قراءة في مقتنيات السنوار (1)
نوفمبر 10, 2024لماذا تقاومون وأنتم قليلون؟
نوفمبر 11, 2024الشيخ محمد بن محمد الأسطل
في تمام الساعة السادسة والنصف من صبيحة يوم السابع من أكتوبر 2023 أصبحنا على أصوات خمسة آلاف صاروخ تتجه باتجاه الكيان الصهيوني، وبدء عملية تعد أكبر العمليات العسكرية في تاريخ المقاومة في فلسطين، وهي أكبر معاركنا ومعارك الكيان الصهيوني من لحظة الاحتلال وحتى اليوم.
وقد نجح المجاهدون بفضل الله في تجاوز حدود العدو، وتعطيل منظومة الاتصال والتصوير في أكبر عملية خداع للعدو لن ينساها في تاريخه، ووصلوا إلى القواعد العسكرية، وانقضوا على جنود العدو، فقتلوا نحوًا من ألفين، وأسروا زيادةً عن مائتين.
وما إن استوعب العدو ما جرى حتى بدأ في حربٍ مجنونةٍ لم تخف وطأتها حتى اليوم على مدار سنةٍ كاملة.
لقد قرر الكيان الصهيوني أن يسحق المجاهدين، ويفتك بالبلد، ويدمر فيه كلَّ شيء، وتوافد كثيرٌ من رؤساء دول العالم على مؤازرته في ذلك، وتسليحه بما يريد، وإعطائه الغطاء الكامل ليفعل ما يريد.
وبدأت حرب الإبادة، واستشهد الآلاف في بضعة أيام، وصارت الأخبار تأتي بقصف المساجد والمؤسسات والجامعات والكليات والشركات والمصانع وكثيرٍ من الأبراج والبيوت السكنية، وغير ذلك مما يشق تتبعه، وكان الذي نراه من البأس في المعارك السابقة في شهرٍ يمكن أن نراه في هذه المعركة في يومٍ أو بعض يوم.
ولم نكن قد جربنا قتال الولايات المتحدة الأمريكية حدَّ الاشتباك المباشر، وإذ بألفي جنديٍّ من جنود الأمريكان يحضرون إلى الكيان، مع طاقمٍ قيادي يتولى جزءًا من إدارة المعركة، ووصلت البوارج الأمريكية حاملة الطائرات، وبدا واضحًا من جملة ما تسطر وغيره أن النظام الدولي الحاكم -ممثلًا بالولايات المتحدة وكبرى الدول الأوروبية- قد قرر سحق غزة سحقًا تامًّا، ليتم الانتهاء تمامًا من هذه البقعة التي تقوم بالتشغيب بينٍ وقتٍ وآخر.
ثم إنَّ كلَّ ما قرأت كان نزهةً بالقياس مع بدء الحرب البرية!
ومع الدخول البري ونية العدو في تهجير أهل البلد إلى سيناء، والبدء في القصف البركاني المجنون كثر القتل، واشتد الخوف، وعظم الكرب، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلالًا شديدًا.
إي والله.
حتى صارت المناطق التي لم تشهد قتالًا قط من أول الانتفاضة ساحة حرب، لا يسهل أن تعرف معالمها؛ بل ولا ملامحها في بعض الأحيان.
وعلى المستوى الشخصي فقد بدأ كثيرٌ من الناس في توديع أحبابهم، وكتابة وصاياهم، وهُرع الناس إلى الاستغاثة بالله في دعاء القنوت وغيره.
ومع شدة البأس غير المسبوق، والسرعة الجنونية في عداد الشهداء اليومي، وقصف البيوت على رؤوس أصحابها بما لم نعهده من قبل.. أخذ بعض الدعاة يبشرون الناس بنصرٍ قريبٍ؛ أخذًا من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]؛ إذ تفيد الآية أن النصر قرين اليأس، وأنه متى بلغ الضيق مبلغ الاستيئاس فالنصر قريب.
