أمهات المؤمنين ينصرن النبي
فبراير 12, 2024بركات أمهات المؤمنين
فبراير 12, 2024إنَّ المرأة الصَّالحة لها أثرٌ في نجاح الدَّعوة، وقد اتَّضح ذلك في موقف خديجة رضي الله عنها، وما قامت به من الوقوف بجانب النَّبيِّ ﷺ وهو يواجه الوحي لأوَّل مرَّةٍ. جاء في الصحيحين في الحديث الطويل الذي يفصل قصة النبي ﷺ مع بداية الوحي، حيث روت عائشة رضي الله عنها:
كان أول ما بدئ به رسول الله ﷺ الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يلحق بغار حراء فيتحنث فيه – قال والتحنث التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم (ما أنا بقارئ). قال (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم.
فرجع بها رسول الله ﷺ ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال (زملوني زملوني). فزملوه حتى ذهب عنه الروع. قال لخديجة (أي خديجة ما لي لقد خشيت على نفسي). فأخبرها الخبر قالت خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنَّك لتصل الرَّحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضَّيف، وتعين على نوائب الحقِّ» [البخاري (3) ومسلم (160)].
كان موقف خديجة رضي الله عنها يدلُّ على قوَّة قلبها؛ حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوءٍ، وسكينةٍ، ولا أدلَّ على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، وعرضها الأمر عليه. [التَّاريخ الإسلاميِّ، للحميدي، 1/61]
كان موقف خديجة رضي الله عنها من خبر الوحي يدلُّ على سعة إدراكها؛ حيث قارنت بين ما سمعت وواقع النَّبيِّ ﷺ، فأدركت: أنَّ من جُبِلَ على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبداً، فقد وصفته بأنَّه يصل الرَّحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليلٌ على استعداده النَّفسيِّ لبذل الخير، والإحسان إلى النَّاس؛ فإنَّ أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه، وكسبهم بما له عليهم من معروفٍ؛ كان طبيعياً أن ينجح في كسب غيرهم من النَّاس.
كانت أمُّ المؤمنين السَّيدة خديجة رضي الله عنها قد سارعت إلى إيمانها الفطريِّ، وإلى معرفتها بسنن الله تعالى في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمَّدٌ ﷺ من رصيد الأخلاق، وفضائل الشَّمائل، ليس لأحدٍ من البشر رصيدٌ مثله في حياته الطَّبيعيَّة الَّتي يعيش بها مع النَّاس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربَّانيَّةالَّتي شهدت آياتها؛ من حفاوة الله تعالى بمحمَّدٍ ﷺ، في مواقف لم تكن من مواقف النُّبوَّة والرِّسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنَّها كانت من مواقف الفضائل الإنسانيَّة السَّارية في حياة ذوي المكارم، من أصحاب المروءات في خاصَّة البشر. [محمَّدٌ رسول الله ﷺ، لمحمَّد الصادق عرجون 1/307].
كانت موقنةً بأنَّ زوجها فيه من خصال الجبلَّة الكماليَّة، ومحاسن الأخلاق الرَّصينة، وفضائل الشِّيم المرضيَّة، وأشرف الشَّمائل العليَّة، وأكمل النَّحائز الإنسانيَّة، ما يضمن له الفوز ويحقِّق له النَّجاح، والفلاح، فقد استدلَّت بكلماتها العميقة على الكمال المحمَّديِّ [محمد رسول الله، لمحمَّد الصادق عرجون، 1/307، 308)]، فقد استنبطت خديجة رضي الله عنها من اتِّصاف محمَّدٍ ﷺ بتلك الصِّفات: أنَّه لن يتعرَّض في حياته للخزي أبداً؛ لأنَّ الله تعالى فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها.
ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعيَّة: أنَّ الله تعالى جمَّل أحداً من عباده بفطرة الأخلاق الكريمة، ثمَّ أذاقه الخزي في حياته، ومحمَّدٌ ﷺ بلغ من المكارم ذروتها، فطرةٌ فطره الله عليها لا تُطاوَل، ولا تُسَامَى. [محمد رسول الله، لمحمَّد الصادق عرجون، 1/232]
ولم تكتفِ خديجة رضي الله عنها بمكارم أخلاق النَّبيِّ ﷺ على نبوَّته؛ بل ذهبت إلى ابن عمِّها العالم الجليل ورقة بن نوفل – رحمه الله! – الَّذي كان ينتظر ظهور نبيٍّ آخر الزَّمان، لما عرفه من علماء أهل الكتاب من دنوِّ زمانه، واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثرٌ طيِّبٌ في تثبيت النَّبيِّ ﷺ وتقوية قلبه، وقد أخْبَرَ النَّبيَّ ﷺ بأنَّ الذي خاطبه هو صاحب السِّرِّ الأعظم، الَّذي يكون سفيراً بين الله تعالى، وأنبيائه – عليهم الصَّلاة والسَّلام – ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النَّبيِّ ﷺ قوله:
لَـجَجْتُ وكنـتُ في الـذِّكْرى لَجُوجَا لِهَمٍّ طَالَما بَعَثَ النَّشِيجَا
وَوَصْفٍ من خَدِيجةَ بَعْدَ وَصْفٍ فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يا خَديجَا
بِبَطْنِ المكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائي حَدِيْثَكِ أن أرَى مِنْهُ خُرُوجا
بما خَبَّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرهُ أن يَعُوجا
بأنَّ مُحمَّداً سَيَسُود فِينَا ويَخْصِمُ مَنْ يكُونُ له حَجِيجا
وشهد له النَّبيُّ ﷺ بالجنَّة، فقد جاء في روايةٍ أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «لا تسبُّوا ورقة، فإنِّي رأيت له جنَّةً، أو جنَّتين» [الحاكم (2/609) والبزار (2750 و2751) ومجمع الزوائد (9/416)].
