التعريف بكتاب من النبي إلى البخاري
فبراير 26, 2024عالمية الإسلام العرب والعجم في خدمة السنة الشريفة
فبراير 27, 2024لقد حفظ الله تعالى السنة برجال جمعوا أحاديث النبي ﷺ، وقاموا بتنقيتها وصيانتها من الكذب والوضع، منهم الإمام مسلم رحمه الله صاحب الصحيح الذي تلقته الأمة بالقبول، كما تلقت صحيح البخاري، وقد نهج الإمام مسلم في تصنيف صحيحه نهجاً مميزاً حيث قسم فيه الحديث إلى ثلاثة أقسام، ثم قسم رجاله إلى ثلاث طبقات، وبعد أن أتم جمع صحيحه عرضه على شيخه الحافظ الإمام أبي زرعة الرازي رحمهم الله جميعاً.
كانت رغبتي تناول الصحيح للإمام البخاري، ولكني استشرت في ذلك شيخي وأستاذي الشيخ محمد بن عبد المقصود فقال: مسلم أخف، فوافقته على رغبته وإن كانت رغبتي في الكتاب الآخر؛ لأني أدرّس (صحيح مسلم) منذ أربع سنوات في (الهرم)، فكنت أود أن أبدأ بكتاب آخر؛ حتى أحصّل الفائدة لنفسي، كما ورد عن بعض شيوخ العصر أنهم كانوا يقرءون الكتب على التلاميذ لا لأجل التلاميذ ولكن لأجل نفعهم ومصلحتهم، فكنت أود أن أقرأ البخاري، ولكن طلب مني شيخي ولا يسعني مخالفته فوافقته على صحيح مسلم.
وإذا كنا سنبدأ في كتاب الصحيح من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أولاً أن ندرس سيرة الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، ثم بعد ذلك ندرس كتابه الصحيح حتى يعظم عندنا وفي قلوبنا المصنِّف والمصنَّف كذلك، فإذا استقر الأمر على الاستمرار في هذا الصحيح علمنا سلفاً قيمته وفضله، فيحسن بنا أن نبدأ هذا الدرس بذكر ترجمة الإمام مسلم.
ترجمة الإمام مسلم
هو: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد النيسابوري، بلداً وموطناً ونشأةً، القشيري. وقشير: هي قبيلة معروفة من قبائل العرب، يُنسب إليها الإمام ولاءً، هو إمام أهل الحديث في عصره، وأحد الحفّاظ المتقنين الأفذاذ.
أما مولده فقد اختُلف فيه بين سنة (204هـ أو 206هـ)، والصحيح هو القول الثاني؛ لأن الإمام قد مات سنة (261هـ) عن (55) عاماً، فهذا يرجّح القول الثاني وهو أن مولده كان سنة (206هـ).
شيوخ الإمام مسلم
أول سماعه للعلم كان سنة (218هـ) أي: كان بعد مولده بـ (12) عاماً، معنى ذلك: أنه بدأ طلب العلم مبكراً، وهدي سلفنا في بداية طلبهم للعلم أنهم كانوا يقبلون على القرآن الكريم أولاً فيحفظونه ويتقنونه إتقاناً جيداً كما قال عبد الله بن مسعود: الحفظ الإتقان.
فلما فرغ من هذه المهمة التي هي بمثابة الخطوة والعتبة الأولى في طلب العلم دُفع به بعد ذلك إلى مجالس المحدثين، وكان ذلك في مقتبل عمره سنة (218هـ)، فسمع من يحيى بن يحيى التميمي وهو أكبر شيخ له، روى عنه نسخته عن مالك بن أنس الأصبحي إمام أهل المدينة.
تنبيه: وكثير من الناس يُخطئ في هذا الأمر فيظن أن يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن الإمام مالك هو الذي يروي عنه الإمام مسلم في الصحيح، ولكن الأمر ليس كذلك، فإن يحيى بن يحيى الذي يروي عن مالك الموطأ إنما هو يحيى بن يحيى الليثي، وأما يحيى بن يحيى الذي يروي عنه مسلم عن مالك في صحيحه فإنما هو يحيى بن يحيى التميمي وليس الليثي، فليعلم هذا جيداً؛ لأن كثيراً من المحققين يخطئ في ذلك.
فـيحيى بن يحيى التميمي هو أكبر شيخ للإمام مسلم، وهذا يدلنا أيضاً على أن مسلماً بدأ السماع في سن مبكرة. وحج في سنة (220هـ) وهو أمرد أي: لا لحية له، فسمع بمكة من الإمام القعنبي وهو إمام جليل، وهو كذلك من أجلّ شيوخ الإمام مسلم، اسمه عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، فهو أكبر شيخ له كذلك.