وهذا يعني -على ما نفهمه من الآية- أنه لا يفصلنا عن نهاية المعركة إلا أيامٌ معدودة، ولهذا كان الرجل إذا سُئل: متى تتوقع أن تنتهي الحرب؟ وقال بعد شهرٍ مثلًا.. فإن ذلك من شأنه أن يُنزلَ الضيقَ بالسائل حدَّ التبرم.
وأذكر في شهر 12 الماضي أنَّ بعض الناس كانوا يدندنون حول صفقةٍ متوقعةٍ سُتبرم في غضون أسبوعين، فكان ذلك قاسيًا على النفوس، ولكأن المدة المتبقية بضعةُ شهورٍ أو سنين!
ومضى وقتٌ كأن اليوم فيه شهر، والشهر الذي انصرم كأنه يوم؛ لأنَّ النفس تطيل التأمل في يومها وتكون ذاهلةً عما مضى من أمسها فيختل النظر.
ومن المعلوم أنه عقب التهدئة التي جرت بعد 48 يومًا من بدء المعركة جاءت معاناة النزوح، وتبين للناس أن التحصل على خيمة يشبه التحصل على بيتٍ فخم، وكان البرد شديدًا، واشتد معه الجوع، وفقدت السلع، وكثيرٌ من الأدوية، وشرب الناس الماء الملوث، وقُطِعَت وسائل الاتصال، وكذلك الانترنت، وقد قطع التيار الكهربائي من ثالث أيام المعركة من قبل، وسكن السواد الأعظم من الناس الخيام، وتساوى الناس، وصار من الممكن أن ترى صاحب الشركة أو المصنع الذي كان يملك من المقدرات ملايين الدولارات يبحث عن قوت يومه، ويقف مع الناس في طابور التحصل على صحنٍ من الطبيخ.
وفي التفاصيل لقد جرَّب الناس أصنافًا من البلاء لم تخطر لهم ببال، حتى إنه ليمكن عد الحروب السابقة نزهةً حقيقيةً بالقياس عما نرى، وصرنا نستذكر ما بلغنا عن إخواننا من قبل في العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها من بلاد الإسلام.
إن الحزامات النارية مثلًا التي قد يأتي ذكرها باردًا في الأخبار هي فتنةٌ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى، ولو كانت القيامة عبارةً عن حزاماتٍ ناريةٍ لكانت رعبًا يستحق أن يتعب الإنسان مدة الدنيا في التعبد وفعل البر ليكون من الذين يأتون آمنين منه يوم القيامة، ويأخذ في تتبع النصوص التي تُبشر بعض الفئات بالأمن والأنس والاستظلال في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
وحتى قصف البيوت وإن كان معتادًا من قبل إلا أنه كثيرًا ما كان يُسبق بالإنذار المبكر من خلال اتصالٍ هاتفيٍّ بأهل البيت، أو بصاروخ زَنَّانة -مُسيَّرة- يسبق الصاروخ المُدمِّر، أما في هذه المعركة فيتم قصف البيت من غير سابق إنذار.
وأذكر من الأخبار التي جاءت: بيت فلان قُصف، واستشهد في البيت 36 شخصًا، وبيت فلان قُصف، واستشهد فيه 58 شخصًا، وبيت فلان قُصف، واستشهد فيه 70 شخصًا، وكثرة الأعداد راجعةٌ لكثافة النازحين إلى هذا البيت من الأقارب والمعارف أو من غيرهم.
والكلام هنا ليس مجرد أرقام كما يمكن أن يستقبل الخبر من هم خارج البلد من أبناء الأمة؛ بل الحديث هنا كثيرًا ما يكون عن أصدقاء أو أقارب أو معارف، فالمشاعر ضاغطةٌ جدًّا.
والعائلة الواحدة قد تكون متفرقةً لاعتبارات شتى، فيستشهد أكثر الأفراد كل واحدٍ في منطقة في ظروفٍ مختلفة.
وهذا أمرٌ يعمل في المشاعر عملَه.
