
بيان العلماء والدعاة حول إدانة تكرار العدوان على غزة
مارس 20, 2025
الملك الأردني عبد الله الأول واتفاقات تسليم فلسطين لليهود
مارس 23, 2025قصة الجبهة المصرية
كامل الشريف – رحمه الله*
“إن كل قائد عام، يُعهد إليه بتنفيذ خطة يراها غير صالحة يُعد مجرماً. إن واجبه يقتضيه الإدلاء ببواعثه، والمطالبة بتغيير الخطة. وأخيراً يقدّم استقالته، حتى لا يكون أداة للقضاء على جنوده”. (نابليون)
أود قبل أن أستطرد في بيان ما خفي من نشاط (الإخوان المسلمين) وأثرهم في الميدان، أن أشير إلى بعض التغيرات الجوهرية التي طرأت على جبهات القتال، بعد فرض الهدنة الأولى؛ ليكون القارئ على بينة من حقيقة الموقف.
لزم الجيش المصري مواقعه التي احتلها، وأخذت وحداته تنظم وسائل الدفاع عن نفسها وتستعد لاستئناف القتال، وعند نهاية الهدنة أخذ الجيش يهاجم مراكز اليهود بعنف وشدة ويضيق الخناق على المستعمرات الجنوبية حتى كادت تموت جوعاً وعطشاً، وأدركت القيادة اليهودية حقيقة الخطر الذي يحيط بهذه المستعمرات، فحاولت تموينها بالطائرات، ولم تنجح في هذه الخطة أيضاً إذ كان السلاح الجوي المصري في ذلك الحين لا يزال يسيطر على الجو.
وأذكر أنهم قاموا بمثل هذه المحاولات في المستعمرات التي يتولى جنود (الإخوان) حصارها، غير أن الإخوان أرغموها أكثر من مرة على إلقاء حمولتها بعيداً عن المستعمرات، تحت تأثير نيران المدافع الرشاشة التي كانت تسلط عليها من أبعاد قريبة، وعلى الفرار راجعةً إلى قواعدها. وكانت هذه الحركة مصدر غنائم جديدة للإخوان، ومصدر مضايقات مثيرة لليهود.
وفرضت الهدنة الثانية واستطاع اليهود خلالها أن يجلبوا أنواعاً جديدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الضخمة، وحين آنسوا في أنفسهم شيئاً من القوة والإعداد، ضربوا بالهدنة عرض الحائط وبدأوا عمليات حربية واسعة النطاق، فهاجموا “تقاطع الطرق” في 14 أكتوبر واحتلوها وبذلك تحطم الحاجز الذي يفصل الشمال عن الجنوب وانطلقت القوات اليهودية المدرعة تحمل الأسلحة والجنود، وانتفضت المستعمرات الهادئة الوادعة، ودبت معالم الحياة والنشاط في أوصالها، وقامت لتؤدي دورها المرسوم، فقطعت طرق المواصلات حين كان الضغط يشتد على خطوط الجيش الأمامية مما اضطر قيادة الجيش إلى تقصير خطوطه، والتخلي عن مناطق المجدل وأسدود والعودة إلى النظرية القديمة والتجمع في منطقة رفح – غزة تاركة خلفها قوة قوامها خمسة آلاف جندي في منطقة الفالوجا لم تستطع الإفلات واللحاق بالجيش المنسحب إلى غزة.
ولقد اعتبر إخلاء هذه المناطق فشلاً ذريعاً، منيت به قيادة الجيش المصري، ومما يزيد في ضخامة هذا الفشل أن يتم الانسحاب بسرعة وارتباك وقبل البت في مصير لواء الفالوجا .