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله ﷺ عن ورقة، فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياباً بيضاً، فأحسبه لو كان من أهل النَّار لم يكن عليه ثياب بيض». قال الهيثميُّ: وروى أبو يعلى بسندٍ حسنٍ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله ﷺ سئل عن ورقة بن نوفل، فقال: «أبصرته في بُطْنان الجنَّة وعليه السُّندس» [أبو يعلى (2047) ومجمع الزوائد (9/416)].
لقد قامت خديجة رضي الله عنها بدورٍ مهمٍّ في حياة النَّبيِّ ﷺ؛ لما لها من شخصيةٍ في مجتمع قومها، ولما جُبلت عليه من الكفاءة في المجالات النَّفسيَّة، الَّتي تقوم على الأخلاق العالية؛ من الرَّحمة، والحلم، والحكمة، والحزم، وغير ذلك من مكارم الأخلاق. والرَّسول ﷺ قد وفقه الله تعالى إلى هذه الزَّوجة المثاليَّة؛ لأنَّه قدوةٌ للعالمين، وخاصَّةً الدُّعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدَّور الكبير إعلامٌ من الله تعالى لجميع حملة الدَّعوة الإسلاميَّة بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال، من التأسِّي برسول الله ﷺ، حتَّى يتحقَّق لهم بلوغ المقاصد العالية الَّتي يسعون لتحقيقها. [التَّاريخ الإسلامي، للحميدي، 1/69]
إنَّ السيدة خديجة رضي الله عنها مثالٌ حسنٌ، وقدوةٌ رفيعةٌ لزوجات الدُّعاة، فالدَّاعية إلى الله ليس كباقي الرِّجال الَّذين هم بعيدون عن أعباء الدَّعوة، ومن الصَّعب أن يكون مثلهم في كلِّ شيءٍ؛ إنَّه صاحب هَمٍّ، ورسالةٍ، هَمٍّ على ضياع أمَّته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهَمٍّ لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، من مؤامراتٍ، وظلمٍ، وجوعٍ، وإذلالٍ، وما يصيب الدُّعاة منهم من تشريدٍ، وتضييقٍ، وتنكيلٍ، وبعد ذلك هو صاحب رسالة؛ واجب عليه تبليغها للآخريـن، وهذا الواجب يتطلَّب وقتاً طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه، وراحته، وأوقات زوجته، وأبنائه، ويتطلَّب تضحيةً بالمال والوقت، والدُّنيا بأسرها، ما دام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت الزَّوجة من الأخلاق، والتَّقوى، والجمال، والحسب ما أوتيت، إنَّه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدَّعوة، وأهمِّيتها، وتدرك تماماً ما يقوم به الزَّوج، وما يتحمَّله من أعباء، وما يعانيه من مشاقّ، فتقف إلى جانبه تيسِّر له مهمَّته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقاً، وشوكةً في طريقه. [وقفات تربوية من السِّيرة النبوية، للبلالي، ص 40]
ولا شكَّ: أنَّ الزَّوجة الصَّالحة المؤهَّلة لحمل مثل هذه الرِّسالة، لها دورٌ عظيمٌ في نجاح زوجها في مهمَّته في هذه الحياة، وبخاصةٍ الأمور التي يعامل بها النَّاس، وإنَّ الدَّعوة إلى الله تعالى هي أعظم أمر يتحمَّله البشر، فإذا وُفِّق الدَّاعية لزوجةٍ صالحةٍ ذات كفاءةٍ، فإنَّ ذلك من أهمِّ أسباب نجاحه مع الآخرين.
وصدق رسول الله ﷺ إذ يقول: «الدُّنيا متاعٌ، وخير متاع الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ» [أحمد (2/168) ومسلم (1467) والنسائي في السنن الكبرى (5325) وابن ماجه (1855)].