
﴿لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ﴾
أكتوبر 8, 2024
الحروب الصليبية .. أسباب ونتائج
أكتوبر 8, 2024الأستاذ محمد فريد وجدي – رحمه الله –
في مثل هذا الشهر من كل عام يحتفل المسلمون في جميع أقطار الأرض بمولد النبي ﷺ، قياماً بحقه في هدايتهم، واعترافاً بفضله في بناء جماعتهم، وتحقيق سعادتهم.
تقوم في العالم الإنساني ذكريات كثيرة لرجالات يرى الناس أنهم مدينون لهم بعقيدة دينية، أو بقاعدة فلسفية، أو بحقيقة علمية، أو بخطة سياسية، أو برابطة اجتماعية، أو بإصلاح في مذهب، أو بتجديد في أمر من الأمور، وقلَّ أن تجد رجلاً واحداً منهم جمع بين شأنين أو ثلاثة من هذه الشئون الإنسانية، إلا محمداً ﷺ، فقد جمع بينها جميعاً، فهو مؤسس الديانة العامة التي تسع الخلق كافة، ومقوِّم الحكمة، وواضع أكمل أساليب العلم، وأعدل طرق السياسة، وأرقى ربط الاجتماع، ومصلح جميع المذاهب، ومجدد كل الأمور التي تهم الإنسانية.
فالأمة التي تحتفل بذكرى ميلاده اليوم مدينة له بوجودها، وبعقيدتها، وفلسفتها، وعلمها، وسياستها، وروابطها، ومذاهبها، وكل أمر من أمورها، وعشر معشار هذه المزايا كلها في الأمم السابقة كانت تحملها على تأليه مُصلحيها، ولكن لم يفُت محمداً هذه النزعة البشرية، فاحتاط لها أيما احتياط بأقواله وأعماله، حتى حمى أمته من أن تلتاث بهذه الخرافة، فكان ذلك مما يضاف إلى مناقبه، ويزاد على مآثره، ويستنزل التعجب من بُعد نظره، وثقوب فكره.
كان بعض من أُرسل محمد إليهم يطلبون إليه أن يحدث لهم الآيات، وقد غاب عنهم أنه هو نفسه أكبر آية لله في خلقه، فكل آية بعده قليلة الخطر، تخفى في جانبه كما تخفى الكواكب بجانب القمر. لقد عاشت على سطح الأرض أمم، ونبغ فيها رجال من كل صنف، وحفظت عنهم ذكريات لا تزال الأمم تعترف بحقهم عليها، فهل تصادف واحداً منهم يمكن أن توازن مناقبه مناقب محمد، أو تقارن أعماله بأعماله؟ اللهم لا، ولا كرامة.
لندع الأنبياء والمرسلين، فقد أُمرنا أن نؤمن بهم، وأن لا نفرق بينهم، وهات لى المصلحين المقدَّمين، والعباقرة المعدودين، ممن سبقوا محمداً وأتوا بعده إلى يومنا هذا. واعرض أمثلَهم طريقة، وأبعدهم صيتاً، ووازن بين عمله وعمل خاتم النبيين لتدرك أنك لا تستطيع إلى ذلك سبيلاً. وهل يوازن الدرهم بالقنطار، أو البحر بالجدول؟
استعرض أولاً كبار الفلاسفة والمشترعين عند اليونانيين الأقدمين، واختر من انتهت إليهما الحكمة والزعامة منهم: أفلاطون وأرسطو، فأنا لا أريد أن أذكر لك سقوط فلسفتيهما، وأنهما أصبحتا من قبيل الأمور الأثرية في تاريخ العقلية الإنسانية، ولكني أريد أن أذكرك بأن هذين العبقريين كانا يقرران في شريعتيهما أن العمال والصناع والموالي يجب أن يحرموا من الحقوق المدنية، لانحطاط ما يمارسونه من الأعمال اليدوية، فقارن بين هذا الأصل المبني على قاعدة بعيدة القرار في الإجحاف، وبين الديمقراطية الإسلامية التي جعلت التمايز بالمزايا لا بالمال ولا بطبيعة الأعمال، وساوت بين الكافة في الحقوق بصرف النظر عن الألوان والأجناس واللغات، حتى ارتفع تحت ظلها إلى منصات الزعامة العبيد السود وأصحاب المهن من كل صنف، ومن كانوا لا يملكون بيت ليلة: “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى…” الحديث.