وسمع بالكوفة من أحمد بن يونس وجماعة. وسمع ببغداد أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة وآخرين. وسمع بالري محمد بن مهران وأبا غسان. وسمع بالحجاز سعيد بن منصور وهو إمام عظيم جليل من أئمة الهدى، له مصنف في العلم اسمه سنن سعيد بن منصور، وسمع كذلك أبا مصعب وآخرين. وسمع بمصر عمرو بن سواد المصري وحرملة بن يحيى صاحب الإمام الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وهذا يدل على أن الإمام مسلماً كان واسع الرحلة في أول عمره، والرحلة إنما هي سُنة من سنن علمائنا وهديهم، كانوا إذا بدأوا بطلب العلم أخذوا علم أهل بلادهم أولاً، فإذا أتوا عليه وفرغوا منه بدأوا بالتفكير في أن يرحلوا إلى أقرب البلاد ثم أقربها فأقربها، وهذا الذي فعله الإمام مسلم، وكانت له رحلة واسعة إلى بلاد الغرب والشرق حتى حصّل علوماً كثيرة، وجاء بمسموعات وفيرة.
وممن سمع منهم الإمام مسلم غير من ذكرنا أيضاً: أحمد بن سعيد الدارمي، ولا نستطيع أن نذكر كل الشيوخ الذين روى عنهم الإمام مسلم، إنما نذكر الأئمة العظام خاصة الذين أكثر عنهم مسلم في كتابه الصحيح؛ لأننا لو أردنا أن نتقصى شيوخ الإمام مسلم لما استطعنا، وعلى أية حال من الممكن أن نعد له ثلاثة آلاف شيخ، وكذلك البخاري كان له أكثر من هذا العدد.
فالإمام مسلم روى أيضاً عن أحمد بن سعيد الدارمي وابن منيع والحسن بن علي الخلال الإمام، وإسحاق بن منصور الكوسج، وهو تلميذ الإمام أحمد بن حنبل. وكذلك روى عن شيبان بن فروخ وزهير بن حرب وسويد بن سعيد، وزهير بن حرب هذا هو أبو خيثمة النسائي أول شيخ للإمام مسلم في صحيحه، وكذلك روى عن عبد بن حميد صاحب كتاب المنتخب -واسمه عبد الحميد بن حميد – وعبد الله بن أبي شيبة وعثمان ابني أبي شيبة، وعبد الله بن أبي شيبة هو المعروف بـأبي بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف، مصنف ابن أبي شيبة الكبير الضخم، وهو إمام جبل كالجبال الرواسي في العلم. وعمرو الناقد وقتيبة بن سعيد وابن رمح وابن المثنى وهارون الحمال وهناد بن السري صاحب كتاب الزهد، وابن معين إمام الجرح والتعديل صاحب التاريخ، وغيرهم بلغوا (220) رجلاً، أخرج لهم مسلم في صحيحه.
وله شيوخ عدة سوى هؤلاء لم يخرّج عنهم في صحيحه
الراوة عن الإمام مسلم
أما الراوون عنه فهم كثرة، زادوا عن الثلاثين ألفاً، ولكنا لا نعد بعض هذا العدد الكثير إنما نعد منهم بعض الأئمة لنرى كيف أخذ هو عن الأئمة، وكيف أخذ عنه الأئمة.
فممن أخذ عنه صالح جزرة وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، وكذلك الإمام الترمذي روى عن الإمام مسلم كثيراً، كما روى أيضاً عن الإمام البخاري، فكثيراً ما يقول الإمام الترمذي في صحيحه: سألت محمداً عن فلان، وسألت محمداً عن هذا الحديث، فإذا قال ذلك فإنما هو محمد بن إسماعيل البخاري، وأما مسلم فهو شيخه، وتخرّج عليه الإمام الترمذي، ولكنه لم يرو عنه في جامعه في السنن إلا حديثاً واحداً، هو قوله ﷺ: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) الحديث السابع والثمانون بعد المائة السادسة.
وكذلك الذي روى عن الإمام مسلم هو إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه، وهو الذي روى عنه كتابه الصحيح.
إذاً: هذا الكتاب الذي بين يديك وهو الصحيح عن الإمام مسلم من رواية إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه.
وكذلك من الراوين عنه ابن أبي حاتم ابن الإمام وهو إمام كذلك، وأحمد بن سلمة الحافظ – أحمد بن سلمة حافظ نيسابور- وكان قرينه -أي: كان معه في طبقة واحدة، يعني: مثله تماماً في الحفظ والضبط والإتقان والمعاصرة- وقد لزم أحمد بن سلمة الحافظ النيسابوري الإمام مسلم في رحلته إلى البصرة وغيرها.
وإمام الأئمة ابن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة روى عن الإمام مسلم، وهو تلميذه وخرّيجه كذلك، وأبو العباس السراج الإمام، وأبو عوانة الإسفراييني. وغيرهم كثير.
مكانة الإمام مسلم
أما الإمام مسلم فقد حاز مكانة عالية ومنصباً رائعاً عند أهل العلم، فأثنوا عليه بكلمات هي أحلى من العسل، فقال شيخه إسحاق بن منصور الكوسج في حقه: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
هذا كلام خرج من الشيخ لتلميذه، فإذا كان الأمر كذلك فما بالكم بالشيخ القائل لهذه المقولة؟ فإن إسحاق بن منصور الكوسج رباه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهاهو يقول هذا الكلام الطيب العذب في الإمام مسلم، وهذا يدلنا على مكانة مسلم عند الأئمة من شيوخه وأساتذته، فإذا كان هذا الإمام بهذه المنزلة عند شيوخه فلا شك أنه لا بد أن يكون أعظم من ذلك عندنا.
