من أنصاري إلى الله
فبراير 6, 2024الهجرة سُنة نبوية وكونية
فبراير 7, 2024هجر رسول الله – فراشه امتثالاً لأمر ربه: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2]
وهـجـر الـراحـة امتثالاً لأمـر ربه: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 2]
وهجر ماله وعشيرته وبلده مكة امتثالاً لأمر ربه.
ونحن يا أخي- ماذا هجرنا امتثالاً لأمر ربنا؟! لقد تحمل سيلاً من العذاب والمشاق في طريق هجرته بينما منا من لا يقبل أن يشاك الشوكة في دين الله، وهو إلى الله سائر!
وخاطر بحياته والمشركون به متربصون ومنا من لا يريد أن يخاطر بماله فيدفع الزكاة!! وقطع القفار والصحاري، ليصل بالدعوة إلى بر الأمان، ومنا من يكسل عن المشي إلى المسجد المجاور.
ومثلما ضحّى رسول الله ﷺ ضحّى أصحابه تضحيةً تابعةً عن حبٍ ورضا، لا عن حزن وألم. قالت أم المؤمنين عائشة تصف حال أبيها حين علم بصحبته لرسول الله ﷺ في الهجرة: ” فوا لله ما شعرت قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي “.
وهذا والله بكاء الرجال.. فسبحان من فاوت بين الهمم، فمنها القمم، ومنها الرمم، ومنها السارح في الطاعات، ومنها الهائم في الشهوات، فأبو بكر يبكي فرحاً لأنه خارج في رحلة الموت!! ويبكي فرحاً لفراق ماله وهو الغني الموسر!! ويبكي فرحاً لفراق قومه، وهو صاحب الكلمة والمكانة فيهم!! ويبكي فرحاً لمخاطرته في رحلة شاقةٍ طويلة، يطارَد فيها، ويطلب فيها دمه، وهو الآمن المطمئن!
فلا عجب أن يحوز وسام الشرف، وراية الكرم، فيسميه الله بالصديق من فوق سبع سماوات. قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ٣٣﴾ [الزمر: 33]،
فلقد صدّق رسول الله بفعله قبل قوله، وبحاله قبل لسانه، ولذا استحق مدح الله وثناءه في قوله: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 40]
قال الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر: ضحوا في سبيل الله لأن عقولهم الذكية أرشدتهم إلى هذه المعادلة الزكية، والتي صارت شعاراً لكل مهاجر:
بغض الحياة، وخوف الله أخرجني . . . وبيع نفسي بما ليست له ثمناً
إني وزنت الذي يبقى ليعدله . . . ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وصف رسول الله ﷺ عبادة المهاجرين الجدد فقال:
” عبادة الهرج كهجرة إلي “
والهرج هو الفتنة واختلاط أمور الناس بين الحلال والحرام، حين ينتشر الحرام يظنه الناس حلالاً لكثرته، ويُهجـر الحلال.
وينساه الناس لندرته.
قال النووي: ” وسبب فضل العبادة فيه: أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد “، من قام بالليل يصلي، وغيره غارق في لهوه، سكران في شهوته، فهو من المهاجرين.
من غض بصره عن الحرام في زمن غرق فيه الشباب في براثن القنوات الفضائية، والأفلام الإباحية، فهو من المهاجرين.
من عفت يده عن الحرام، حين تغلغل الحرام إلى النخاع، وطريق أبواب الأنقياء، فهو من المهاجرين.
من أمسك لسانه عن ذكر الناس، والناس فاكهتهم ذكر فلان وغيبة فلان، فهو من المهاجرين.
من تركت التبرج والزينة الحرام، وسط أخواتٍ لها كاسياتٍ عارياتٍ، فهي من المهاجرين.
ما أحوجنا إلى هذا النوع من الهجرة في زماننا هذا، الذي تنكبت فيه أمتنا طريق الهداية، ونافست أهل الكفر في إتيان المنكرات، إلا من عصم ربك، فشاع الزنا، وعم الربا، وشُربت الخمر جهاراً نهاراً، وجاهر أقوام بعبادة الشيطان، وفشا الفجور في صورة الزواج العرفي، وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر، وما أحوجنا إلى أن نتسلى بحديث عبد الله بن حبشي الخثعمي
حين ” سأل رسول الله ﷺ: أي الهجرة أفضل؟ فقال: من هجر ما حرم الله عليه.. لنردد بالسنتنا ونجسد بجوارحنا قوله ﷺ: ” المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب “. صحيح
أعلى درجات التوكل. هذه هي السمة الثانية من سمات المهاجرين الجدد تعلموها من خير معلم وأعظم قدوة: رسول الله.