ولا أمر على ذكر هذه الانسحابات دون أن أتعرض لحقيقة مؤلمة، ذلك أن هذه المناطق لم تتعرض لهجوم ذي بال وكان من الميسور البقاء فيها والمحافظة عليها -أو على الأقل- الانسحاب منها بنظام وهدوء، حتى تعمل الترتيبات اللازمة لإنقاذ قوات الفالوجا إذ كان كل ما فعله اليهود أن أمروا قوة صغيرة من جنودهم لا تزيد عن سرية فاحتلت قرية بيت حانون في 16 أكتوبر وبذلك قطعوا طريق المواصلات الرئيسي الذي يربط غزة ببقية المناطق، وكان الوضع الطبيعي أن يبادر الجيش فيهاجم هذه القوة الصغيرة ويؤمن طريق مواصلاته، وكان من السهولة عليه أن يفعل ذلك، بل أن خطة وضعت فعلاً لتطهيرها، وكان كاتب هذه السطور أحد شهودها، وكان مفروضاً أن تقوم قوات لتطهير هذه المنطقة، ولكن الأمر العجيب الذي لا أستطيع تعليله حتى هذه اللحظة أن تصدر الأوامر بالكف عن تنفيذ الخطة، وتصدر الأوامر في الوقت نفسه لحاميات المجدل وأسدود لتنسحب إلى غزة عن طريق الساحل، وبذلك تفقد السيطرة على منطقة من أهم مناطق فلسطين دون سبب ظاهر، بل دون أن نتعرض لهجوم جدي واحد!
ولقد حدثني بعض ضباط المخابرات أن اليهود كانوا ينظرون إلى تحركات الجيش المصري بعين الريبة والحذر. وكانوا يعتقدون أن قواته تتجمع لتضربهم الضربة القاتلة، ولم يكن يدور في خاطرهم مطلقاً أن هذه القوات تتحرك منسحبة للخلف دون سبب واضح، ولو علموا أنه يتحرك منسحباً لهاجموا قواته المختلة، وأحالوا انسحابه هزيمة منكرة، ولكانت مهزلة يتندر بها الناس لأجيال طويلة، ومأساة مروعة يتخذها التاريخ العسكري عنواناً للجهل وسوء التصرف.
والعجيب أن قوات الفالوجا ظلت في مواقعها لا تبدي حراكاً حتى أحاط بها العدو من كل جانب، وهنا تتعارض الأقوال في تعليل هذا الموقف، فبينما يقول البعض إن المواوي انسحب إلى غزة ولم يصدر تعليمات إلى لواء الفالوجا إلا متأخراً، بعد أن أطبقت الحلقة ووقعت هذه القوات في المصيدة، بينما يقول البعض هذا القول ويضع التبعة كلها على المواوي، يقول البعض الآخر إن التعليمات قد صدرت فعلاً لقائد الفالوجا الأميرالاي السيد طه لينسحب بقواته لا إلى غزة ولكن إلى بئر السبع حيث يرابط فيها ويحتل أجزاء من الطريق الذي يصلها بغزة، بينما تكون القوات الرئيسية قد أتمت انسحابها إلى غزة وامتدت جنوباً حتى تلتقي بقواته، وبذلك يفصل الشمال عن الجنوب مرة أخرى ويكون الانسحاب انسحاباً منظماً لخطة موضوعة كما قيل يومئذ، لا هروباً على غير خطة إلا حب السلامة والإبقاء على الحياة.
يقول البعض هذا ويقولون إن المهلة كانت كافية أمام السيد طه لينفذ هذه التعليمات، ويؤولون عدم تنفيذها بأسباب كثيرة لا تشرف أحد الرجلين. ولست أجد وسيلة تضع حداً لهذه الاتهامات وتقضي على هذه البلبلة الفكرية إلا أن يتكلم أحدهما ويحدد التهمة، أو أن تفتح وزارة الحربية فمها وترسل شعاعاً ضئيلاً على هذه الظلمات، أم تراها لا تريد الكلام ليظل الشعب جاهلاً بحقائق الأمور، وحتى لا يتعرض لرد الفعل السيء بعد شعوره بالهزيمة المنكرة التي مُني بها في حرب فلسطين؟
وليست التهمة مقصورة على بقاء قوة معطلة في قرية الفالوجا وقت أن كان الجيش في حاجة إلى جندي واحد، ولا لتعريض قرابة خمسة آلاف للإفناء والأسر. لكن التهمة أكبر من ذلك بكثير، لأن بقاء هذه القوات الكبيرة في الفالوجا ترتب عليه ضياع مدينة بئر السبع، وإعطاء اليهود فرصة التجمع في مستعمرات النقب، وما أعقب ذلك من انهيار القطاع الجنوبي عسلوج-العوجا، ثم اقتحام اليهود لحدود مصر الشرقية والزحف حتى مشارف مدينة العريش.
