غزة بين المرجِفين والموَفقين
ديسمبر 9, 2024الاحتلال يكثف العدوان على رفح
ديسمبر 9, 2024من ثمرات الطوفان (1) – إظهار عزة المسلم وثباته
بقلم: الشيخ محمد بن محمد الأسطل – من علماء غزة
يقول السائل: هذه المعركة مع عظمة العملية التي بدأت بها هل لها فائدةٌ أو ثمرةٌ بعد أن أبيد فيها كل شيء، واستشهد فيها عشرات الآلاف واعتقل الآلاف وقُصِفَ أو نُسِف أكثر من ثلثي البيوت السكنية في القطاع؟
والجواب:
الحمد لله، وبعد: فإنَّ هذا السؤال من أصعب الأسئلة التي يمكن غرس جوابها في صدر السائل بسهولة؛ ليس لأنَّ السؤال معقدٌ في نفسه؛ وإنما تعود الصعوبة لأمورٍ من أهمها هذان الأمران:
الأول: أنَّ الذي يعاني مشاهد المجازر المتكررة وتفاصيل النزوح ولا يستطيع تدبير أمره في أساسيات العيش في ظل الغلاء المجنون للأسعار، والتي قد تصل في بعض السلع إلى عشرين ضعفًا، مع توقف الرواتب وانعدام الدخل لن يسهل عليه استيعاب الدروس والثمرات المتعلقة بأمرٍ خارجٍ عن تدبير الأزمة التي يعانيها.
الثاني: أنَّ مَن يقف في جوف الأزمة لا يحسن أن يقرأ المشهد من خارج، فتفاصيل المعركة وانشغال الناس بتدبر أمر عيشهم وسلامتهم من الخطر المحدق بهم يجعل المشهد كمن وضع (الزُّوم) على شيءٍ بعينه حتى لم يعد يرى في الصورة شيئًا غيره وإن كان قريبًا منه.
فكيف يمكن أن تُحَدِّثَ من هذا حاله عن السياقات المحلية والإقليمية والدولية والعالمية التي ترتبط ثمرات المعركة بها؟!
وعن أي إنجازٍ تتحدث لشخصٍ يفر من مخيمٍ إلى آخر؟
وإذا ما هدأ في مكانٍ رأيته يعاني حمل الماء على كتفيه من مسافاتٍ بعيدة؟
وإذا استقر في خيمته عانى حر الخيام إلى الحد الذي لا يكاد يُطاق في أكثر الأحيان، ونحن الآن على موعدٍ جديدٍ مع البرد والمطر الذي يُغرق الخيام وقد يفسد ما فيها.
وإذا كان الشخص قد فقد شهيدًا أو كان له مفقودٌ أو معتقلٌ أو جريحٌ فإن الآلام تزيد وتجتمع.
فالحديث عن المنجزات المحلية والإقليمية والدولية لشخصٍ بلغ منه الإنهاك غاية المبلغ أمرٌ يجعل المتكلم كأنه في وادٍ والمستمع في واد.
وأنا أذكر هذا وأنا جزءٌ من المشهد، وكانت تأتي أوقاتٌ طويلةٌ لا تكاد تفكر إلا في المعركة، وحين تيسر لي التحصل على تفسيرٍ مختصرٍ وقرأت تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾ [الأحزاب: 10] بأنَّ الأبصار زاغت عن كل شيءٍ إلا عن المعركة.. شعرت أني ما فهمت الآية قبل ذلك؛ لأنَّ هذا هو أدق توصيفٍ كنا عليه، فما فهمت الحال الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب إلا حين اجتمع علينا الأحزاب.
والمقصود: أنَّ الذي يقبع داخل فرن المعركة لن يسهل عليه نفسيًّا أن يفكر في منجزاتها الكبرى، فهو كالواقع فعلًا داخل طوفان ويهمه كيف ينجو من الغرق ويباد حوله كل شيء، فلا يرى حركة الطوفان وأثره إلا من كان بعيدًا ينظر إليه من خارج.
ومع هذا كله؛ فإنَّ ضغطَ الأسئلة المذكورة ونوعيتها يُحتِّمُ الجواب، لا سيما وأن البلد الآن بدأت تشهد نوع استقرار بعد انسحاب العدو من أكثر المناطق، وإن بقي القصف الجوي قائمًا وغير ذلك من عناءات العيش، خاصة غلاء الأسعار وفقد بعض ما يؤذي فقده كالصابون والمحارم الورقية.
فيا أخي المبتلى:
أصغ لكلامٍ من أخٍ يعاني ما تعاني، ويجد ما تجد، ومن الله استمدادُ الصبرِ والرضا والثبات والجَلَد.
