
رئيس مجلس إدارة وقف الأنصار يشارك في اجتماع الأوقاف بأنقرة برعاية الرئيس التركي
مايو 9, 2025
فتوى الأزهر الشريف حول إسرائيل
مايو 9, 2025هل يمكن أن ننتصر ونحن على خبثٍ وذنوب؟
الشيخ محمد بن محمد الأسطل
من علماء غزة
يقول السائل: هل يمكن أن نخرج من هذه المعركة بنصرٍ ونحن نرى ما نرى من مظاهر الذنوب؛ كالسرقات وبعض صور التجرؤ على الحرمات وكحالة الاستغلال من التجار؟
والجواب: الحمد لله، وبعد:
فإنَّ التخففَ من الذنوب من أهم أسباب النصر، ولهذا كان الربيون يقدمون بين يدي دعائهم بالنصر الدعاء بمغفرة الذنوب والإسراف في الأمر، وجاء امتداحهم بذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 146، 147].
وهذا إيذانٌ بأنَّ التخففَ من الذنوب يُثَبِّتُ قدمَ المجاهد في المعركة، ويُمَكِّنُهُ من الإثخان في عدوه والانتصار عليه بإذن الله تعالى وفضله، وفي المقابل فإنَّ الذنوب قد تضعف الأقدام وتوجب الهزيمة.
والتوبة تهدم الذنوب، ولهذا من كان من المجاهدين على ذنوبٍ فإنه يهدمها بالتوبة والاستغفار، وكذا بالحسنات الماحية والتي يأتي في مقدمتها نفس ما يشتغل به من الجهاد، فهذا يجعله أدنى من التوفيق، وأن يُجرِيَ الله على يديه من الإثخان في العدو ما يرفع به مقامه عند ربه، وما يبتهج به المسلمون بإذن الله وفضله.
والظن بالله أنَّ المجاهدَ متى خرج من ثغره ولاقى العدو وثبت وضرب فلا أحسب سيئةً تبقى عليه، أصاب العدوَّ بضربته أو لم يصب، رجع أو لم يرجع، بل الظن أن مقامه والحال هذا مقام رفعة في الدرجات أكثر من كونه مقامَ تكفيرٍ للسيئات؛ لأن المستفيض الغالب فيمن يبلغ ذلك أنه يكون ممن آمن وتاب وعمل صالحًا.
إلا أنَّ النصرَ له جملةٌ من الأصول والمعالم التي تُؤخَذ من سُنة الله فيه، وهذا يتشعب في جملةٍ من المسارات، وسؤال السائل يتعلق بأحد هذه المسارات وهو: هل يمكن أن يحصل النصر وفي الناس من الذنوب ما يمكن أن يوجب الهزيمة؟
والجواب يمكن أن يتفرع الكلام فيه لكني أكتفي من ذلك بأمرين:
الأول: أن العبرة لما غلب، ومادة الخير هي الأصل في هذا البلد، فأكثر الناس إما مجاهدٌ وإما صابرٌ، وما تخرج من كلمات السخط وضعف الصبر من كثيرٍ من الناس تحت وطأة ضراوة المعركة فيُرجى ألا تعود على أصل الإيمان ومادة الصبر والجهاد بالبطلان، بل هي من الذنوب التي عسى أن تُغفرَ بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
الثاني: أنَّ درجةَ المؤاخذة الشرعية بحق أخطاء أمةٍ ما يُعتبر فيه الحال باعتبار حال أهل الزمان.
ويُستأنس في تقرير هذا المعنى: بما روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “إنكم في زمانٍ من ترك منكم عُشْرَ ما أُمِر به هلك، ثم يأتي زمانٌ من عمل منكم بِعُشر ما أُمِر به نجا“().
فالنظر اليوم لا يتمحض داخل البلد بعد انتشار الخبث بوجود أصحاب السرقة وقطع الطريق وأصحاب الابتزاز والاستغلال من التجار وغيرهم؛ ولكن يتم النظر مع عموم أحوال المسلمين؛ فكثيرةٌ هي البلاد التي يفشو فيها الربا، ويكثر فيها الزنا، ويعتاد كثيرٌ من الناس فيها على شرب الخمور والمخدرات، وقد تركوا الجهاد، واستكانوا إلى الدنيا والتنافس فيها وما إلى ذلك.
أما أهل هذا البلد فالصلاح هو الحالة الغالبة على أهله، وأكثر الناس لم ير في حياته شكل الخمر أو المخدرات، وقد عصمه ربه بفضله سبحانه من الربا ومن الفواحش، وهو مرابطٌ مجاهدٌ ينتظم في الأعمال الجهادية سواء كان ممن يحمل السلاح أو لا، مع التزامٍ كريمٍ بالصلاة في المسجد وتربية الأولاد على الفضيلة وحفظ القرآن وغير ذلك.
