درس في الوطنية
فبراير 8, 2024ثلاث عشرة سنة للنبوة في مكة
فبراير 9, 2024بينما كان الظلم يعبث في الخليقة، والظلام الدامس يغطي أرجاء الكون، ورايات الباطل والمعاصي ترفرف بلا حياء، إذ بشعاع نور يضرب في الآفاق، ومنادٍ يتبع النور أن قد ولى عهد الظلام إلى غير رجعة، وصرخ الصارخ هذا نجم أحمد ﷺ قد أتى، فأشرقت الأرض لنوره، وظلل الغمام مسيره، وارتشق الكون عبيره، فكانت بعثته ﷺ بحق بمثابة بعثاً للقلوب، وحياةً بعد الممات.
أرضُ بني سعدٍ تشهدُ
أرضٌ مجدبة، وصحراءُ قاحلة، وأطفال جائعة، وضروع خاوية، وما هي إلا لحظات، إذ بالأرض القاحلة يملؤها العشب وتتحول إلى ساحة خضراء، وإذ باللبن يسري، ويكف الأطفال عن البكاء وتتحول دموعهم إلى ضحكات فقد جاء الطفل اليتيم محمد ﷺ، تقول حليمة:
“فلمّا قدِمنا مَكَّةَ لم يبقَ منّا امرأةٌ إلّا عُرِضَ عليْها رسولُ اللَّهِ ﷺ فتأباهُ”.
وهمت حليمة بالرجوع إلا أن رحمة من الله لها سبقت، فكانت على موعد مع السعد والخير والبركة، تقول: “فقلتُ لزوجي: لأرجعنَّ إلى ذلِكَ اليتيمِ فلآخذنَّهُ فأتيتُهُ فأخذتُهُ فقالَ زوجي عسى اللَّهُ أن يجعَلَ فيهِ خيرًا. قالت: فواللَّه ما هوَ إلّا أن جعلتُهُ في حجري، فأقبلَ عليْهِ ثديي بما شاءَ منَ اللَّبنِ فشربَ وشربَ أخوهُ حتّى رُوِيا وقامَ زوجي إلى شارِفِنا منَ اللَّيلِ فإذا بِها حافلٌ فحلبَ وشرِبنا حتّى رُوينا فبتنا شباعًا رواءً وقد نامَ صبيانُنا قالَ أبوهُ واللَّهِ يا حليمةُ ما أراكِ إلّا قد أصبتِ نسَمةً مباركةً ثم خرَجنا فواللَّهِ لخرجتُ أتاني أمامَ الرَّكبِ قد قطعتْهنَّ حتّى ما يتعلَّقُ بِها أحدٌ فقدِمنا منازلَنا من حاضرِ بني سعدِ بنِ بَكرٍ، فقدمنا على أجدَبِ أرضِ اللَّه فوالّذي نفسي بيدِهِ إن كانوا ليسرِّحونَ أغنامَهم ويسرِّحُ راعيَّ غنمي فتروح غنمي بطانًا لُبَّنًا حُفَّلًا وتروحُ أغنامُهم جياعًا فيقولونَ لرعاتِهم ويلَكم ألا تسرَحونَ حيثُ يسرَحُ راعي حليمةَ فيسرحونَ في الشِّعب الَّذي يسرح فيه راعينا فتروحُ أغنامُهم جياعًا ما بِها من لبنٍ وتروحُ غنمي لبَّنًا حفَّلًا”(1).
يستسقى الغمام بوجهه
كان مَقدم رسول الله ﷺ رحمة للعالمين، وبركة على كل مَن في الكون، وقد عرف أهله ذلك ولمسوه، فكان جده عبد المطلب يدنيه منه ويجلسه على مكان السيادة، وكانت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها زوجة أبي طالب لا تقدم الطعام لأولادها حتى يحضر محمد التماساً لبركته، فكانوا يستبشرون بوجهه، ويفرحون بقدومه، وكانت قريش إذا خرجت للاستسقاء ودعاء الله أن ينزل عليهم الغيث، كان عمه أبو طالب يأخذه معه التماساً لبركته، لعل الله ينزل المطر ويغيث الناس بسببه. عن عائشة أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكر رضي الله عنه يقضي:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ رَبِيعُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
فقال أبو بكر: ذَاكَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
الطير ينسف الحلم
كان من فضل النبي ﷺ على العالمين أن جعل الله قدومه فاتحة خير للمظلومين، وإيذاناً وإرهاصاً بانتهاء عصر الظَّلمة والطواغيت، وبداية عهد جديد للإيمان والتوحيد. وقد ذكر الله في كتابه مآل أبرهة وجيشه في سورة الفيل فقال عز من قائل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1-5]، فأهلك الله عز وجل جيش القهر والظلم، وأهل الفساد والشر.
