الآية الخالدة
فبراير 5, 2024أصول الدعوة المحمدية
فبراير 5, 2024أولاً: البيئة التي ظهر فيها النبي صلى الله عليه وسلم، يصورها الحديث النبوي الذي رواه مسلم في صحيحه عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ”
وكذلك يصوِّرُه قولُ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بين يدي النجاشي: أيها الملك كنَّا قوما أهلَ جاهليةٍ، نعبدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويُ منا الضعيفَ.
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، لنُوحدَّه، ونعبده، ونخلعَ ما كنا نعبد نحن وآباؤُنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداءِ الأمانة، وصلةِ الرَّحم، وحسنِ الجوارِ، والكفِّ عن المحارمِ والدماءِ، ونهانا عن الفواحشِ وقولِ الزور، وأكلِ مالِ اليتيم، وقذفِ المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشركَ به شيئاً، وأمرنا بالصلاة، والزكاة.. وعدّد عليه أمور الإسلام.
فصدّقناه، وآمنَّا به، واتّبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشركْ به شيئاً، وحرَّمْنا ما حَرَّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذَّبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحِلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلَم عندَك أيها الملك!
ثانياً: كيف أصلح النبي صلى الله عليه وسلم من حال تلك البيئة التي ظهر فيها؟
1/ ظهر صلى الله عليه وسلم في بيئة غلبت عليها ضروب الجهالة والوثنية، والتعلق بالخرافات والأباطيل والترهات، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى إعمال العقل، وما كان منه من تلك الأقيسة العقلية التي لجأ إليها في تقرير الأحكام.
2/ كانت بيئته تُعلي من قيمة الجنسِ والقبيلةِ والعنصرِ، وكان بعضُهم يرى نفسَه لولاه لمادت الأرض، ويَغْلُبُ عليهم الفَخرُ والخيلاءُ، فما كان منه إلا إعلاءَ قيمِ الإيمانِ على ارتباطاتِ القبيلةِ والعنصرِ والجنسِ.
3/ النبي الزوج في بيئة كانت تظلم الأزواج، وتُسيءُ إليهنَّ، وتُغلِظُ عليهنَّ، كيف أثنى على زوجاته؟ كيف أحسن معاملتهن؟ كيف صبر عليهن؟
4/ النبي الأب الحاني العطوف، في بيئة تحب البنين، وتَبغضُ البنات، في بيئة لا ترى للأنثى حقاً، كيف كان ترحيبُه بفاطمة ابنته رضي الله عنها؟ وكيف صلى حاملاً أمامة بنت زينب، وكيف كان اهتمامه بزينب حين كانت بمكة، وكذلك حاله مع الحسن والحسين وهو على المنبر.
5/ كيف كان النبي الإنسان في قيامه لجنازة يهودي، وفي عيادته للمريض اليهودي، وفي رفضه التمثيل بسهيل بن عمرو رضي الله عنه، حين أسر يوم بدر.
6/ النبي مع أصحابه، كان رؤوفاً رحيماً بهم، يتعهَُّد حاضرهم، ويسأل عمن غاب منهم، ويسلّم عليهم، ويشمّت عاطسهم، ويُواسي فقيرهم، ويُعين ضعيفهم، ويُشاركهم في السراء والضراء، ويعود مريضَهم، ويشيّعُ ميّتَهم، ويكسو عارَيهم، ويُشْبِعُ جائعَهم، ويرعى أراملهم، وأيتامهم، ويجالس فقراءهم والأعبدَ منهم، ويحنّكُ أطفالهم، ويبارك عليهم، ويداعب صبيانهم، ليدخلَ السرور على نفوسهم.
ما رؤي مادّاً رجليه بينهم، ولا عابساً في وجه أحد منهم، ولا استأثر عليهم بشيءٍ لنفسه ولا لأهله، ولما عرض عليه صاحباه في ركوب البعير في غزوة بدر أن يعفياه من نوبته في المشي أبى، وقال: “ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما”. وكان مع أصحابه في سفرٍ، فذبحوا شاةً، فقال واحد منهم: عليّ ذبحُها، وقال الآخر: عليّ سلخُها، وقال الثالث: عليّ طبخُها، فقال رسول الله: “وعليّ جمع الحطب” فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك العمل، فقال: “علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، وإن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه”، وفي حجةِ الوداع ذهب ليشرب من السقاية، فأراد عمه العباس أن يميَّزَه بشرابٍ خاصٍ من البيت، فأبى وقال: “لا أشرب إلا مما يشرب منه الناس”.
