وأزواجه أمهاتهم
فبراير 13, 2024أهل البيت
فبراير 14, 2024مر في المقالة السابقة كيف أن الهجرة سنة كونية غالبة، في كثير من المخلوقات، وأن جل أنبياء الله عليهم السلام – إن لم يكونوا جميعًا – قد هاجروا أو هُجروا، وأن أقوى الدول هي التي تقوم على كواهل المهاجرين، كأمريكا، وكندا، وإسرائيل، وأستراليا، وكثير من دول أوربا، التي تشفط دماء خلاصات أبناء العالم الثالث، وحتى دول الخليج. وذكرت أن مجتمع المدينة -وكان المهاجرون القوة المؤثرة فيه- غيّر التاريخ إلى يوم الدين. وأواصل في هذه المقالة، قراءة نصية في فقه الهجرة.
*** الهجرة وترك مرابع مراحل العمر أمر شاق، وعقوبة شديدة، لأن فيها ترك المال والأهل، والمصالح، والتاريخ، والذكريات، وقد ذكر ذلك النبي ﷺ؛ ففي [البخاري/ 6165] أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، أخبرني عن الهجرة، فقال: “ويحك، إن شأن الهجرة شديد”.
وفي [النسائي/ 4165] عن ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: “الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر وهجرة البادي، فأما البادي فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر، وأما الحاضر فهو أعظمهما بلية، وأعظمهما أجرًا”. وذلك لما يتحمَّله مِن مسؤولية؛ (لكونه أسرعَ الناس في الخروج إلى الغزو لقربه منه، وهو مركز الإسلام، الذي تنصب فيه الفتن والشرور، وينزل عليه ضيوف الإِسلام، ويساعد الفقراءِ والمساكينِ، ولذا فإنّ له؛ لِعظَم هجرته، أعظمَ الأجرين).
*** الهجرة قرار صعب وعناء ففي [النسائي/3134] مرفوعًا: “إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك، ودين آبائك، وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مَثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل، فعصاه فهاجر…” الحديث.
وفي الصحيحين: [خ/ 4230-م/2503] روي سيدي أبو موسى: …دخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا، على حفصة زوج النبي ﷺ زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله ﷺ منكم، فغضبت، وقالت: كذبت يا عمر؛ كلا والله: كنتم مع رسول الله ﷺ، يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، في أرض البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله لا أَطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله ﷺ، ووالله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد على ذلك. فلما جاء النبي ﷺ قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله ﷺ: “ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان”.
وفي [شرح البخاري لابن بطال/3/72] عن سيدي عثمانَ رضي الله عنه أنه كان لا يودِّعُ النساءَ إلَّا على راحلتِه، ويسرع الخروج من مكة؛ خشية أن يرجع في هجرته التي هاجرها لله.
*** وكان أعداء الرسالات يعاقبون بالتهجير مبالغة في أذى المؤمنين: كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [إبراهيم:13].
وكما قالت ثمود لشعيب عليه السلام: ﴿ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ﴾ [الأعراف: 88].
وقال السدوميون والعموريون المنحرفون: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل: 56].
وقد يفصلون المرأة عن زوجها، والصبي عن أمه، فتقبل ذلك في سبيل الله، كما حصل من أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وقصتها طويلة في [ابن إسحاق/2 – 315] وغيره.
*** وقد آذى المشركون رسول الله ﷺ، بمحاولة إخراجه، وخططوا لذلك: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30].
وهو ما تنبأ به ورقة بن نوفل، حين أخبره النبي ﷺ بما حصل له في الغار؛ ففي [البخاري/3] عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: “…فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله ﷺ: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.”.
*** وقد تأثر النبي ﷺ بتركه مكة، وأعرب عن حنينه لها، فعن عبد الله بن عدي ابن الحمراء: أنه سمع النبي ﷺ وهو واقف بالحزورة في سوق مكة وهو يقول: “والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”. [التمهيد: 2/288]
*** وكان الصحابة يحنون لمكة ومرابعها، ففي [البخاري/ 1889]، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة، وعك أبو بكر، وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: …ويا بلال كيف تجدك؟ وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ، وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف (كما أخرجونا) من أرضنا إلى أرض الوباء.