وتقريبًا للصورة: نظرت قبل مدة في الأسماء التي حصل بيني وبينها تواصل في الأيام الأخيرة قبل المعركة أو في أيامها الأولى، فهالني كثرة من فيهم من الشهداء، فأخذت في العد، وأخذت عينة من ذلك 15 شخصًا، فوجدت الذين استشهدوا منهم 11 شخصًا هم من أقرب الناس إليَّ وأعزهم وخيارهم.
لقد صار القتل قريبًا، وهانت الدنيا على الناس، وصار الكرب يُرى ويُحس في الشوارع، حتى تغيرت هيأة كثيرٍ من الناس!
وأذكر قبل ما يزيد عن شهرين أني رأيت بعضَ من لم أكن قد رأيتهم من أول الحرب، وإذ بالواحد كأنه زاد في العمر خمس سنين أو يزيد.
بل مما تحتار معه أن تضحك أو أن تبكي أن بصمة الوجه لم تعد فعالة في بعض الهواتف؛ لعدم تعرف الجوال على هيئة صاحبه بعد الذي أصاب الوجه من التغير، سواء من التعب والإنهاك وكرب العيش، أو من أثر الجوع لا سيما في مناطق مدينة غزة والشمال!
وفي ثنايا المعركة تأتيك أخبارٌ كبرى من البأس من مثل قصف المستشفى المعمداني واستشهاد 500 شخص، وقصف ثلاثين برجًا في مدينة الزهرة حتى أبيدت عن آخرها، وغير ذلك مما هو قريبٌ منه أو دونه.
والأشد من هذا كله ما كان يتردد في الأجواء من بداية المعركة من شبح التهجير إلى سيناء، وهو الأمر الذي تفاعل جدًّا عقب التهدئة وبدء حركة النزوح باتجاه الجنوب مطلقًا ثم باتجاه رفح خاصة، ولقد مضت علينا أيامٌ صعبةٌ في ذلك.
وكان يكلمني بعض الأفاضل ويذكرون أنهم على يقينٍ من حصول التهجير كما تشير القرائن بذلك، وكنت أقول لهم: قلبي مليءٌ بالتوجس؛ لأنَّ أكثرَ من نصف سكان قطاع غزة هم الآن على الحدود المصرية مباشرة، ولكني على يقينٍ بالله من عدمه.
وكنت أرى أن عامة آيات القرآن التي تتكلم عن الإخراج من الديار آتيةٌ في سياق كونه نجاة وإن كان هو في نفس الأمر ابتلاءً من حيث كونه مغادرةً للديار والأهل، فكيف ينتهي هذا المشهد الجهادي من شدةٍ إلى ما هو أشد؟!
ومن الأدعية التي كنت أرددها كثيرًا:
اللهم إنا نعوذ بك من الذلة بعد العزة، ومن الخوف بعد الأمن، ومن النقص بعد الزيادة.
اللهم كما أدخلتنا المعركة مدخل صدقٍ فأخرجنا منها مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا.
وبعد؛ فما تَسَطَّرَ من أول المقالة معلومٌ لأكثر الناس، وقد عانوه وعاينوه بأنفسهم فكيف أحكي قصةً لصاحبها الذي جرت معه!
ولكني إنما ذكرتُ ذلك لأتمهد به إلى ما بعده مما هو مقصودُ الكلام.
إنَّ أجواءَ المعركة التي أتيتُ على طرفٍ من كلياتها دون الجزئيات والتفاصيل قد أوجدت رزمةً من الأسئلةِ على السطح، وصار كثيرٌ من الناس في ظل الإبادات اليومية التي لا تنقطع يسأل:
– أين نصر الله؟
– إن الآيات تبشر بنصرٍ قريبٍ وأنه يأتي حين اليأس وقد حصل اليأس، فلماذا لم يأت نصر الله؟!
