
قوات الاحتلال تقتحم الضفة وسط نزوح عشرات العائلات
يوليو 4, 2025
الأرض المقدسة محور الصراع (3)
يوليو 4, 2025أين لطف الله مما يجري؟
محمد محمد الأسطل – من علماء غزة
يقول السائل:
إننا نؤمن بالقضاء والقدر، ولكن دوام المجازر والإبادة وكثرة الشهداء والمعتقلين وشدة الجوع والعطش تجعلنا نسأل: أين لطف الله مما يجري؟
والجواب:
الحمد لله، وبعد:
فإنَّ قدرَ الله مهما اشتد إلا أنه لا ينفكُّ عن لطف.
ولطفُ الله في ظل الشدائد قد لا تراه لما تُشكِّلُه الأحداث الضخام من ضبابيةٍ على العيون، لكن من ركز في بواطن الأحداث ولاحظ الكليات والجزئيات رأى لطف الله حاضرًا في كل مكان، ولهذا من كان خارج الحدث يكون أكثر رؤيةً لمظاهر لطف الله بالعباد لعدم خضوعه للمؤثرات التي يجدها القابع في جوف الحدث.
خذ عيِّنةً مما تعيشه ويدور حولك:
– لطف الله تجده حين يدك العدو مكانًا ويتفتت كل حجرٍ فيه ولا يخرج سالمًا من المكان إلا الشخص المستهدف!
– لطف الله تجده في أن أهل غزة والشمال ما زالوا ثابتين في مواقعهم، قد أفشل الله بهم مخطط التهجير، ولا يمكن في العادة لقدرة بشريةٍ أن تقف في وجه الأحزمة النارية وبركانية القصف المجنون مطلع المعركة، وذلك من أجل إجبار الناس على الهجرة، لكنه لطف الله.
– لطف الله تجده حين تُصطَفى عائلات بأكملها ليكونوا شهداء وما كانت شهادتهم تخطر لأحدٍ ببال على هذا النحو المجتمع.
– لطف الله تجده حين تستشهد عجوز وهي في سكرات الموت تحتضر ليُختم لها بالشهادة لا بالميتة العادية.
– لطف الله تجده حين سخَّر الله الإعلام الدولي لتغطية المعركة وما زالت التغطية مستمرة حتى أحدثت ما أحدثت في العالمين.
– لطف الله تجده حين يدخل مجاهدٌ إلى بيتٍ يستتر به من العدو ولا يجد ما يأكله أو يشربه بعد أن أحاط به العدو، وإذ بهم يدخلون البيت فانزوى في ناحيةٍ منه ولم يأتوا للمكان الذي هو فيه، ثم إنهم اتخذوا هذا البيت مثابةً فكانوا يأتون ومعهم أصناف الطعام والشراب، وبقي شهرًا ونصفًا والذي يمده بالطعام والشراب هم أعداؤه.
– لطف الله تجده حين يتولى طيران العدو توثيق مشاهد الخاتمة الفاخرة لعددٍ من المجاهدين ليعمل عمله من التربية والتحريض والوعي؛ كما الحال في خبر الشهيد الساجد، وكما الحال فيمن أخذ سلاح صاحبه الذي قضى نحبه وانقض كالأسد يطلق النار على أعدائه يكمل المشوار، والكاميرا التي توثق ذلك وتنشره هي كاميرا العدو!
– لطف الله تجده حين يخطط العدو عبر عملية ضخمة لاعتقال مجاهدٍ عنده ما عنده من المعلومات، وقد وصلوا إلى خيمته بالفعل وأحاطوا بها من كل جانب، ثم ضربهم بالنار فانشغلوا ثانيتين أو ثلاثًا مكَّنته من الفرار.
– لطف الله تجده فيمن يسعى في التجنيد ضمن القوات المجاهدة في الوقت الذي تحصل فيه المجازر، وربما فكر بعض المجاهدين في التقهقر تحت وطأة الأحداث.
– لطف الله تجده حين ترك كثيرٌ من الناس مواقعهم الأصلية وانشغلوا بواجب الوقت من الإغاثة والإيواء والنصرة؛ لتتكون بذلك جبهةٌ داخليةٌ مساندةٌ للجبهة المقاتلة، فيجتمع لأهل البلد أوفر الحظ من الملحمة والمرحمة، والرجاء أن يعمهم ما وصف به ربنا أصحاب نبيه : ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].
– لطف الله تجده حين ترى الأمة بأسرها تنتفض في هذه المعركة، تتألم لألم إخوانهم، ويحصل هذا في زمن المادية والفردانية والدولة القطرية.
