حُكم المعتدين على أمهات المؤمنين
فبراير 9, 2024مفزع اليتامى والأرامل
فبراير 9, 2024قال صاحبي في جلسة استرخاء في ليلة هادئة: أخذتُ أقلب ملفات الذاكرة الكليلة، فوجدت أن ثمة أشخاص مرّوا سريعاً في حياتي، ولكنهم تركوا بصمات مؤثرة في وجداني.
من هؤلاء زميل في أولى سنوات الدراسة الجامعية، كان يعاني من قلة ذات اليد، فكنت أهديه أحياناً قيمة الكتاب الجامعي، وفي أحايين أخرى أقرضه مبلغاً يسيراً لا يكاد يسد حاجته ليومين أو ثلاثة.
وتمضي الأيام وأقرر الانتقال من جامعتي لجامعة في منطقة أخرى، وكان هذا إيذاناً بالفراق مع صديقي الذي رافقني خلال إنجاز إجراءات انتقالي، وقد تزامنت ساعة الوداع مع استلامنا للمكافأة الجامعية التي كانت لا تتجاوز (850 ريالاً)؛ فوقف صاحبي في ساعة الوداع فلاحظت أن عينيه محمرتان من التأثر، فعانقني مودعاً ثم غافلني ووضع في جيبي (700 ريالاً) وأقسم بالله أن آخذها كهدية، وعبثاً حاولت منعه دون جدوى، لقد كنت أدرك من حال صديقي ماذا يعني هذا المبلغ بالنسبة له في تلك الظروف الصعبة التي كان يعيشها، فقد دفع الرجل مبلغاً كان يمثل له في تلك الأيام قيمة طعامه، ووقود سيارته القديمة، ولكنه آثر أن يخص به صاحبه المقتدر الذي وإن سبقه في العطاء، ولكنه لم يسبقه في الجود والنبل والوفاء.
قلتُ لصاحبي: إن نفاسة معدن صديقك ظهرت في ذلك الموقف، وتجلت من زاويتين:
الأولى: أنه آثرك بهذا المبلغ في وقت كان في حاجة ماسة له، فالبذل في حال الحاجة لا يماثل البذل في حال السعة، وإن كان البذل محموداً في كل حال.
الثانية: أنه دفع هذه الهدية في لحظة الوداع، فهو لا يرتجي منفعةً من ورائها، بدليل أنه لم يتسن له اللقاء بك منذ ذلك اليوم.
تلك الأمثلة المشرقة في الإيثار والوفاء تحتاج منّا أن نتعاهدها بالذكر الحسن، والدعاء الصادق، وأن نَشُدّ الأيادي على أصحابها، لأن هذه النماذج النبيلة يعّز الحصول عليها في حياتنا الصاخبة الحافلة بالتنافس المذموم، والأنانية المفرطة، ولكننا لن نعدم في أرشيف ماضينا ويوميات حاضرنا أطيافاً جميلة وقلوباً طاهرة وأرواحاً ملائكيّة، تستمتع بالبذل والتضحية والعطاء، كما يستمتع آخرون بالأخذ والأنانية والإقصاء.
ربما كان ذلك الطيف أمّاً أو زوجة أو أخاً أو صاحباً، وليست الحسرة بنسيان حقهم علينا، أو عدم الشعور بقيمتهم فحسب، بل الأسى كل الأسى ألّا نشعر بقيمتهم في حياتنا حتى بعد رحيلهم .
لقد علمنا النبي صلوات ربي وسلامه عليه أن الوفاء مع هذه النماذج لا يقف حتى عند رحيلهم أو فقدهم؛ فقد جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن استقبالها، فقال لها: “كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟” قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: “يا عائشة إنها كانت من صواحب خديجة، وإنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* موقع “اليوم”، منشور في 7/ 2/ 2014م.