وأستهلُّ الحديثَ عن الثمرات بفكرةٍ مركزيةٍ لو تقررت في صدرك فما يأتي من سرد الثمرات يسهل تصوره واستيعابه بإذن الله:
إنَّ الظنَّ الكريمَ بالله والرجاءَ في فضله ورحمته أنه يتخذ من رجال هذا البلد الجنود الذين يستعملهم في طاعته، وإعزاز دينه، وإذلال أعدائه في الأرض، ليكون لهم نصيبٌ حسنٌ في إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
فلقد امتلأت الدنيا ظلمًا، وزاد الطغيان الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وكبرى الدول الأوروبية، وتمكن الغرب من ناصية الشعوب الإسلامية عبر الأنظمة المفروضة الجاثمة على صدورهم، ولقد خُدرت الجماعات الإسلامية وسُحقت التجارب الإصلاحية والمحاولات الثورية حتى دخلت الأمة في حالةٍ من الركود والضعف.
فجاءت هذه المعركة لتحطم الكبرياء الأمريكي، لتشتد وتيرة ضعفه وإنهاكه.
كما جاءت لتذلَّ الكيانَ الصهيوني، بحيث تمثل له عمليةُ السابع من أكتوبر عقدةً نفسيةً لا تزول، وهي التي لا زالت تمنع قادة العدو من إيقاف المعركة؛ لأن لحظة الإيقاف أشبه بتشييع جنازة هذا العدو على الصعيد النفسي والمعنوي، ولو استطاع قادة العدو حذف تاريخ السابع من أكتوبر من السنة بحيث لا تعود هذه الذكرى لفعل.
ثم هي التي تأتي لتسريع الاصطفافات والتحالفات، وإحداث تغييراتٍ في موازين القوى مع أن غزة بقعة محلية لا إقليمية ولا عالمية، فالتأثير العالمي لا يأتي عادةً من الأحداث المحلية إلا إذا تفاعلت الأحداث وتراكمت.
ثم هي التي تأتي لأجل لحلحة حال المسلمين والإسلاميين في عامة البلاد، بعد موجة الركود والرقود التي أصابت العالم الإسلامي بعد الثورات المضادة.
فالظن الكريم بالله أنه اختار رجال هذا البلد ومجاهديه ليكونوا كالذخائر المتخذة للمقامات الفاضلة، فهم في أحسن ما يكون من الاستعمال بإذن الله تعالى وفضله، والرجاء أن تزيد موجبات تكثير الصلاح وتقليل الفساد والخبث ليكون أهل البلد أبعد ما يكون عن الاستبدال بإذن الله تعالى وفضله.
وعلى هذا؛ فلو سُحِق البلدُ وقُتِلَ أهلُه جميعًا لما كان مصيرهم الأخروي -يبتعد بحسب حسن الظن بالله- عن مصير أصحاب الأخدود الذين شهد القرآن بفوزهم الكبير مع أنهم قُتِلُوا جميعًا، فكيف وقد أذل الله العدو الصهيوني ومن خلفه النظام الدولي على أيدي المجاهدين على مدار سنة كاملة حتى باتت مشاهد اليأس من النيل من هذا البلد واضحةً لكلِّ ذي عينين، فضلًا عن رزمة الثمرات العظيمة التي يأتي هذا المقال لرصدها.
إذا تقرر ذلك فلنأخذ في الحديث عن الثمرات والمنافع، وأجعلها على ثلاثة أقسام: الأول: على البعد المحلي، والثاني على البعد الإقليمي، والثالث على البُعد العالمي وما يتعلق بموازين القوى، وأختم الكلام برأي شخصيٍّ يتعلق بالمعركة وهو متصلٌ بالكلام عن الثمرات. ودونك الكلام عن الأقسام الثلاثة..
القسم الأول: الثمرات على الصعيد المحلي
وهنا ثمراتٌ كثيرة منها الخمس الآتية..
- الثمرة الأولى: تثبيت عزة المسلم وهيبته وأنفته أمام الأعداء في الوقت الذي خنعت فيه عامة الأنظمة والدول
فحين نتصور أن الأمة بأسرها قد سقطت كلمتها السياسية بسقوط الخلافة العثمانية سقوطًا نهائيًّا سنة 1924، وأُقْصِي حكم الشريعة، ومن ثم خضعت البلاد الإسلامية لاحتلالٍ مباشر، ثم لاحتلالٍ بالوكالة عقب تشكل النظام العالمي الجديد في جوف الحرب العالمية الثانية التي انتهت سنة 1945، وزُرع في منطقة القلب منها الورم السرطاني المسمى إسرائيل، وحُيدت مصر باتفاقية كامب ديفيد الثانية سنة 1979، وأُجهضت ثورات الربيع العربي، ثم تكاثفت حركة التطبيع من العدو، وبدأ العدو في تسريع خطوات تهويد الأقصى وهدمه بعد أن بدا له أن الأمور باتت سانحةً لما يريد، وقفز في ذلك قفزات هائلةً قبيل المعركة، وبات كل شيءٍ كما يراه العدو حاصلًا، ولا أحد في الأمة الإسلامية التي تبلغ 2 مليار مسلم يستطيع أن يتصدى له.. وإذ بمجاهدي هذا البلد العظماء يعلنون المعركة بالعملية الكبرى، ويسمونها باسمٍ ينص على كلمة السر في المعركة، وهي المسجد الأقصى.