فالبلد حين يوزن بغيره تستطيع أن ترجو أن يكون أهله قد اصطفاهم الله للمقامات الفاضلة من إعزاز الدين وإذلال الكافرين.
ومن الشواهد على ذلك المعنى: ما حدثتنا به سورة البقرة من قصة الفتح الثاني على يد طالوت، وخلاصة القصة -وأرجو أن تتأمل الدلالة جيدًا-:
طلب الملأ من بني إسرائيل من نبيهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون خلفه في سبيل الله، ويبدو أنه كان يتوجس منهم خيفةً لمعرفته بطبيعتهم فعرَّض لهم بخشيته ألا يقاتلوا إذا فُرض عليهم القتال إذ قال لهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ [البقرة: 246]، والمعنى: راجعوا أنفسكم قبل أن تطلبوا هذا الطلب.
فقالوا متعجبين: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة: 246] يشيرون بذلك إلى أنه لا يوجد أي صارفٍ لهم عن القتال؛ فالدوافع موجودة والبواعث متوفرة، ومصيبة إخراجهم من الديار والحيلولة بينهم وبين أبنائهم تحرضهم على القتال، وتجعله الطريق الوحيد لعزتهم لإمكان الرجوع إلى الديار والأبناء.
فلما كُتب عليهم القتال تولوا إلا قليلًا منهم، وحصل ما توقعه نبيهم منهم.
ومن اللافت أنَّ الله سماهم ظالمين بسبب هذا النكوص مع أنهم مظلومون مُخرَجون من ديارهم، ولعل السر في ذلك: أن الذي يُظهِرُ الضعفَ والانحناء يُغرِي عدوه بدوام البغي والاعتداء، فهو ظالمٌ في صورة مظلوم.
ثم إنَّ السياق يُفهِمُ أنَّ النخبة التي لم تنكص عن القتال بعد أن فرض اختُبِرت بأن الملك الذي تم تعيينه قائدًا عليهم هو طالوت، ولم يكن من سبط يهوذا الذي يأتي منه الملوك في بني إسرائيل عادة، فاختُبِرُوا بمجيء القائد على خلاف التركيبة الاجتماعية التي يعرفون، فرفضوا القائد مع أن الذي سمَّاه وعيَّنه هو الله جلَّ جلاله!
وحين مضى طالوت بمن رضي القتال بعد هاتين المحطتين اللتين لا تُبشران بخير أراد أن يختبرهم بأمرٍ من الله لئلا يفروا لحظة المواجهة كما قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 249]!
فهنا انسحب أكثر الجيش كما انسحب أغلب القوم أول مرة حين فرض عليهم القتال، ولم يبق إلا قلة القلة وكانوا بِعِدَّةِ أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهدًا!
وهذه النخبة التي هي نخبة النخبة لما تجاوزت هذا الاختبار قالت على سبيل التوجس والوجل عند قرب ملاقاة العدو: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ [البقرة: 249]!
فذكَّرتهم نخبةُ نخبة النخبة من الذين يظنون أنهم ملاقو الله وأخذت تقول لهم: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249].
وهنا أتوقف لأقول: الذي يقرأ المشهد من أول السياق لو كان يقظًا لوقع في نفسه صعوبة النصر؛ وذلك بسبب شدة الوهن الذي أصاب القوم كلهم إلا قليلًا، والذي كان ينكص أو ينسحب أو يضعف هم الكثرة في كل جولة في مقابل القلة، بحيث لم يبق عند الوصول إلى ساحة المعركة إلا ما يزيد قليلًا عن ثلاثمائة شخص بما يعادل نصف كتيبة من الكتائب المقاتلة عندنا في البلد، أمام أمة قاعدة فشلت في الاختبارات السابقة.
ومع هذا كله لو أكملت السياق وكنت يقظًا وتخطر ببالك هواجسُ قوانينِ النصر لفاجأك قول الله بعدها: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 250، 251]!
فما الذي جرى؟!
لعل من أهم أسباب النصر أنَّ الفئةَ الثابتةَ كانت هي خير أمة بني إسرائيل يومئذ، ولعلها كذلك كانت خير أهل الزمان جملةً؛ إذ إنَّ القرآن جاء في غير موضع يذكر أفضلية بني إسرائيل بالنسبة لأهل زمانهم كما في قوله سبحانه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47].
فلو كان الاحتكام في قوانين النصر للحالة الفاضلة المطلوبة في الاستقامة والصلاح لما حصل النصر فيما يظهر، ولكن موازنة الرجال جاءت هنا بحسب حال الأمة المتقاعسة، وحسب الزمان الذي هم فيه، حتى فتح الله على يد القلة المؤمنة الثابتة التي أكملت الطريق.
والمقصود: أنَّ النصرَ يمكن أن يُكرِمَ الله به أهل غزة، حتى لو شهدت الساحة بعض الذنوب، وذلك أن المجاهدين هم من أكثر الناس صلاحًا وبرًّا وإقبالًا على الشهادة في سبيل الله.
