
من ثمرات الطوفان (3) – الانكشاف أمام الذات
فبراير 6, 2025
﴿لَن یَضُرُّوكُمۡ إِلَّاۤ أَذࣰىۖ﴾
فبراير 6, 2025بقلم: عماد إبراهيم – مدير مشروع بصيرة الدعوي
سَأحْمِلُ روحي على راحتي * وأُلقي بها في مَهاوي الرّدى
فإمّا حَياةٌ تَسُرّ الصّديق * وإمّا مَماتُ يَغيظُ العِدى
ونَفسُ الشّريف لَها غَايتانِ * وُرودُ المَنايا ونَيْلُ المُنى
سؤال يوقفنا أمام هذا الحديث الشريف، «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»()، موقف التأمل والتدبر! لماذا عَدَّهُ النبيّ ﷺ من الشهداء؟ ذلك الذي قُتِلَ دفاعا عن ماله؛ لماذا هو شهيد؟ مع أنّ رتبة الشهادة – تلك الرتبة الرفيعة الشريفة – إنّما تُعْطَى لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ثم نال الشهادة وهو على ذلك! ولا يقتصر الأمر على المال وحسب، وإنّما يتسع -فيما يبدو- ليشمل كل ما يجب على المرء حمايته والدفاع عنه..
ففي حديث آخر عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»”()، فالقضية هنا ليست دائرةً حول صنف أو نوع مما يجب حمايته، وإنّما الفكرة تكمن في المقاومة والدفع والتحرك الواجب لحماية ما يجب حمايته، وحماية الخلق من تطاول المجرمين واستفحال أمرهم، فكأنّه -بل من اليقين أنّه- نوع من الجهاد في سبيل الله تعالى، لا يقل أهمية عن جهاد المعركة الذي ينال فيها الشهيد تلك المرتبة بذات النيّة.
ثمة حالة من اليأس والرجاء تسيطر على مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نتيجة عوامل شتى تمر بها الأمة في تلك الفترة العصيبة، فلا شك أن متابعة خريطة واقع العالم الإسلامي السياسية، تثير في القلب الكثير من الشجن والحزن من صروف الزمان بالأمة الإسلامية، وما صار إليه المسلمون من ضعف وهوان، بعد تمكين وعزة، ومن سقوط وتبعية بعد استقلال ونهوض، ومن خوف وانهزام بعد شجاعة وإقدام، حيث المعاناة والتخلف الشديدان في مقومات الحضارة من الريادة والقيادة، وحالة من القصور والجمود في جنبات العلوم والثقافة والاقتصاد.
ويسبق كل ذلك منعطف خطير يتمثل في فقدان للهوية وأزمة أخلاقية طاحنة، تعاني منها أمة كريمة بحجم أمة محمد ﷺ، مما يترك في القلب والنفس آثاراً سلبية تدفع الكثير إلى قنوط مزموم، وفتور لا يليق بخير الأمم. قال الله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
وبالرغم من هذا الواقع المرير، علينا أن نعي أن لا نجاة لنا من هذا إلا بالثبات والمقاومة والمدافعة حتى نلقي الله عليها. ولنتذكر جيداً أن التاريخ لا يرحم الذين يسكتون على الظلم، بل يكتب أسماءهم في صفحات العار. فليختر كل منا صفحته التي يود أن يُسجل فيها اسمه.
يقول شهيد الظلال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: “حين تنتهي حريتك عند خوفك من الظالم، تكون قد بدأت عبوديتك له”. فالطغاة المتطاولون المجرمون يُغْريهم تَخَلُّفُ الناسِ عن مواجهتهم، ولو ظل الناس هكذا في تراجعهم عن مواقع المدافعة لَتَوَسَّع الإجرام وطال التطاول واستفحل الظلم وعمّ الفساد، ولو أنّ كل إنسان اعتُدِيَ على ماله أو عرضه أو نفسه رَدَّ الاعتداء ودفع الظلم لَانْزَوَى الشرُّ وتقلص الإرهابُ الذي يمارسه أهل الإجرام، سواء كانوا أفراداً أو منظمات أو أنظمة حاكمة..
فالذي يُقتل دون دمه لا يَبْذُلُ نفسه فداءً لماله؛ فهذا لا يستقيم مع ترتيب المقاصد في دين الله وشريعته، وإنّما يبذل نفسه في سبيل دفع الشر والباطل والظلم والإجرام، يبذل نفسه لإحياء المدافعة التي لا حياة للإنسانية إلا بها، ولعل هذا داخل فيما دعانا الله إليه في قوله: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ﴾ [الأنفال: ٢٤].