قال أبو بكر: كنت مع النبي ﷺ في الغار فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال: يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما “. يجيبه النبي – بجواب ملؤه التوكل والاعتماد على الله وحده، لأن الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [الأنعام: 103]
فمـن كـان فـي معـيـة اللـه فـهـو أيضـا ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [الأنعام: 103]
قال الله عز وجل:﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]
فلا حزن لأن من كان الله معه لا يغلب، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن.
فمعنى المعية هنا:
النصر والدفاع، وليس مجرد العلم والإحاطة، وظهرت هذه الطمأنينة جلية حين انتهى المشركون إلى الجبل الذي كان فيه رسول الله ﷺ، وجلس رجل يبول مواجهة الغار، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الرجل ليرانا، وكان مواجهه، فقال ﷺ: كلا إن ملائكةً تسترنا بأجنحتها، ولو كان يرانا ما فعل هذا.
ولذا صح عن الرسول ﷺ أنه كان طوال الرحلة مطمئناً لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً حتى بعد أن أدركه سراقة بن مالك.
وما أحوجنا إلى أن نتعلم هذا التوكل، فلا يعود في قلوبنا غير الله، لا نرجو ولا ندعو، ولا نثق ولا نطلب، ولا نلجأ ولا تعتصم، ولا نخاف ولا نرهب إلا الله، ومن كان هذا حاله في الدنيا، فهو يعيش في الجنة قبل دخولها، وفي النعيم وأي نعيم. كيف الوصول؟!
لكن كيف يصل مثلي ومثلك إلى مثل هذه القمة الباسقة، والدرجة العالية من صدق التوكل على الله، والاطمئنان إليه، وعدم الركود إلى غيره؟! تولى ابن القيم الإجابة فقال: إنما يودع الله ذخائره في قلب يرى الفقر غني مع الله، والغنى فقراً من دون الله، والعز ذلاً دونه، والذل عزاً معه، والنعيم عذاباً دونه، والعذاب نعيماً معه، وبالجملة فلا يرى الحياة إلا بالله، ومع الله، والموت والألم والهم والغم والحزن إذا لم يكن مع الله، فهذا له جنتان، جنة في الدنيا معجلة، وجنة يوم القيامة “.
وقد قص الله علينا قصة ذلك التوكل الفريد في كتابه المجيد
فقال: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ٤٠﴾ [التوبة: 40]
لم تنزل هذه الآيات وقت الهجرة أو بعدها بقليل، كما قد يتبادر إلى الأذهان، ولكنها نزلت في العام التاسع من الهجرة، وهو العام الذي شهد غزوة تبوك والتي سميت بالعسرة …
عسرةٌ في الظَّهر: حيث كان الثمانية عشر صحابياً يتعاقبون على بعير واحد.
وعسرةٌ في الماء: حيث كان الرجل ينحر دابته فيعصر روثها فيشربه من شدة العطش.
وعسرةٌ في النفقة: حيث تخلَّف من لم يكن معه تكاليف هذه الرحلة الطويلة الشاقة. وقد نزلت حين تأخر بعض أصحاب النبي ﷺ عن الخروج معه، فقال الله لهم: إلا تنصروه فإن الله ناصره ومؤيده، كما نصره برجل واحد فحسب هو أبو بكر يوم الهجرة، فالله غني عن الألوف منكم إذا تأخروا عن نصرة نبيه، أما جنوده التي يستطيع أن يؤيده بها فهي لا تعد ولا تحصى، فانصروه لا لحاجته إليكم – حاشاه- بل لحاجتكم أنتم إليه وإلى شفاعته وإلى رضاه.
وختم الله الآية بقوله: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾ ، وهي كما ترى جملة فعلية، والجملة الفعلية تفيد التغير، وعدم الدوام، فكلمة الكافرين وإن علت في زمن من الأزمان، فهو علوٌ طارئ مصيره حتماً إلى هبوط، وعزٌ سائر إلى ذلٍ، وقوة من ورائها الضعف. ثم قال: ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾، وهي جملة إسمية، والجملة الاسمية تستخدم للتعبير عن الحقائق، والإخبار عن الثوابت، فكلمة الله دائما وأبداً هي العليا، لم تهبط يوماً ولم تذل: إنما هبط من فرط فيها، فلم يحملها، ولم يرعها حق رعايتها، فأُذل وأُهين، وذاق الخسران المبين.