– لطف الله تجده حين ترى العلماء والدعاة والمحرضين وأصحاب المال ورجال الإعلام يتحركون لنصرة هذا الثغر، فالمقاتل هنا يقاتل وخلفه أمة يستند إليها، ولئن كانت مكبلةً بقيود الأنظمة الخائنة إلا أن القيد لا يدوم.
وقد استمعت إلى عددٍ من حلقات البودكاست مع نخبةٍ من مشايخ الأمة وأساتذتها ومفكريها وسرني ما فيها من عمقٍ وحُسنِ نظرٍ مع أهليةٍ وشعور بالمسؤولية، وبمجموعه يمثل وجبةً فكريةً حسنةً لشباب هذا الجيل.
– لطف الله تجده حين يدخل العدو منطقةً ويبيد فيها كل شيء، ويحولها كومةً من حجارة ومن وسط الحجارة يخرج مجاهد يكبر ويضرب آليات العدو ويثخن في الجنود ويعود سالمًا، وترى الأمة ذلك موثقًا بالصوت والصورة.
– لطف الله تجده حين يتمكن العدو من الوصول لبعض المجاهدين حتى إذا لم يبق بينهم إلا مترٌ واحدٌ فقط أنزل الله غشاوته على العيون فيعودون دون أن يروهم.
– لطف الله تجده حين ترى المدارس وحلقات التحفيظ ومجالس سرد القرآن قد عادت إلى العمل في الأشهر الأولى من النزوح، بل عادت الجامعة الإسلامية لتفعيل برنامج الماجستير في هذا الظرف الذي يعانيه البلد.
– لطف الله تجده حين اجتمع علينا الأحزاب في هذا العصر بدءًا بالدول الكبرى مع تواطأ عددٍ من الدول العربية، وإحكام الحصار وتجويع الناس وقطع الإمدادات عن البلد، ومجيء الطائرات الأمريكية والبريطانية إلى جانب الطائرات الصهيونية، والتي تحلق على مدار الساعة حتى إني عددت مرة نحوًا من عشرِ طائراتٍ في آنٍ واحد، بعضها عسكري وبعضها أمني استخباري، مع تفوقٍ تقنيٍّ مرعب.
والبلد ليس فيها تضاريس قتالية من جبالٍ أو مغاراتٍ أو وديان، وأي مجاهد يظهر على وجه الأرض يقصف.
وإذا دخل العدو منطقةً أبادها بالأحزمة النارية والقصف البركاني المجنون حتى إن الدقيقة الوحدة كانت تشهد أحيانًا أكثر من مائة قذيفة كما حدثني بذلك بعض من شهد ذلك.
ثم إن العدو فاجأنا في هذه الحرب بفتنةٍ جديدة تمثلت في طائرة “الِكْوَاد كابتر”، والتي تبقى تطوف في الأجواء، وهي ذات أحجام شتى، ومنها ما يمكن أن يدخل البيوت، ويقف يتنصت على البيوت والأشجار والخيام، وفي بعضها سماعة تُمَكِّن الجندي الذي يتحكم بها عن بعد أن يكلم من في المكان، وتقوم بإطلاق النار، وهي بالجملة كانت مما يخطر لنا بالخيال حين نتصور طبيعة المعارك حتى رأيناها تعمل عملها ضدنا في هذه الحرب.
وأمام هذا كله، ومن غير وجود أي دولةٍ مجاورة مناصرة.. فإن الله ثبَّت أبناء هذا البلد ثباتًا أسطوريًّا على مدار سنة كاملة، فإذا تصورت ما ذكرته مجتمعًا ورأيت هذا الثبات فهل تتوقع أن ذلك كان من قدرة أهل هذا البلد؟! كلا والله؛ وليس ثمة تفسير لهذا إلا أنه لطف الله.
وصدق ربنا إذ يقول: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ [الشورى: 19].
وصلى الله وسلم على نبي الله يوسف الذي بعد أن مرَّ فيما مرَّ به من الشدائد حتى مَكَّنَ الله له أخذ يقول: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100].
(5)
لماذا لم تستجب الأدعية بالنصر؟
وهل تعطل فقه السنن الذي يُبشر بنصرة المظلوم والانتقام من الظالم؟
وهل نحن في سنة الاستعمال أم الاستبدال؟
يقول السائل:
جاءت المعركة بشدائدها وهُرعنا إلى المساجد والصلاة نستغيث بالله أن تنتهي المعركة وأن ينصرنا ربنا على القوم الظالمين، إلا أن النصر لم يأت، ورغم أننا التمسنا الدعاء في أوقات الإجابة وأحوالها إلا أنه لم يستجب أيضًا.
