نحو انطلاقة جديدة لأمتنا
فبراير 9, 2024حُكم المعتدين على أمهات المؤمنين
فبراير 9, 2024الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأنصاره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأنبياء أفضل الخلق اصطفاهم من أرقى أفراد بني آدم، دون أن يخرجهم عن بشريتهم، على حد قول المتنبي:
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزالِ
ولم يُرِد سبحانه أن يرسل إلى البشر ملائكة، وما ذلك إلا لتقوم حجة الاقتداء على الناس، وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍۢ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان: 20]
ورغم أن بشرية الرسل كانت محل استغراب من كثير من الكفار كما قال تعالى: وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُۥ نَذِيرًا [الفرقان: 7]، إلا أن حكمة ذلك كانت مفهومة لدى العقلاء، فصار الأنبياء محل قدوة شاملة، وفي مقام أسوة كاملة.
وقد أنكر النبي ﷺ على بعض أصحابه الرهبانية والانقطاع عن الزواج واحتج عليهم بأنه يتزوج النساء.
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ، يسألون عن عبادة النبي ﷺ، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال ثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله ﷺ فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
ومعنى تقالُّوها: أي رأوها قليلة.
وكما اختار الله سبحانه وتعالى لنبيه أفضل الناس ليكونوا وزراءه وحواريِّيهِ وأصحابه، فقد اختار له أفضل نساء العالمين في زمانهم ليكونوا أزواجه في الدنيا والآخرة.
وضل أقوام أساؤوا إلى أزواج المصطفى ﷺ، أو اتهموهن بشنيع الأقوال، أو نسبوهن إلى رذيل الأفعال. أوَما درَوا أنهم بذلك يؤذون رسول الله ﷺ، أو ما علموا أنهم بذلك على غير السبيل، وأنهم كمن يسير في فلاة بغير دليل؟
في هذه المقالة سأخدم أمّاً من أمهاتنا أمهات المؤمنين بذكر شيء من فضائلها، وسرد شيء من مآثرها. المعذرة! هل تُراني قلتُ: أخدمها؟ لا والله ما هي بحاجة إلى خدمتي إياها، وما أخدم إلا نفسي، إذ لعلي أحشر معها ومع صويحباتها وزوجهن ﷺ يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فقد أخبرنا ﷺ أن المرء مع من أحب. سأقف الآن أمام سيرتها لأسطر شيئًا من مناقبها.
إنها سَودة بنت زَمعة بن قيس القرشية العامرية
سودة أول امرأة تزوجها النبي ﷺ بعد وفاة خديجة بنت خويلد رضي الله عنهما. وذلك بعد أن تُوفيت خديجة سنة عشر من البعثة، وفقد النبي ﷺ سندًا معيناً، وركنًا ركينًا، بقي ثلاثَ سنوات دون زوجة تشاطره عبء دعوته المباركة وتشاركه هموم مهمته الصعبة، التي أشار الله إليها في القرآن الكريم بقوله: إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5]
لم يبق له من يقول له مقالة خديجة لمّا شكا إليها خوفه وقلقه: “كلا!أ بشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا،ً والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدومَ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” [متفق عليه]
وبعد ثلاث سنوات ثقال، جاءته خولةُ بنتُ حكيم زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنهما، فخطبت له سودة وعائشة. روى الإمام أحمد بإسناد حسن أن خديجة لما ماتت جاءت خولةُ بنتُ حكيم – امرأةُ عثمان بن مظعون – فقالت: يا رسول الله، ألا تَزَوَّج؟ قال: “من؟” قالت: إن شئتَ بِكراً، وإن شئتَ ثيباً. قال: “فمَن البِكر؟” قالت: ابنة أحب خلق الله عز وجل إليك، عائشة بنت أبي بكر. قال: “ومَن الثيب؟” قالت: سَودة بنت زَمعة، آمنتْ بك واتبعتك على ما تقول. قال: “فاذهبي فاذكريهما عليَّ” إلى أن قالت: “… ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زَمعة، فقالت: ماذا أدخل الله عز وجل عليكِ من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطبك عليه. قالت: وددت، ادخلي إلى أبي فاذكري ذاك له – وكان شيخاً كبيراً قد أدركته السن، قد تخلف عن الحج – فدخلتْ عليه بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقالت: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبدالله أخطب عليه سودة. قال: كفء كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذاك. قال: ادعها لي، فدعتها.
فقال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم. قال: ادعيه لي. فجاء رسول الله ﷺ إليه فزوَّجها إياه، فجاءها أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لعمرك، إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب، أن تزوج رسول الله ﷺ سودة بنت زمعة…”.
كانت سودة ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، ثم رجعا إلى مكة، فمات بها السكران، ولم يثبت أنه تنصر في الحبشة.
كانت سودة امرأة عابدة ورعة، وقد بلغت في ذلك مبلغًا عظيمًا جعل عائشة رضي الله عنها تتمنى أن تكون مثلها.
روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “… ما رأيت امرأة أحبُّ إليّ أن أكون في مِسلاخها من سودة بنت زَمعة من امرأة فيها حدة..”. والمقصود بمسلاخها: هَدْيها وطريقتها، والمسلاخ في الأصل: الجِلد. ومعنى قولها: فيها حدة: وصفها بقوة النفس وجَودة القريحة كما يقول الإمام النووي.