*** الهجرة شهادة تُضم للمؤهلات المُدخلة للجنة، قال تبارك وتعالى: ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّه﴾ [آل عمران: الآية 195].
ويقول سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]
ويقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الحج: 58-59]
o وهم إلى الجنة أسبق من غيرهم: ففي [مسلم:2979] مرفوعًا: “إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا”.
وفي [صحيح الترغيب/3183]، عن سيدي ابن عمرو مرفوعًا: “هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال: الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: (ائتوهم فحيوهم). فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك؛ أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال عز من قائل: “إنهم كانوا عبادًا يعبدوني ولا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتِيهمُ الملائكةُ عند ذلك فيدخُلون (عليهمْ من كلِّ بابٍ؛ سلامٌ عليكم بِما صبرتُم، فنِعمَ عُقبَى الدارِ”.
o ومنازلهم في ربض الجنة ووسطها؛ غير السابقين منهم. ففي [النسائي/3133] عن فضالة بن عبيد رضي الله عن مرفوعًا: “أنا زعيم لمن آمن بي، وأسلم، وهاجر، ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة”.
o والمهاجرون أول الناس مرورًا على الصراط يوم القيامة، ففي [مسلم:315] أنه ﷺ سئل: .. فمن أول الناس إجازة؟ قال: “فقراء المهاجرين”.
o وهم أكثر الناس ورودًا على الحوض، ففي [الترمذي/ 2444] مرفوعًا: “حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء. من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا. أول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤوسًا، الدُّنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا يفتح لهم السُّدد”.
*** والهجرة امتياز ونيشان شرف: يقول تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [التوبة: 20].
وعن سيدي عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمس مئة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه. [خ/3912].
وفي [مسلم/918] عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها: قلت: “أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ….”.
وفي [مسند أحمد (21617) والحاكم (4457)]: فقام زيدُ بن ثابِتٍ (يوم السقيفة) فقال: إنَّ رسولَ اللهِ كانَ من المُهاجرينَ، وإِنّ الإمامَ يكونُ منَ المهاجرينَ، ونحنُ أنصارُهُ كما كنَّا أنصارَ رسولِ اللهِ ﷺ. فقامَ أبو بكرٍ فقال: جزاكمُ الله خيرًا يا معشرَ الأنصارِ، وثبَّتَ قائلكُم.
*** والهجرة أهداف ومراتب، وسيأتي تفصيلها. يقول سيدي عمر رضي الله عنه مرفوعًا: “إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”. [خ/6953]
*** هجرة الأنبياء كانت بالوحي، وفرار المؤمنين بالدين فريضة شرعية، عند العجز عن القيام بأمر الدين، والتعرض للبلاء الشديد، الذي يُخاف فيه على النفس أو العرض أو الأهل:
- فقد أُمر نوح عليه السلام، بالاستعداد لترك قومه، والانتقال عنهم: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [هود: 37] وكان صنع السفينة وحركتها بأمر الله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ [القمر: 13-14]
- وصرح إبراهيم عليه السلام بالهجرة؛ ولا يمكن أن يفكر بذلك من عند نفسه، دون إشارة من ربه سبحانه: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 26]
- وبالوحي نقل زوجته وابنه عليهم السلام في مَهاجِر بعيدة. ففي حكاية ترك هاجر وإسماعيل عليهما السلام في برية مكة، ورد في [البخاري/ 3364]: … ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي؛ الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: (نعم)، قالت: إذن لا يضيعنا. فهذا نص في تهجيرهما لمكان اختاره الله تعالى لهما، لحِكم قدرها سبحانه.