والتهمة كما ترى كبيرة جداً لو وقعت في أي جيش من جيوش الأرض لشكلت لها المحاكمات العسكرية، ولصدرت فيها العقوبات القاسية، أو على الأقل لتحددت المسؤوليات والتبعات، حتى يمكن استخلاص العبر والعظات. هذا في أي جيش، أما في جيشنا فإن هذه الأمور تعتبر تافهة صغيرة لا تستحق التفكير فيها فضلاً عن تشكيل المحاكمات من أجلها!
أما قوة الفالوجا فقد أحكم اليهود حولها الحصار، وأخذوا يوجهون لها الضربات القاسية من الجو والأرض، وظنوا أن الصيد الدسم قد وقع في أيديهم، وأن هذه القوات لا تلبث أن تستسلم، غير أن القوات الباسلة خيبت ظنهم ومضت تدافع عن مراكزها بعناد واستبسال، وإذا ذكرت هذه الفترة من الحرب فلا يسعني إلا أن أسجل فخراً للأميرلاي السيد طه قائد هذه القوة، إذ كان لروحه العالية وإيمانه القوي أبعد الأثر في ثبات جنوده ووقوفهم هذا الموقف الرائع، ومما يذكر أيضاً أن فرصاً كثيرة تهيأت له للإفلات والنجاة، ولكنه كان يركلها بقدمه لشعوره أن في قبولها مساساً بكرامة الجيش والأمة، وظل يكافح بجنوده كفاح الأبطال حتى منّ الله عليهم بالنجاة الكريمة بعد انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، وغادروا أرض الفالوجا بأسلحتهم ومعداتهم في 11 مارس سنة 1948.
وهكذا أخليت أهم المناطق وحوصرت الفالوجا وعزلت قوات المتطوعين المصريين والإخوان المسلمين في “جبال الخليل” ووقعت القيادة المصرية في مأزق حرج لم تستطع معه السيطرة على الموقف ومواجهته بما يحتاجه من حكمة وحزم، ولم يضيع اليهود الفرص، فشددوا النكير على حامية مدينة “بئر السبع” -مفتاح فلسطين الشرقي وحاضرة النقب- وقذفوها بمئات الأطنان من القنابل من الجو دون أن تملك أي وسيلة لمقاومة هذه الغارات الوحشية، ثم هاجموها بشدة مما اضطرها للتسليم في 27 أكتوبر سنة 1948.
ولقد استنجدت هذه الحامية بقيادتها العامة، وتوسلت إليها أن ترسل إليها بعض الجنود والسلاح حتى يمكنها الثبات أمام هذه الهجمات المنكرة، ولكن القيادة العامة كانت في شغل شاغل في ذلك الحين، فهي تحاول تثبيت أقدامها في منطقة غزة وجمع قواتها المبعثرة بعد الانسحاب، والعدو الماكر يأبى إعطاءها فرصة للتفكير في أمرها بما يقوم به من هجمات وهمية على غزة، ومن غارات جبارة على مراكز الجيش بها ويزيد في إشغالها بالمناورات البحرية التي تقوم بها قِطع أسطوله وتحاول قَطع الطريق الساحلي الذي تسلكه القوات في انسحابها من المجدل.