ورغم ما اتصفت به سودة رضي الله عنها مما سبق من الورع والحزم، إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تكون امرأة مرِحة مع زوجها بل ومع صويحباتها من باقي أزواج النبي ﷺ.
روى ابن سعد في طبقاته بإسناد قال عنه الحافظ إنه: “مرسل، رجاله رجال الصحيح” عن سودة أنها قالت لرسول الله ﷺ: صليتُ خلفك البارحة، فركعتَ بي؛ حتى أمسكتُ بأنفي مخافةَ أن يقطر الدم، قال: فضحك، وكانت تضحكه الأحيان بالشيء”.
وروى النسائي في السنن الكبرى، وأبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي ﷺ بحريرة قد طبختها له، فقلت لسودة والنبي ﷺ بيني وبينها: كُلي. فأبت. فقلت: لتأكلين أو لألطخن وجهك! فأبت. فوضعت يدي في الحريرة فطليت وجهها. فضحك النبي ﷺ فوضع بيده لها وقال لها: “الطخي وجهها” فضحك النبي ﷺ، لها فمر عمر فقال: يا عبد الله، يا عبد الله. فظن أنه سيدخل فقال: “قُوما فاغسلا وجوهكما!”. قالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله ﷺ”(1).
وجاءت عائشة تزور سودة ذات يوم فوجدتْ عندها أم المؤمنين حفصة بنت عمر؛ “فجاءت سودة في هيئة وفي حالة حسنة عليها بُرْدٌ من دروع اليمن وخمار كذلك وعليها نقطتان مثل العدستين من صبر وزعفران إلى موقها (أي خُفّها) قالت عليلة (إحدى راويات هذا الأثر): وأدركتُ النساء يتزينَّ به؛ فقالت حفصة لعائشة: يا أم المؤمنين يجيء رسول الله ﷺ ونحن قشفتان وهذه بيننا تبرق؟! فقالت أم المؤمنين: اتقي الله يا حفصة. فقالت: لأفسدن عليها زينتها. قالت لهما سودة: ما تقلن؟ وكان في أُذُن سودة ثِقل؛ قالت لها حفصة: يا سودة خرج الأعور. (يعني المسيح الدجال) قالت: نعم؟! ففزعت فزعاً شديداً فجعلت تنتفض قالت: أين أختبئ؟ قالت: عليكِ بالخَيمة – خيمة لهم من سعف يطبخون فيها – فذهبت فاختبأت فيها وفيها القذر ونسيج العنكبوت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما تضحكان لا تستطيعان أن تتكلما من الضحك فقال: “ماذا الضحك؟!” ثلاث مرات. فأومأتا بأيديهما إلى الخيمة فذهب فإذا سودة ترعد فقال لها: “يا سودة ما لكِ؟” قالت: يا رسول الله خرج الأعور. قال: “ما خرج وليخرجن، ما خرج وليخرجن”. فأخرجها فجعل ينفض عنها الغبار ونسيج العنكبوت”(2).
ولعل اجتماع هذه الصفات فيها مكنها من أن تملأ على النبي ﷺ حياته، وتحيي بيته بالخير والبركة والسعادة فلم يدخل بغيرها من النساء ثلاث سنوات. كما ذكر الذهبي وغيره.
ولما بلغت سودة من الكبر عتيًا، فوهن العظم وابيضّ الشعر، وازداد تبتلها لربها، واختلاؤها للعبادة، وتناهى إلى سمعها أن رسول الله ﷺ يريد أن يطلقها، رجته ألا يفعل وعرضت عليه أن يبقيها في عصمته وتعفيه من حقها في يومها وتهبه لعائشة، لما تعلم من مكانة عائشة لديه وحظوتها عنده، فقبل النبي ﷺ.
أخرج التّرمذيّ عن ابن عباس بسند حسن (كما قال الحافظ ابن حجر) أن سودة خشيت أن يطلقها رسول اللَّه ﷺ فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] [الإصابة في تمييز الصحابة]
ويبين غرض سودة من ذلك ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب أنها قالت للنبي ﷺ: “لا تطلقني وأنت فِي حِل من شأني، فإنما أود أن أحشر فِي زمرة أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد مَا تريد النساء، فأمسكها رَسُول اللَّهِ ﷺ حَتَّى توفي عنها مَعَ سائر من توفي عنهن من أزواجه رضي اللَّه عنهن”.
هذا شيء من بعض مناقبها وإلا فهي أعظمُ منزلةً من ذلك وأجلُّ قدراً.
ولما دعاها داعي الله تعالى للقائه تُوفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة.
وقال جماعة من أهل السِّير والتاريخ منهم الواقدي: أنها توفيت بالمدينة في خلافة معاوية سنة أربع وخمسين للهجرة.
رضي الله عن أمّنا أم المؤمنين سودة بنت زَمعة وعن سائر أزواجه وأصحابه وأنصاره إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد في باب عشرة النساء ثم قال: “رجاله رجال الصحيح خلا محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن”. وقال العراقي: (إسناده جيد).
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: “رواه أبو يعلى والطبراني، وفيه من لم أعرفهم”.