7/ وكان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالوعد، وأرعاهم للعهد، وأوصلُهم للرحم، قبل النبوة وبعدها، وقد عاهد اليهود والمشركين، فما نقض العهد، ولا عُرف منه الغدرُ، ولمَّا تُوفيت السيدة الجليلة خديجة، كان دائمَ الذكرِ لها، والثناءِ عليها، حتى كانت عائشةُ تغار من ذلك، وكان يحب حبيباتِها ويبرّهنّ، فكان يذبح الشاة، ويُقَطِّعُها، ويقول: “أرسلوا إلى صديقات خديجة”.
وكانت تستأذن عليه هالة بنت خويلد أخت خديجة فَيَهَشُّ لها، وترتاح نفسه، لأن صوتها يُذَكِّرهُ بصوتِ الحبيبةِ الغائبةِ خديجةِ، وجاءته ذات يوم امرأة عجوز من صويحباتِ خديجة، فصار يسألها عن أحوالها، وما صارت إليه، ولما خرجت قالت له عائشة: تُقبِلْ على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: “إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان”.
وكان يُوصي بالوفاء، ورعاية العهد حتى للحيوان، وقد قدمنا لك قصة المرأة التي ركبت ناقة، فنذرت إن نجّاها الله عليها لتذبحنَّها، فلما أخبرته قال: “بئسما جَزَيتِيهَا أن حملك الله عليها ونجَّاكِ بها، ثم تنحرينَها”
8/ إعلائه قيم الرحمة والرأفة في بيئة غلب عليها الغلظة والقسوة والعنف؛ بحسبه شرفاً أنَّ الله وصفه باسمين من أسمائه فقال: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وقد آذاه قومه وعشيرته أشد الإيذاء، فوضعوا الشوك في طريقه، والقَذَرَ على بابه، وحاولوا خنقه وقتلَه، ووطِئُوا رأسه وهو يصلي، ووضعوا سلا الجزورِ على ظهره، ومع ذلك كان يقول: “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”.
ولما ذهب إلى ثقيف داعياً إلى الإسلام، فأبوا وأغروا به الصبيان والسفهاء، حتى أدموا عَقِبَه، أرصدَ الله له في الطريق، وهو راجعٌ ملَكَاً من ملائكته، وعرض عليه أن يُهلكهم، فأبى وقال: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا”، وفي رواية: فقال له جبريل: “صدق من سمّاك الرؤوف الرحيم”.
ومن المُثلِ الرائعةِ في هذا، ما رواه البزار بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه “أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينُه في شيءٍ- قال عكرمة أراه قال في دمٍ يعني دية- فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال: “أحسنت إليك؟” قال الأعرابي: لا، ولا أجملت!! فغَضِبَ بعضُ المسلمين، وهمّوا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن كُفّوا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ إلى منزلِه دعا الأعرابيَّ إلى البيت، وزاده شيئا، وقال: “أأحسنت إليك؟” فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا!! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيءُ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتى يذهب ما في صدورهم عليك” قال: نعم، فلما كان الغد أو العشية جاء، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟” قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا! فقال صلى الله عليه وسلم:
“إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتّبعَها الناسُ، فلم يزيدوها إلا نُفورا، فناداهم صاحبها: خلّوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه إليها وأخذ لها من قمام الأرض ودعاها، حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه دخل النار”.
وسند القصة وإن كان فيه راوٍ ضعيف، إلا أنه يؤخذ به في باب الفضائل.
وفي الحق أن هذا الحديث فيه نورٌ من نورِ النبوة، وروعةٌ في التمثيل لا يُقْدَرُ عليها، ولن يكون مصدرُها إلا النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومع كونِ المثل ليس بالأمر الغريب عن البيئة العربية، إلا أن النبي الفصيح البليغ، ألبسه ثوباً قَشِيباً حتى بدا غايةً في الروعة وغايةً في التأثير، هذا إلى ما بين الممثّل به، والممثّل له من التطابق البديع، والتوافق العجيب!