وهكذا تُركت بئر السبع لتواجه مصيرها المحزن في أيدي حامية صغيرة من الجيش، ومجموعات مفككة من المتطوعين الليبيين والمناضلين العرب. وبسقوط بئر السبع أصبح لليهود السيطرة الفعلية على أجزاء النقب الشمالية، وأصبح في مقدورهم التنقل بحرية بين أرجائها المختلفة. في تلك اللحظات الحرجة كانت الفرصة سانحة أمام اليهود للهجوم على المناطق الجنوبية وإعادة مأساة الفالوجا في غزة ولم تكن هناك خطة منظمة للدفاع عن هذه المنطقة، إذ كان الجيش -كما ذكرت- مشغولاً في عمليات الانسحاب، ولم يكن في هذه المنطقة كلها حتى ذلك الحين غير عدة سرايا من الإخوان المسلمين، ووجد هؤلاء الإخوان أنفسهم أمام حقيقة واقعة هي عبء المحافظة على جيش مصر وحمايته من أي عدوان يحركه اليهود من هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بفداحة الكارثة التي كانت وشيكة الوقوع، لولا وجود هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في ذلك الحين.
شعرنا بخطورة الموقف، فقدمت مشروعاً إلى القيادة العامة بينت فيه الأخطار الكبيرة التي يمكن أن تقع لو فكر اليهود في مهاجمة هذه المناطق وقطع خط الرجعة على الجيش، وطالبت في ختام التقرير بإطلاق يد الإخوان وإعطائهم العتاد اللازم والترخيص لهم لإحضار قوات أخرى من مصر، حتى يمكنهم تنفيذ ذلك المشروع.
وكان المشروع الجديد يقضي باحتلال مواقع حاكمة حول كل مستعمرة من المستعمرات الكبيرة ومحاصرتها، وعدم إعطائها أية فرصة للتكتل حتى يفرغ الجيش من تنظيم خطوطه الدفاعية.
ولقد استدعتني القيادة العامة في غزة وناقشتني في تفاصيل الخطة، ثم أبدت موافقتها المطلقة على تنفيذها، وأذكر أن اللواء المواوي قد وعدني بكتابة خطاب إلى الأمانة العامة للجامعة العربية وإلى رئاسة أركان الحرب يطالب فيه تجنيد كتيبة من الإخوان عن طريق المركز العام والشعب وإرسالهم فوراً إلى الميدان ليتمكن من السيطرة على الموقف.
ولقد ذهبت من فوري إلى فضيلة الأستاذ محمد فرغلي رئيس الإخوان في فلسطين، وعضو مكتب الإرشاد العام، وأطلعته على تفاصيل الخطة. فسافر من فوره إلى مصر، ليعمل على تجهيز هذا العدد الكبير، وعمل الترتيبات اللازمة نحو ترحيلهم إلى الميدان.
وأذكر أن اللواء موسى لطفي -وكان يشرف على إدارة العمليات الحربية في الميدان- قابلني بعد ذلك وأبدى إعجابه الشديد بالمشروع، وأفهمني أن هذه الخطة لو نفذت بدقة وإحكام فسوف يكون لها الفضل الأول في حماية الجيش في هذه المرحلة الخطيرة، والاحتفاظ بهذه المنطقة الباقية من فلسطين، فوعدته خيراً ومضيت إلى المعسكرات لأعد العدة وأبدأ العمل.
جمعت الإخوان في ساحة التدريب بالمعسكر، وقلت لهم: إن الله قد فتح لهم باباً جديداً للجهاد، وإن الظروف قد ألقت على كواهلهم عبء المحافظة على الجيش وكرامته، وإنه لولا ثقتي في قوة إيمانهم ورغبتهم في الكفاح ما قبلت أداء هذه المهمة الشاقة التي أعلم فداحتها وخطرها .
ولن أستطيع أن أصور شعور الإخوان وهم يستمعون لهذه الأنباء، كانوا يقبلون في ابتهاج واضح وكأنهم يدعون لحفلة عرس أو نزهة خلوية، لا إلى ميدان القتال فيه من المشقة والخطر ما فيه!