- وموسى ﷺ أُمر بالخروج بقومه: ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء:17]
(قومنا الذين استبعدتهم ظلمًا، ولا سبيل لك عليهم، نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله بها، على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام) كما في نظم الدرر. وقال في الوسيط: (أن أرسل معنا بني إسرائيل) قد أرسلَنا سبحانه إليك، كي تطلق سراح بنى إسرائيل من ظلمك وبغيك، وتتركهم يذهبون معنا إلى أرض الله الواسعة. ليعبدوا الله تعالى وحده.
- وقد عوقب يونس عليه السلام، حين هاجر مغاضبًا قومه، وخرج بلا وحي: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [العنكبوت: 87-88]
- ولم يخرج محمد ﷺ إلا بوحي، وأَذن لأصحابه -بالوحي- بالخروج قبله، فهو كرُبّان السفينة الحريص الصادق، آخر من يغادرها، ففي [البخاري/2297]: “قد أريت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين”.
وحين تجهز أبو بكر مهاجرًا، قبل اصطحاب المصطفى ﷺ إياه ليكون ثاني اثنين، قال له ﷺ: (على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي). فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه. [البخاري/5807] فلما جاءه الأمر بالخروج أسرها للصديق، تقول أمي عائشة الصديقة [البخاري:2138]: فلما أذن له في الخروج إلى المدينة، لم يرُعنا إلا وقد أتانا ظهرًا، فقال أبو بكر: ما جاءنا النبي ﷺ في هذه الساعة إلا لأمر حدث، فلما دخل عليه قال لأبي بكر: قال: “أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج”؟ قال: الصحبة يا رسول الله، قال: “الصحبة”.
وفي [المستدرك على الصحيحين/3674]: أقام رسول الله ﷺ بمكة ينتظر أن يأذن الله له في الهجرة وأصحابه من المهاجرين، وقد أقام أبو بكر رضي الله عنه، ينتظر أن يؤذن لرسول الله ﷺ فيخرج معه.
*** الهجرة بالدين، تكون إلى حيث يؤمن على الدين؛ تروي سيدتي أم سلمة رضي الله عنها: “لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله ﷺ وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان هو في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه. فقال لهم رسول الله ﷺ: إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده؛ فالحقوا ببلاده؛ حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه”. [الصحيحة/ 3190، وتخريج سير أعلام النبلاء/ 1/208].
*** المسلمون اليوم في ضوائق استئصالية، وقهر، وقسر، وإرصادٍ، وتربص، وغسل عقول بشكل متطرف، كما يحصل للمسلمين الإيجور، والروهينجا، ومسلمي سوريا، وكثير من بلاد العرب التي تفسح المجال فقط للإلحاد، والعلمنة، والتنصير، والاجتراء على محارم الله؛ بدعم رسمي؛ لا يمكن معه حفظ الدين، أولى الضروريات الخمس في الإسلام. ولا أحتاج للتدليل على هذا.
*** وهي باقية إلى يوم القيامة؛ ما بقي البلاء، والعجز عن القيام بأمر الدين؛ ولو بصعوبة؛ فمن لم يأمن على دينه، أو عرضه، أو نفسه، ولم يكن له بد من الانتقال لمكان آمن، يعبد فيه ربه، ويحرز فيه نفسه، وقدر على ذلك؛ لزمته الهجرة وجوبًا، وقد ضاق الأمر ببعض المسلمين في القرن الأخير؛ بل قبله بكثير، حتى بات حالهم أشبه أو أشد من حال المسلمين أوائل العهد المكي، وحالِ أصحاب عيسى عليهم السلام، فالمسلم المأزوم أحد ثلاثة كما قال الحافظ في [الفتح، 6/190] (بتصرف يسير):
الأول: القادر على الهجرة، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته؛ فالهجرة منه واجبة.
الثاني: القادر، لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته في بلد يهان فيه الإسلام، فمستحبة؛ لتكثير المسلمين بها، ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر؛ من أسر أو مرض، أو منع قانوني، أو غيره، فتجوز له الإقامة؛ فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أُجر.