يقول ابن كثير في تفسير سورة الفيل: “هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا عزموا على هدم الكعبة ومحو آثارها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم وأضل عملهم وردهم بشر خيبة، وكانوا قوماً نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالاً مما كانت عليه قريش من عبادة الأوثان”. ثم يقول رحمه الله: “ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله ﷺ، فإنه في ذلك العام وُلد -على أشهر الأقوال- ولسان حال القدر يقول لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء” (2).
الشرف لكل العرب
وببركته ﷺ، وفضله وشرفه وكرامته، نجى الله عز وجل قريشاً من كارثة كادت تعصف بمكانتها بين العرب كراعية للمقدسات، ومضيافاً لزوار بيت الله الحرام، وذلك أنهم لما جددوا بناء الكعبة وأرادوا وضع الحجر الأسود مكانه، وكل قبيلة تود أن تنال هذا الشرف، فاختلفوا ودب الشقاق بينهم، حتى نادى صوت العقل فيهم: نُحَكِّم أوّل داخل علينا. فكان رسول الله ﷺ. عَنْ علي بن أبي طالب أن البيت لما انْهَدَمَ فَبَنَتْهُ جُرْهُمٌ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ شَابٌّ، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ اخْتَصَمُوا فِيهِ، فقالوا: نحكِّم بَيْنَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي مِرْطٍ ثُمَّ تَرْفَعَهُ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ كُلُّهُمْ”(3).
يكسب المعدوم
صلة الأرحام، ومساعدة المحتاج، وإكرام الضيف والوقوف بجوار المظلومين، إنه العطاء في قمة الكمال البشري، جعل السيدة خديجة سيدة نسائها تقسم بأن الله لن يخزيه أبداً، لا حاضراً ولا مستقبلاً، يقين لا يخالطه ذرة من شك، أن من يبذل ويُعطي لن يضام أو يُخزَى، بل يكرم ويُرضى، والمتأمل لشخصية النبي ﷺ يجد فيه الإنسان الكامل من كل الوجوه، وقد يكون الإنسان محموداً عند الناس، لكنه لا ينال نفس الدرجة عند أهله لقربه منهم، ومعاشرته لهم، أما رسول الله ﷺ، فهذه شهادة زوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وهي تعطي تقريراً عنه وذلك قبل أن يكون نبياً، وكيف أن الإنسان ينبغي أن يكون مؤثراً فيمن حوله، ومعيناً للناس على نوائب الدهر:
“لما رجع رسول اللَّه ﷺ من الغار يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، ودخل عَلَى السيدة خَدِيجَةَ قَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي حَتَّى هدأ، وذهب عنه الخوف قص عليها الخبر، ثم قال لها: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فقالت رضي الله عنها: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ(4).
وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ أليست صنائع المعروف تقي مصارع السوء؟ إن من يُكسب المعدوم ويسهم في تخفيف آلام الناس، ويقوم بحق الضيف ويعين على نوائب الخير والحق.. لحري وجدير بأن لا يخزيه الله أبداً.
فكانت رسالته وبعثته هداية ونوراً أُغيث به اللهفان، ورُوي بشريعته الظمآن، وهُدِي بنوره الحيران، بوركت به أرض بني سعد فاخضرت، واستسقيت السماء بوجهه فأمطرت، وهلَّ على الدنيا فأعطرت.
صلوات ربي وسلامه عليك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
أخرجه ابن حبان في صحيحه وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: إسناده جيد.
تفسير ابن كثير.
شعب الإيمان للبيهقي.
رواه البخاري.