ولقد خرج الإخوان المسؤولون في استكشاف حول المستعمرات وعاينوا المواقع التي رأوا احتلالها ثم عاد كل واحد منهم يعدّ “فصيلته” ليحتل بها مواقعه، وكانت مشكلة المشاكل إقناع أفراد من الإخوان بالتخلف عن فصائلهم والبقاء في المعسكر، ولست أنسى ما كان من أمر المجاهد الشاب (عبد الحميد بسيوني خطاب) نجل العالم الجليل الشيخ بسيوني خطاب، لقد كان هذا الشاب يبكي بكاء مراً حين أمره قائد فصيلته بالبقاء في المعسكر، وما زال يبكي ويبعث بالوساطات حتى أشفقت عليه، فسمحت له بالخروج. وخرج من المعسكر وهو أشد ما يكون فرحاً وابتهاجاً، ولقد أخلص النية للجهاد، فاجتباه ربه وأكرمه، واتخذه شهيداً في إحدى المعارك المشهورة، التي جاءت بعد ذلك.
وأقيمت المواقع الجديدة حول المستعمرات، ولم تكن سيارة يهودية تجرؤ على التنقل بين مستعمرة وأخرى، إذ أقام الإخوان “الكمائن” على الطريق، وملأوا الأرض بالألغام، وأخذت دورياتهم المصفحة تجوب الصحراء الواسعة وتصل في طوافها حتى مدينة بئر السبع نفسها .
ولكي أصور أهمية هذه الحركة وأثرها يمكن أن أقول إن خمس عشرة سيارة مصفحة ودبابة قد دمرت خلال أسبوع واحد من بدء العمل، عدا أنابيب المياه التي كانت تدمر كل يوم مما اضطر اليهود إلى ملاقاة الإخوان وجهاً لوجه، فنشبت معارك رهيبة سقط فيها بعض الإخوان ولكنها جاءت بأحسن النتائج وأبرك الثمرات.
ولقد ضج اليهود بالشكوى وأبلغوا مراقبي الهدنة احتجاجاتهم أكثر من مرة، وعلقت “محطة إسرائيل” على هذه الحركات وهددت باستئناف القتال ضد الجيش إن لم تكف عصابات الإخوان عن نشاطها في هذه المنطقة.
ولقد فكر بعض كبار الضباط في زيارة تلك المواقع البعيدة الواقعة حول وادي الشلالة وتل جمعة والرابية والشعوث وكان يرافقهم أحد الإخوان يدلهم على الطريق، فلما رأوا أنفسهم يتوغلون في الصحراء مبتعدين عن خطوط الجيش لأكثر من خمسة عشر كيلو متراً إلى الشرق، وهالهم أن رأوا المستعمرات اليهودية خلفهم، داخلهم شيء من الشك والريبة، ومال أحدهم على الجندي المرافق لهم يسأله: أتراك ضللت الطريق؟ فلما أخبره أنهم يسيرون في الطريق الصحيح، قال لهم إني أعتقد أنكم متفقون مع اليهود وإلا لما جرؤتم على التوغل في مناطقهم بهذه الصورة الجنونية! وضحك الأخ المرافق وضحك الضباط جميعاً، وحين رجعوا إلى معسكراتهم أخذوا يشيدون بما رأوا من بسالة الإخوان وشدة بأسهم.
ويجدر بي -قبل أن أنتهي من الكلام عن هذه العمليات الناجحة التي قام بها الإخوان والتي أفادت فائدة كبرى في سير الأمور- أن أذكر المعونة القيمة التي قدمتها لنا القبائل العربية من البدو خاصة عشائر الترابين والحناجرة والنصيرات والتياها والمعالقة، الذين وضعوا كل شبابهم تحت تصرف الإخوان وكل ما لديهم من سلاح وذخيرة وسيارات .
ولقد تمت عمليات الانسحاب وبدأ الجيش يستقر في المواقع الجديدة التي اختارها، وبضياع المناطق الجديدة السالفة الذكر وضحت نهاية الحرب وأصبح من اليسير التنبؤ بنتيجتها، ويمكن تلخيص ما أسلفناه فيما يلي :
أولاً: توغل الجيش المصري في فلسطين دون أن يضع خطة عملية لفض الجيوب اليهودية الخطرة، التي توزعت في صحراء النقب كان أساساً لكل ما حدث بعد ذلك من أخطاء.
ثانياً: قبول الهدنة الأولى والثانية أعطى لليهود فرصة نادرة لاستجلاب أحدث أنواع الطائرات والدبابات وغيرها، فوق أنه أثر تأثيراً عكسياً في روح جنودنا المعنوية.