فالثمرة هنا ثمرةٌ عقديةٌ معنوية، حين يُمثِّل رجال هذا البلد عموم الأمة المسلمة وهم يدافعون عن الأمة بأسرها وعن المقدسات، ويدخلون في معاندةٍ كبرى مع النظام الدولي، ويقاتلون شرطي المنطقة إسرائيل وشرطي العالم الولايات المتحدة في حرب مفتوحة وجهًا لوجه.
فهذا إيذانٌ كريمٌ بأنَّ رجالَ محمدٍ ﷺ لم يموتوا، وأنَّ الأمةَ زاخرةٌ بالرجال والأخيار والأسود.
وهذا يُذكِّرني بما ذكره الشيخ فايز الكندري وفقه الله في كتابه “البلاء الشديد” -الذي ذكر فيه قصته في سجن غوانتنامو- أن المحققين الأمريكان كانوا يعجبون من الثبات الأسطوري الذي كان المعتقلون عليه، ومن الجرأة التي كان عليها من قام بعملية الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 والتي جاءت عملية اعتقال المئات في أعقابها سواء كانوا مجاهدين أو دعاة أو إغاثيين أو غير ذلك؛ وذلك من أجل فهم العقلية الإسلامية من خلال العينة التي اعتُقلت والتي بلغت 700 معتقل، موزعين على خمسين دولة إسلامية.
ويذكر أن أحد الجنود المتعاطفين سأله يومًا قائلًا:
أي نوعٍ من البشر أنتم؟!
دولٌ عظمى ترتجف أوصالها من الولايات المتحدة فكيف تجرأتم عليها؟!
أعظم ترسانة عسكرية في العالم تحوم في بحار الأرض وأجوائها والكل مطأطئ رأسه في خنوع فكيف تجرأتم؟!
حدق بي برهةً دون أن أجيب، مشى خطواتٍ في الممر ثم التفت إليَّ قبل أن يكمل سيره وقال: أحترم الشجعان وإن كانوا أعداء، وأحتقر الجبناء وإن كانوا أصدقاء، أكرهكم لكني أحترمكم!.
قال: وفي أحد الأيام جاء أحد الجنود في العنبر الذي كنت فيه، فوقف قريبًا مني، تلفت يمنةً ويسرةً ليتأكد أنَّ أحدًا لا يراه من الجنود والضباط، التفت إلينا وحيَّانا بالتحية العسكرية مشيرًا بيده إزاء رأسه قائلًا: “welcome great lions”؛ أي: مرحبًا أيتها الأسود العظيمة!
فإبراز الشخصية المسلمة في سياق معاندة قوى الباطل أمرٌ ذو قدر، وتتطلبه أجواء المعركة، والشخصية الغزّية اليوم من الشخصيات الإسلامية التي تمثل عزة المسلم، وهي موضع عطش الأمة بعد أن خنعت الدول والأنظمة على المستوى الرسمي.
ولقد أظهر أهل هذا البلد من الثبات والجلَد ما لا ينقضي منه العجب.
إنَّ مئات الآلاف من أهل مدينة غزة والشمال الذين ثبتوا أمام فتنة الأحزمة النارية والقصف البركاني المجنون مطلع الحرب البرية ولم يخرجوا إلى الجنوب.. ليُعَدُّون بثباتهم من عمالقة هذا العصر، ولو أنهم خرجوا لما أنكر أحدٌ عليهم؛ لأنَّ الجبالَ لو تعرضت لما تعرضوا له لدُكَّت وتصدعت، ولو كان لها أقدام لركضت وفرَّت.
وإنني -وأنا ابن هذا البلد- ما زلت أعجب عجبًا لا ينقضي كيف ثبت هؤلاء؟!
وإني لأحسب أنهم بثباتهم الأسطوري العظيم قد أفشلوا مشروع التهجير الذي كان قريبًا فعلًا من التنفيذ في التصور الصهيوني إلى جانب بأس المجاهدين وعملياتهم وإثخانهم.
ليس لهذا تفسيرٌ -والله- إلا أنَّ الله معنا، وأنَّ الله هو الذي يُثَبِّتُ عباده في هذا البلد، وهو الذي يتولى أمرهم، ويُفرغ الصبر عليهم، وهو الذي ينزل السكينة عليهم ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم.
فاللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على نعمة العقيدة والإسلام والثبات والسكينة والتوفيق والسداد