ومن رحمته بأمته تخفيفه وتسهيله عليهم، وكراهته المواظبة على بعض السنن كالتراويح، مخافة أن تفرض عليهم، وكراهتِه كثرةَ سؤالهم حتى لا يكون سبباً في تحريم ما سكت الله عنه رحمةً بهم، وقد شملت رحمتُه المؤمنَ والكافرَ، والصديقَ والعدوَ، والإنسانَ والحيوانَ والطيرَ، ولمَّا قالوا له: إنّ لنا في البهائم لأجرا؟ قال: “في كل كبد رطبة أجر” ونهى، بل “لعن من اتخذ الحيوان غرضاً”، وكان من رحمته أنه يُمِيلَ الإناء للهرة لتشربَ منه، ومرض ديكٌ له فقام على تمريضه، وقال: “دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”، وكذلك شملت رحمته الإنسَ والجنَّ وصدق الله حيث يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
ومن كل ذلك- وغيرهِ أكثر منه- يتبيّن لنا شفقتُه صلى الله عليه وسلم على الأمة، وحرصُه البالغُ على حياتهم، وإرشادُهم إلى الصراط المستقيم، وإلى تحصيل السعادتين الدينية والدنيوية، وإنا لنلمس هذا المعنى الجليل في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن مثَلي ومثل أمتي، كمثل رجلٍ استوقد ناراً، فجعل الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يحْجِزُهُنَّ، ويَغْلِبْنَه، ويتقحّمن فيها، فهذا مثلي ومثلكم، فأنا آخذ بِحَجُزِكُم عن النار، وأنتم تقحّمون فيها”
9/ وأما الحِلمُ والاحتمال، والصبرُ على ما يكره، والعفوُ والصفحُ والإغضاءُ، فكل ذلك مما أدّب الله نبيه صلى الله عليه وسلم به، قال له:
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].
وقد فسرها جبريل عن رب العالمين فقال: “إن الله يأمرك أن تصلَ مَن قطعك، وتُعطِي مَن حرمك، وتعفو عمن ظلمك”. وقال سبحانه:
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40].
فلا عجب أن كان كالبحر العذب الذي لا يُعَكِّرُه ما يُلقَى فيه من أحجار، ولا تُنْزِفُه الدلاءُ، وما من حليمٍ صبورٍ إلا وقد عُرِفَت عنه زلةٌ، وحُفِظَت عنه هفوةٌ ما عداه صلى الله عليه وسلم، لا يزيده كثرة الأذى إلا صبراً، ولا إسراف الجاهل إلا حلماً، “وما انتقم لنفسه قط، إلا أن يُنتَهكَ شيءٌ من محارم الله عز وجل، فينتقم لله”
10/ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدَل الناس، وأبعدَهم عن الظلم، ما ظلم أحدا في، دمٍ، أو عرضٍ، أو مالٍ، ولا جارَ في حكمٍ. وكان من أخلاقه العدلُ في الرضا والغضبِ، وكان مثالاً للعدل مع نفسه وأهله، وولده، وصحابته، ولقد بلغ من عدله أنه كان يُنصِفُ الناس من نفسه.
وقد قدمنا لك في بدر ما كان من قصته مع سَوَادُ بْنُ غَزِيَّةَ ، ورضائِه أن يَقتَصَ منه طعنةً طعنَه إيّاها، وهو يُعدّلُ الصفوف. وما ذكره في آخر خطبةٍ خطبها في مرض موته: “من جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه … ” ولما قال له أحد المنافقين بعد قسمة غنائم حنين: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) قال له: “ويحك فمن يعدل إن لم أعدل؟!، خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل” وقد سمعتَ آنفا قوله: “لو أنَّ فاطمةَ بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها” وامتناعِه أن يعطيَها خادما مع شدَّةِ حاجتِها، وإيثارِ مصلحةِ أهلِ الصفّةِ على مصلحتها، وعدلِه البالغ مع زوجاته في القسم بينهن مع أن الله سبحانه وتعالى فوض إليه ذلك وخيّره فيه بقوله: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ [الأحزاب: 51]
ولم يقف الأمر في العدل عند ما هو من حق المرأة في النفقة، والكسوةِ والبيتوتةِ، بل شملَ ذلك العدل في المباسطة والمؤانسةِ والتعَهُّدِ، وكان يفعل ذلك بعد صلاة العصر غالبا، وقد يكون بعد صلاة الصبح، كما في الصحيح.
أمَّا العدل والمساواة في الحب والميل القلبي: فهذا لم يُكلَّف به النبيُ، ولم تُكلَّف به الأمةُ، لأنه أمرٌ لا يدخل تحت الاختيار، ولا تحت الوِسْع، قال تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]
وهذا هو المراد من قوله سبحانه:
﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ [النساء: 129]، وكان النبي يقول: “اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك”.