![](https://supportprophetm.com/wp-content/uploads/2024/02/الهيئة-38-150x150.jpg)
بركات أمهات المؤمنين
فبراير 12, 2024![](https://supportprophetm.com/wp-content/uploads/2024/02/الهيئة-40-150x150.jpg)
الترابط الأسري في المجتمع النبوي
فبراير 12, 2024من نظر إلى حياة الرسول ﷺ عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصراً على زوجة واحدة شبه عجوز- خديجة ثم سودة- عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغتةً في نفسه قوة عارمة من الشبق لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجلّ وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج.
فاتجاه الرسول ﷺ إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة- وكذلك تزويجه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان -يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة، الذين عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام.
وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم باباً من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم، فأراد رسول الله ﷺ بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر سورة عداء القبائل للإسلام، ويطفئ حدة بغضائها
كانت أم سلمة من بني مخزوم- حي أبي جهل وخالد بن الوليد- فلما تزوجها رسول الله ﷺ لم يقِف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأُحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعاً راغباً، وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول الله ﷺ بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أَسْر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول الله ﷺ، وقالوا “أصهار رسول الله ﷺ”. ولا يخفى ما لهذا المنّ من الأثر البالغ في النفوس.
وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي ﷺ كان مأموراً بتزكية وتثقيف قوم لم يكونوا يعرفون شيئاً من آداب الثقافة والحضارة والتقيد بلوازم المدينة، والإسهام في بناء المجتمع وتعزيزه.
المبادئ التي كانت أسساً لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يمكن تثقيفهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادئ، مع أن مسيس الحاجة إلى تثقيفهن لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى.
إذن فلم يكن للنبي ﷺ سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن لتربية البدويات والحضريات، العجائز منهن والشابات، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء.
وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله ﷺ المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من أفعاله وأقواله.
وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني. وكان للمتبنى عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تأصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلاً، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيراً من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام ليمحوها عن المجتمع.
ولهدم تلك القاعدة أمَر الله تعالى رسوله ﷺ أن ينكح ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هَم زيد بطلاقها، وذلك في ساعة تألب الأحزاب على رسول الله ﷺ والمسلمين، وكان رسول الله ﷺ يخاف دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فأحب ألا يطلق زيد؛ حتى لا يقع رسول الله ﷺ في هذا الامتحان.
ولا شك أن هذا التردد والانحياز كان لا يطابق مطابقة تامة للعزيمة التي بعث بها رسول الله ﷺ، فعاتبه الله على ذلك وقال:﴿ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِىٓ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُۖ…﴾ [الأحزاب: ٣٧]
وأخيراً طلقها زيد وتزوجها رسول الله ﷺ في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها. وكان الله قد أوجب عليه هذا النكاح، ولم يترك له خياراً ولا مجالًا، حتى تولى الله ذلك النكاح بنفسه يقول: ﴿فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَٰكَهَا لِكَىْ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىٓ أَزْوَٰجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا…﴾ [الأحزاب: ٣٧] وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلاً كما هدمها قولاً: ﴿ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ﴾[الأحزاب: ٥] ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍۢ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: ٤٠]
وكم من التقاليد المتأصلة الجازمة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول! بل لا بد له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي ﷺ نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وَضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي ﷺ أولئك الصحابة المتفانين في ذاته – بعد عقد الصلح – أن يقوموا فينحروا هداهم لم يقُم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحداً ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جلياً ما هو الفرق بين أثرَي القول والفعل لهدم قاعدة راسخة.
وقد أثار المنافقون وساوسَ كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثّر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه ﷺ، ولم يكن يعرف المسلمون حِل الزواج بأكثر من أربع نسوة، وأن زيداً كان يُعد ابناً للنبي ﷺ، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله تعالى وسع لرسوله ﷺ في الزواج ما لم يوسع لغيره لأغراضه النبيلة الممتازة.
هذا، وكانت عشرته ﷺ مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس: “ما أعلم النبي ﷺ رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط” (١).
وقالت عائشة: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أُوقدت في أبيات رسول الله ﷺ نار”. فقال لها عروة: ما كان يعشيكم؟ قالت: “الأسودان؛ التمر والماء” (2).
والأخبار بهذا الصدد كثيرة.
ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة – حسب مقتضى البشرية، وليكون سبباً لتشريع الأحكام – فأنزل الله آية التخيير﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلْءَاخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٨، ٢٩] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن الله ورسوله، ولم تمِل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا.
وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر مع كثرتهن إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب الله عليه فلم يعدن له مرة أخرى، وهو الذي ذكره الله في سورة التحريم بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ…﴾ إلى تمام الآية الخامسة.
وأخيراً أرى أنه لا حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، (ص136-139)، طبعة: دار الهلال – بيروت، ط1. والعنوان من وضع هيئة التحرير.