وقال أيضاً إسحاق بن راهويه وهو شيخه كذلك: أي رجل يكون هذا؟ يعني: يستبشر له بمستقبل باهر مذهل، أي: لو عاش هذا الرجل فإنه سيكون له أمر عظيم.
وقال ابن أبي حاتم: كان مسلم ثقة من الحفاظ، كان ابن أبي حاتم وأبوه أبو حاتم يأتون بألفاظ الجرح والتعديل بلطف شديد جداً، فإذا قال أبو حاتم: صدوق فإنما هذا يعني عنده: أنه ثقة؛ وذلك لأن أبا حاتم نفسه قال: مسلم بن الحجاج صدوق، فأنت إذا وقفت على هذه الكلمة فستقول: كيف يكون صدوقاً وهو إمام متقن! فهذه الكلمة عند الإمام أبي حاتم تعني ما فهمت أنت: أنه إمام متقن، ولذلك لا بد من معرفة مصطلحات أهل العلم؛ لأن فيها معرفة كيفية الحكم على الرجال وعلى الرواة وعلى الأحاديث كذلك، فمثلاً الإمام البخاري إذا قال في الراوي: فيه نظر، فهو ضعيف، وإذا قال: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن خبره منكر.
وقال ابن بشار وهو محمد من شيوخ الإمام مسلم أيضاً: حفّاظ الدنيا أربعة -أي في ذلك الزمان-: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، والبخاري ببخارى، والدارمي بسمرقند، فعد من بين حُفّاظ الدنيا في ذلك الزمان مسلماً بنيسابور، وقدّمه على شيخه محمد بن يحيى الذهلي، وربما كان ذلك لاتساع رحلة الإمام مسلم.
وأثنى عليه كذلك أبو عبد الله بن الأخرم، وابن الصلاح أثنى عليه خيراً في كتابه على صحيح مسلم الذي سمّاه صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، قال: كان له في علم الحديث أضراب لا يفضلهم وآخرون يفضلونه، فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مصاف النجوم، وصار إماماً حجة يبدأ به ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم النافعة.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفاة الإمام مسلم
وأما وفاة الإمام مسلم فتوفي سنة261هـ كما قلنا عن عمر يناهز (خمسة وخمسين) عاماً.
وقيل في سبب وفاته ما جاء عن أحمد بن سلمة رفيقه في رحلته وصاحبه كذلك أنه قال: عُقد لـمسلم مجلس للمذاكرة، ومجلس المذاكرة يختلف عن مجلس التحديث، فمجلس التحديث هو أن يتهيأ الشيخ للتحديث إما إلقاءً وإما عرضاً، أن يتكلم الشيخ ويلقي ما عنده من أسانيد وأحاديث على الطلاب، وإما أن يكون المجلس عرضاً على الشيخ، أن يتكلم المستملي ويسمع الشيخ ثم يجيز بعد ذلك.
أما مجلس المذاكرة فهو مجلس أشبه بالمسامرة والأخذ والرد، فمجلس المذاكرة عُقد للإمام مسلم وذُكر فيه حديث لم يعرفه الإمام مسلم، وكان هذا أيضاً أمراً منكراً عند أهل المجلس، كما أنه منكر عند مسلم كيف يفوته هذا الحديث؟ فانصرف إلى منزله بمجرد أن سمع هذا الحديث الذي لم يعرفه، وأوقد السراج وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، وهذا فهم طالب العلم، فإنه لا يستطيع التركيز ولا البحث الحقيقي إلا إذا كان في خلوة، فلا يمكن أبداً لطالب العلم أن يعيش في وسط زوجة وأولاد وهذا يصيح وهذا يطلب وهناك شيء من الضجّة.
كيف يحصِّل العلم؟ فلا بد أن يكون لك في بيتك غرفة خاصة بك تدخل -بعد أن تقضي مصالح أهلك- وتغلق عليك بابك، ثم تختلي بـالبخاري وتختلي بـمسلم وبكتب أهل العلم، هذا إذا أردت علماً وأردت تحصيلاً.
فدخل مسلم وأوقد السراج وقال لمن بالدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، فقيل له: أُهديت إلينا سلة تمر، فقال: قدّموها ولا يدخل أحد منكم عليّ، فقدّموها فصار يأكل تمرة ويبحث: يأكل ويبحث يأكل ويبحث حتى أصبح وقد فني التمر ووجد الحديث.
هذه القصة رواها البيهقي والحاكم ثم زاد الحاكم قال: وبلغني أنه منها مات، أي: من سلة التمر.
على أية حال منها أو من غيرها فقد مات سنة (261) هـ.
[1] من مقدمة شرح صحيح مسلم للشيخ حسن أبو الأشبال، باختصار.