– فهل تعطَّلت فاعلية الآيات؟
– ثم إنَّ فقه السنن يقرر نصرة الله للمظلوم وانتقامه من الظالم فهل توقفت فاعلية فقه السنن؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا؟
– ولماذا لا تستجاب الأدعية وقد التمسنا أوقات الإجابة وأحوالها؟
هذه الأسئلة وما دار في فلكها أفضى إلى موجةٍ عارمةٍ من اليأس والإحباط، وشك بعض الناس في وعد ربهم، بل بلغ الحال ببعض الناس إلى التكلم بما هو كفرٌ في نفسه والعياذ بالله.
وإذا كان الناظر من أبناء الأمة في أي بلدٍ يرى على نشرات الأخبار مشاهد الإبادة وبجانبها المقاطع الجهادية التي فيها إثخان المجاهدين في عدوهم فيعتدل عنده المشهد لاقتران الألم بالأمل.. فإنَّ شراسةَ المجازر هنا قد تجعل الذي يعاني ذاهلًا عما يجري على الأرض من إنجازاتٍ عسكرية، وحين تأتي فكأنها ومضة قد يُضعِفُ أثرَها شدةُ البأس ومعاناة تدبر أمر العيش، ولهذا من فضل الله على المجاهدين أنهم أخرجوا العمليات موثقةً لتبقى محفوظةً في الهواتف تؤدي فاعليتها من التحريض وبث الأمل كلما نظر إليها ناظر.
ومع شدة الجوع، وقصد العدو لتقرير حالة الانفلات في البلد، وبروز ظاهرة قطع الطريق والسرقة تبعًا لذلك فقد تكاثفت الأسئلة وكثرت، وكلها تتمحور حول اليأس، وفقد الأمل، وشدة الإحباط، خاصة أن هذا الخطاب قد وصل لبعض النخب من مثل الأساتذة والأكاديميين والدعاة والمشايخ وأولي الهيئات.
وصار من الأسئلة التي ترد إليَّ:
- هذه المعركة التي أبيد فيها كل شيء، واستشهد فيها عشرات الآلاف واعتقل الآلاف وقصف أو نُسف أكثر من ثُلُثَي البيوت والمنازل السكنية هل لها من فائدةٍ أو ثمرةٍ سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي توازي ما تمت خسارته؟
- وهل يمكن أن ننتصر ونحن نرى ما نرى من مظاهر الذنوب كالسرقة والجرأة على بعض الحرمات وكحالة الاستغلال من التجار؟
- وهل ما حصل بالبلد من ذنوبٍ ومخالفات كالسرقة وقطع الطريق والابتزاز كالذي يجري من بعض التجار جعلنا في سياق سنة الاستبدال؟
- وهل ما يجري الآن هو ابتلاءٌ وكرامةٌ واستعمالٌ وهو نتيجةٌ طبيعيةٌ للجهاد والثبات والصبر أم أنه بلاءٌ ومهانةٌ واستبدال بسبب ما وقع بنا من ذنوبٍ وخبثٍ وتقصير؟
- وهل هذا الذي حصل لنا من إبادةٍ حصل لأحدٍ قبلنا لنأنس بذلك؟ أم أننا بما نقع به من تقصيرٍ أو بما يوجد فينا من مذنبين بتنا معاقبين بما لم يُعاقب به أحدٌ قبلنا؟
- وأين لطف الله مما يجري؟
- وما الذي يمكن أن يحصل في المستقبل القريب؟
- وكيف يمكن أن تنتهي المعركة؟
هذا ما أجيب عنه في هذه الرسالة بإفراد القول في كل سؤالٍ بجوابٍ لا يطول إلا الكلامَ في الثمرات؛ فإني أبسط القول فيها لا لطول الكلام في كل بندٍ؛ ولكن لكثرة البنود وتشعبها على مختلف الأصعدة كما سترى، كما أنَّ جزءًا من مادتها يعد خادمًا لإجابة عددٍ من الأسئلة بعدها.
ومن الله استمدادُ التوفيق والإصابة والسداد.