ثالثاً: كان الغرض الأصلي -كما أسلفنا- هو احتلال تل أبيب، ولقد رأينا كيف فشل الجيش في المحافظة على هذا الغرض، ثم تعددت أغراضه وأهدافه بعد ذلك حتى لم يعد له غرض معين يسعى له ويعمل على تحقيقه.
رابعاً: كان واضحاً ما عليه جنودنا من قصور وعجز في التدريب خاصة فيما يتعلق بالأعمال الليلية، ولو كانوا يحسنون هذا النوع من العمليات لهاجموا المستعمرات ليلاً واستفادوا من ميزة المفاجأة، ولما تعرضوا للخسائر الكثيرة من جراء الهجمات النهارية .
خامساً: لم يكن الجيش يملك دبابات ثقيلة تسهل له مهاجمة المستعمرات الحصينة، مما اضطره إلى العمل بالنظريات القديمة فيحاول دك التحصينات بمدفعية قبل الهجوم، غير أن قوة تحصينات اليهود وبراعتهم في طرق الإخفاء والتستر في باطن الأرض، كانت تجعل هذه الطريقة مضيعة للجهد ومضيعة للذخيرة على قلتها .
سادساً: لم تكن لدى جنودنا ما يمكن تسميته برغبة الاستكشاف أو معرفة الأرض واستخدامها، حين كان ذلك واضحاً كل الوضوح عند جنود الخصم، ويكفي أن نقول إنه كان يسلك طرقاً يصعب على أهل البلاد أنفسهم معرفتها !
سابعاً: التزام الجيش لخطة الدفاع بعد الهدنة الأولى حطم روح جنودنا المعنوية وأعطى اليهود سيطرة تامة على الموقف الحربي، والاشتغال بعد ذلك بالأعمال الهجومية، خاصة إذا علمنا أن قوات العدو الرئيسية البالماخ لم تكن تشغل نفسها إطلاقاً بالدفاع.
ثامناً: لم تكن الجيوش العربية تتصرف بموجب خطة مرسومة وقيادة موحدة، مما جعل اليهود يركزون هجماتهم على كل جيش على حدة، ولقد رأينا كيف ركزوا اهتمامهم في الجيش المصري أقوى جيوش العرب وأفضلها نظاماً وتسليحاً دون أن يخف زملاؤه لنجدته في الجبهات الأخرى .
تاسعاً: كان الواجب يقضي بالإفادة من القوى الشعبية الفلسطينية وتسخيرها للمجهود الحربي، وكان يمكن أن تشكل قوات كبيرة من الحرس الوطني ورجال العصابات، فتتولى الأولى الدفاع عن المدن والقرى، وتتولى الثانية مهمة إنهاك العدو وتوزيع قواته بينما تظل قوات الجيش حرة غير مرتبطة بالأوضاع الدفاعية إطلاقاً.
عاشراً: لم يكن هناك أي داع لبقاء “القوة الخفيفة” في جبال الخليل، حيث إن تلك الجهات كانت تدخل ضمن المنطقة الأردنية مما سبب كثيراً من المشاكل السياسية بيننا وبين القوات الأردنية، ولو بقيت هذه القوات في يد قيادة الجيش المصري لأمكن استغلالها كقوة ضاربة “احتياطية”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كامل الشريف، كان من قادة الإخوان المسلمين المتطوعين في حرب فلسطين 1948، وكتابه في التأريخ لهذه الحرب هو أفضل المصادر المتوفرة حتى الآن، ثم تدرج في العمل السياسي والدبلوماسي وتولى السفارة مرات عديدة في الأردن، ثم لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ولضرورات الانتقاء أخذنا من كتابه هذا المقال، مع التأكيد على ضرورة الرجوع إليه فهو حافل بالمآسي والخيانات التي تفسر كيف ضاعت فلسطين بفعل سياسة القصور لا بفعل هزيمة الجيوش.
-كامل الشريف، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، ط3 (الزرقاء: مكتبة المنار، 1984م)، ص120 وما بعدها.