باقية…
ولقد ضجت الأمة العربية وهي تسمع هذا الكلام… وتمنت لو سقطت كل الأنظمة الثورية والتقدمية، ومعها جميع الملوك والرؤساء، قبل أن يسقط حجر واحد في بيت المقدس، أو تهتز حبة رمل في سيناء، أو تقصف قشة في الجولان.