ومما نعلمه أنَّ الفرجَ قرينُ اليأس، وقد حصل الاستيئاس من شهورٍ بعيدةٍ ولم يأت الفرج.
– فأين نصر الله؟
– وهل تعطلت فاعلية الآيات أو فاعلية السنن الإلهية؟
– وهل ما يجري هو ابتلاءٌ وكرامةٌ واستعمالٌ ونتيجةٌ طبيعية لجهادنا وثباتنا وصبرنا أم أنه بلاءٌ ومهانةٌ واستبدالٌ بسبب ما وقع منا من ذنوبٍ وتقصيرٍ وخبث؟
والجواب:
الحمد لله، وبعد:
فإنَّ هذه الخواطر والمشاعر من الأمر المتوقع، ومعظم الأسئلة المتعلقة بالقَدَر كانت تظهر في وقت الأزمات والحروب التي تشهد كثرةً في القتلى، وذلك على مدار التاريخ الإسلامي بدءًا من عهد أحداث الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، وذلك أنَّ قسوةَ الأحداث وضخامةَ ما تُخَلِّفُه من قتلى تعد بيئةً خصبةً لتداول مسألة الشر هل يُنسب إلى الله تعالى أو لا؟ وما إلى ذلك من المسائل القدرية المتعلقة بذلك.
ومن الشواهد المعاصرة على ذلك: ما ذكره الملا عبد السلام ضعيف أحد قادة طالبان وفقه الله أن امرأة قالت له يومًا: إنني طبيبة، وأنفق نصف ما يأتيني من دخل لصالح حركة طالبان، وإني أراها أنها الجماعة التي تعمل لخدمة دين الله، ولكن لما دخل الأمريكان وحصلت الهزيمة وسقطت عاصمة الأفغان أخذت أسأل نفسي: أين يكون الله يا ترى؟ ولماذا لا ينصر طالبان؟ ولماذا فعل ذلك بهم؟ إلى آخر ما قالت.
والسؤال عن تأخر النصر من أهم أسبابه شدة البأساء والضراء وما ينزل بالناس من زلزلة، ولهذا يحصل من قوي الإيمان ومن ضعيفه، ومن الشجاع وغيره، ومن اللفتات التي ما انتبهت لها إلا في صدر الحرب أنَّ السؤالَ عن تأخر النصر صدر من الأنبياء أنفسهم!
اقرأ في ذلك قول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
وأما عن الأسئلة:
فإنَّ الدعاءَ إذا خرج من العبد فهو في طريق الاستجابة والقبول بإذن الله تعالى؛ لما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ:
– فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
– وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
– وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا.
مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلْ”.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: “يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي هَذَا” صححه الألباني دون قوله: “وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا”.
فقوله: “فإما أن يُعجَّل له في الدنيا” يشمل ما كانت الإجابة فيه في الحال وما كانت في المآل.
والتأخير في الإجابة راجعٌ إلى أسبابٍ كثيرةٍ جدًّا يذكرها علماء التزكية، إلا أنَّ مما يُهمل ذكره أنَّ التأخيرَ قد يكون لتعارض مضمون الدعاء مع مقتضيات فقه السنن.
فلو أنَّ الله قَدَّرَ الابتلاء على شخص، أو قدر سنة التداول بين الناس، أو التدافع بين الحق والباطل.. فإن أدعية الناس لا يمكن أن تعود على مقررات فقه السنن بالإبطال؛ بل يمضي فقه السنن على بابه، ثم تأتي استجابة الدعاء في الوقت الذي قدَّره الله لتجتمع مقامات الدين ولا تتنافر.
ولهذا كثيرًا ما يأتي التنبيه على أنَّ الداعيَ لا ينبغي أن يتقاعس عن مواصلة الدعاء إذا تأخرت الإجابة، واللافت هو أنَّ الحديث الذي يُبشِّر الداعي بالإجابة هو نفسه الذي ينبهه على احتمال التأخير؛ لأن الإجابة تخضع لحكمةِ الحكيم سبحانه وتعالى.
ومن الأحاديث في ذلك: ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنَّ رسولَ الله قال: “يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي“.
وفي روايةٍ عند مسلم: “فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ“، ويستحسر: أي ينقطع عن الدعاء.
وأما سؤال: وهل تعطل فقه السنن الذي يُبشر بنصرة المظلوم والانتقام من الظالم؟ وهل نحن في سنة الاستعمال أم الاستبدال؟.. فإننا نجيبه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.