بل إنّه من المؤكد أنّه داخل في السنة الإلهية العامة التي كلّفنا بالتفاعل معها والتجاوب مع صداها: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
لا حرية لأمة تنام على ضَيْم
إن دفع الضيم عن الأمة حق على كل من يستطيع الاشتراك فيه بنفس، أو مال، أو تدبير، أو تحريض. ومن طالع العرب في عهد جاهليتهم، عرف أنهم كانوا يأبون الضيم في حماسة وصلابة، ويعدُّونه في أول ما يفتخرون به من مكارم الأخلاق، وقد أخذ هذا الخُلُق في أشعارهم ومفاخراتهم مكانًا واسعًا، فنبهوا إلى أنَّ احتمال الضيم عجز، والعاجز لا يُرجَى لدفع مُلمَّة، ولا للنهوض بمهمة، ونبهوا على أن حرية النفس والإقامة على ضيم لا يجتمعان أبداً، قال المتلمس:
ولا تقْبَلنْ ضيمًا مخافةَ مِيتةٍ * وموتَنْ بها حرًّا وجِلدُك أمْلَسُ
جاء الإسلام فهذّب إباءة الضيم، وجعلها من الخصال التي يقتضيها الإيمان الصادق، فأصبحت خلقًا إسلاميًّا، أينما وجد الإيمان الصادق، وجدت إباءة الضيم بجانبه، يقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]، ولا عزة لمن يسومه عدوه ضيماً، فيطأطئ له رأسه خاضعًا، وإنما قتل في نفسه الشعور بالمهانة الحرص على الحياة، أو على شيء من متاعها، وكل متاعها في جانب العزة حقير.
يأبى الرجل الراسخ في مكارم الأخلاق أن يلحقه الضيم في نفسه، ويأبى بعد هذا أن يضام من يمتُّ إليه بصلة قرابة أو جوار أو استجارة؛ إذ اضطهاد أحد من أمثال هؤلاء يجرُّ إليه عارًا، ويلبسه صغارًا.
وقاية الأمة من مهانة الضيم
تستدعي العمل لأن تكون للأمة قوتان: مادية، ومعنوية:
- أما المادية، فبإعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، وهذا ما أشار إليه القرآن المجيد بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60].
- وأما المعنوية، فبتربية النشء على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، والاستهانة بالموت. فالأمة التي تأبى الضيم بحق، هي الأمة التي تلد أبطالًا، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف، وتفاضل الأمم في التمتع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم، على قدر ما تلد من أبطال، وما تعده من أدوات الرمي والطعان.
إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو مراد الله تعالى وهبة ونعمة، وضع الله له شروطًا ومقدمات وسنناً لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات منضبطة ببوصلة السنن الإلهية، استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهونًا بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئًا منها، أو أخلت بها فقدت عوامل وسبل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف.
وبديلاً عن التخطيط والإعداد.. قد قابل المسلمون النوازل الكبرى بردود فعل عاطفية، في حين أن الأعداء قد خططوا ودبروا على مدار عشرات السنين للقضاء على أمتنا حتى تمكنوا منها، ولم نعِ أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعى أعداء الأمة وحرصوا على تفكيك وحدة المسلمين، وإفشال أي محاولة للمقاومة والمدافعة، لضمان استمرار الضعف وسهولة الافتراس؛ فكان من نتيجة ذلك أن مُزّق جسد الأمَّة الواحد، كيلا تقوم لها قائمة، وعلت الوطنيات والقوميات والعنصريات المنتنة على رابطة الإسلام.
فلا خير فينا إن لم نبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل التمكين لدين الله وإقامة دولة العدل التي يُعز فيها المسلم ويقام فيها الشرع ويصان العِرض.
إن المقاومة والصبر عليها في سبيل تحقيق نهضة هذه الأمة وقيامها من كبوتها، ليست نزهة خلوية أو نزوة شخصية أو مشروعاً عاطفياً أو مجرد خيار، بل واجباً مقدساً لانتزاع الحرية والكرامة، فعندما ننظر إلى تاريخ الأمم، نجد أن الشعوب التي قاومت الظلم، ورفضت الاستسلام للطغاة، هي التي سطرت أروع ملاحم النصر والتحرر.
لذا لا سبيل لك ألا أن تقاوم!
قاوم بكلمتك، قاوم بقلمك، قاوم بمقاطعتك، قاوم بصمودك وثباتك في وجه الطغيان، قاوم بسلاحك، ولكل ميدان سلاحه.. المهم: أن تقاوم. فإن لم تستطع… فقاوم!