ومما قاله أحد قادة المعركة: إن جميع المجاهدين الذين تم الاتصال بهم ليلة العملية ليستعدوا للتنفيذ من غير أن يكونوا على علمٍ سابقٍ بتفاصيلها لم يعتذر أيُّ واحدٍ منهم، ولم يكن يفصلهم عن الاستعداد للشهادة إلا بضع ساعات!
ثم إنَّ القياس مع بني إسرائيل قياسٌ من الفارق؛ فإذا كان الله قد نصر صفوة بني إسرائيل على ما تم من الوصف من حال عموم الأمة الإسرائيلية التي نكصت عن القتال يومئذٍ مع أنهم هم الذين طلبوه.. فإنَّ النصرَ في حق هذا البلد أرجى بإذن الله؛ فإن السواد الأعظم من أهل هذا البلد قد تبنوا خيار الجهاد، وقدموا أبناءهم مجاهدين في سبيل الله، وكثيرٌ منهم قد قضى نحبه، وما زالوا في مواقعهم ثابتين مرابطين مجاهدين.
ولولا الحاضنة الشعبية التي تبنت خيار الجهاد -بعد فضل الله- لما استطاع المجاهدون أن يفعلوا ما فعلوا، وهذا كلامٌ من الحق الذي لا مبالغة فيه.
أما ما يحصل من تقصيرٍ أو ذنوبٍ فالظن بالله الكريم أن يُغفر وأن يتجاوز الله عن المذنبين والمسرفين والمقصرين، وأن تكون شدائد المعركة ممحقةً للذنوب رافعةً للدرجات.
وأحسب أن الحالة الإيمانية التي كوَّنتها المعركة جعلت كثيرًا من الناس على حساسيةٍ شديدةٍ من الذنوب وأشكال التقصير.
ومع هذا أقول:
إذا نزل البلاء بفردٍ أو بمجتمعٍ أو بأمةٍ ففيه من الله رسالتان: كرامةٌ لصاحبه على قدر ما فيه من خير، وعقوبةٌ له على قدر ما فيه من تقصيرٍ بالأسباب أو شر.
فالسنن يمكن أن تتداخل كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
والمصيبة إذا نزلت قد تتمحض في حق بعض الناس ابتلاءً وكرامة، وقد تتمحض في حق بعض الناس بلاءً وعقوبة.
وعقب الذي تقرر؛ فإنَّ النظر القويم -فيما يظهر- هو الموازنة بين الذنوب وما يقرر فيها من جلب الهزيمة، وبين عزائم الأعمال والتي منها الجهاد في سبيل الله مع اعتبار حال الأمة.
وبلغةٍ أوضح: لو جئنا إلى الميزان ووضعنا البلد في كفة ثم وضعنا في الكفة الأخرى أشرار البلد؛ فإنَّ الخبثَ الموجود ليس قليلًا، وهنا يُخاف من الهزيمة، لكننا لو وضعنا هذا البلد بحسناته وسيئاته ثم وضعنا في الكفة الأخرى حال الأمة التي كُبلت بفعل الأنظمة عن الجهاد في سبيل الله، وانشغل كثيرٌ من أبنائها بالتافه من الفعل.. فإن هذا البلد يبدو في ذروة العظمة.
والمقصود: أن النصر يمكن أن يحصل لهذا البلد، ويكون نصرًا عظيمًا بإذن الله؛ إذ الصلاح غالبٌ في الناس، وهو المستفيض من حالة المجاهدين، وما يقوم به أهلُ البلد من المرابطة في المواقع الجهادية والمدافعة عن المقدسات يأتي في زمانٍ ترك أكثر أهله الجهاد في سبيل الله؛ إما بفعل الغفلة، أو بسبب تكبيل الأقدام عن المضي للجهاد بفعل الأنظمة الجاثمة على صدور شعوب الأمة.
والخطاب المناسب إزاء ما تقرر:
أننا نستغفر الله من ذنوبنا ونرجو رحمته ونصره وتوفيقه، ونحسن الظن بالله الذي عودنا فضله في كل مرة أن ينصرنا هذه المرة.
وننظر بالعين الأخرى إلى الذنوب فنرجع على أنفسنا باللائمة والتوبة والاستغفار والاستكثار من الحسنات الماحية وتحمل المصائب المكفرة، وندعو الآخرين إلى ذلك، ونقول لمن يجهر بشيءٍ من الذنوب: من هنا تأتي الهزيمة، ونعظه بالتوبة بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد يتأخر النصر حقًّا بسبب الذنوب، وقد تأتي الهزيمة حقًّا إذا كثر الخبث وغلب.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم إنا نستغفرك من كل ذنبٍ يؤخر النصر عنا، ويسلط العدو علينا.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
هذا والله أعلم، ونسبة العلم إليه أسلم، والحمد لله رب العالمين.