من أنصاري إلى الله؟!
إخوتاه .. هل لنا أن نخاطب أنفسنا مثل هذا الخطاب الآن، ونقول: إن لم ننصر رسول الله فينا بالتزام سنته، ونشر هدايته، والذود عن حماه، والتأسي به في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته، وإن لم نكن جنداً في جيشه وسهماً في كنائته، ورهناً لإشارته، فإن الله ناصره: بـ
﴿بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ﴾ [المائدة: 54].
إن دين الله منتصر، وشريعته ظاهرة على الكون كله، سواء تكبدنا مشقة العمل له، أم رضينا بالنوم والرقاد، لكن هل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله؟! هيهات هيهات:
﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾ [النساء: 95].
وهي درجة ليست هيئـة، وفرق ليس بسيطاً، بل هو كمـا أخبر ربنا:
﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا٩٥﴾ [النساء: 95]
الآن إلى السمة الثالثة من سمات المهاجرين: نتجول في رحابها، وتنعم في ظلالها، بالأنوار المشرقة الساطعة، من محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
لما مشى رسول الله ﷺ وأبو بكر إلى الغار، جعل أبو بكر الصديق يكون أمام النبي ﷺ مرة وخلفه مرة، فسأله النبي عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تُؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تُؤتى من خلفك، حتى إذا انتهيا إلى غار ثور ليلاً قال أبو بكر: أدخل فأحسه وأقصه، فإن كان فيه دابةٌ أصابتني قبلك، وكان في ذلك الغار جُحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفاً من أن يخرج منه دابةٌ أو شيء يؤذي رسول الله.
أخي الحبيب..
أحب أبو بكر رسولَ الله ﷺ حباً صادقاً، فدفعه ذلك إلى أن يحميه من كل ما يؤذيه، أو يسوؤه أو يضره، ولكن توقف معي لحظة !!
أريد أن أهمس في أذنك بكلمة: وهل يؤذي رسـول الله، أو يسوؤه، أو يضـره شيء، أكثر من أن تخالف سنته، وتهجر شریعته؟!
إن جراحات بدنه ﷺ لم تكن تضيره، بدليل أنه لما أصيب إصبعه في بعض المشاهد أنشد قائلا:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
لكنه في المقابل.. لا يطيق جراحات قلبه بعصيان قومه، أليس هو الذي كان لا يغضبه شيء إلا أن تنتهك محارم الله؟ فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء؟! فيا أخي.. هل أرضيت رسول الله أم أغضبته؟! هل أحببته أم أحببت مخالفته؟! هل أطعته أم عصيته؟! محبة صديقية.
يا أخي: من أحب رسول الله حماه من كل ما يؤذيه، تماماً كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ليس في حياة النبي ﷺ فحسب حين حمى جسده الشريف مما يؤذيه، بل كذلك بعد موته، حين حمي شريعته الغراء ممن أراد أن يبدلها، وامتنع عن دفع الزكاة، فحارب المرتدين قائلاً:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟ ولما كلمه الناس في أن لا يبعث جيش أسامة، وهو الجيش الذي كان رسول الله ﷺ قد أنفذه ثم لقي ربه قبل خروجه، لما كلموه أن لا ينفذ الجيش لحاجته إليه، زمجر كالأسد الهصور، وأردف كالرعد القاصف: والله لو أن الطير تخطفتني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشاً وجهه رسول الله ولا حللت لواء عقده.
والله لو لم يكن في القرى غيري لأنفذته، أوَ أُطيعه حياً وأعصيه ميتاً؟؟ “،
يعلمنا بذلك درسا بليغا في المحبة الصادقة، على أنها ليست في قصائد المدح وأشعار الثناء، بل في التزام النهج وحسن الاقتداء، ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاماً، وما أغلاه حين يكون قدوةً والتزاماً.
نساء عاشقات
لما رأى رسول الله ﷺ اختلاط النساء بالرجال في الطريق قال للنساء: ” استأخرن.. عليكن بحافات الطريق ” فسمعن وأطعن، فكانت المرأة تلتصق بالجدار: حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتـاب الله، ولا إيمـاناً بالتنزيـل منهن، لقد أنزلت سـورة النـور:
﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وكل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل – المزخرف – فاعتجرت به – شدته على رأسها – تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله ﷺ معتجرات كان على رؤوسهن الغربان “.