وهات من العباقرة القريبين منا ديكارت، فلا أود أن أحدثك عما صادفته فلسفته من النقد، وما أصابها من السقوط، ولكنى أذكر لك من مقرراته أنه كان يعد الحيوان آلة محضة، مقوداً بالفطرة الطبيعية، وأنه مجرد من كل تعقل وإدراك. قابل هذا بما ورد في الإسلام عن الحيوان، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ثُمَّ إلىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨]
وفي الحديث الشريف: “عاتبوا الخيل فإنها تعتب”. فأين الحكم بأنها آلات لا تعقل من الحكم بأنها أمم أمثال الأمم الإنسانية، وأن لها عقلاً تعقل به العتاب وتتجنب بسببه ما أوجبه؟
وأما ما بقي قائماً إلى اليوم من مذهب (ديكارت)، وهو تقديم الشك أمام كل بحث، فقد سبقه الإسلام إليه، فإنه حرم التقليد وحث على البحث وتعقل الأمور، وجعل عمادها الدليل، وهذا كله لا يمكن أن يكون إلا بتقديم الشك قبل الحكم على شيء.
ومن العباقرة المحْدَثين (بيكون) واضع الأسلوب العلمي، فقد اشتهر بتفرقته بين ما هو علم وما هو رأي، وقرر بأن المعلوم لا يجوز رفعه إلى درجة العلم الحق إلا إذا قام عليه دليل محسوس، وما عدا ذلك فهو رأي. والرأي يُتمسك به حتى يقوم الدليل المحسوس على صحته فيضاف إلى المقررات، أو على فساده فيقذف به إلى عالم الأوهام والظنون.
وقد سبقه الإسلام إلى وضع هذا الأسلوب العلمي: فقرر أولاً أن أكثر ما عليه الناس أكاذيب وظنون، فقال تعالى: ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ یُضِلُّوكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا یَخۡرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١١٦] وقال تعالى: ﴿وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَفۡعَلُونَ﴾ [يونس: ٣٦]. فكل ظن لا يُسمى في الإسلام علماً، لأن العلم في اصطلاحه هو ما يكون دليله الحس أو ما تتصل مقدماته بالحس.
ومن كبار المجددين في العهد الحديث اجوست كومت مؤسس الفلسفة الوضعية، وواضع علم الاجتماع. فأما الفلسفة الوضعية فقد سبقه إلى أصولها علماء كثيرون تقدموه من أول أرسطو إلى بيكون، فليس له فيها من فضل إلا صبها في قالب مذهب. وأما علم الاجتماع فكسابقه أيضاً درس موضوعاته علماء كثيرون، وكان من أمثلهم ابن خلدون من مؤرخي المسلمين في القرن السابع الهجري، حتى عُد أنه واضع لهذا العلم.
ولكن الواضع الأول لعلم الاجتماع البشرى الحق هو محمد ﷺ بوحي من ربه. وهذا العلم يقوم على أساس أن جميع الحوادث البشرية تابعة لنواميس طبيعية مقررة لا تتخلف. وقد سبق الكتاب الكريم الناس كافة إلى تقرير هذا الأساس الذي بُني عليه علم الاجتماع، فقال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِیلًا﴾[الإسراء: ٧٧]، وقال تعالى: ﴿فَهَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِینَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِیلًا﴾ [فاطر: ٤٣].
وقد عيب على اجوست كومت وضعه حداً لما يمكن أن يصل إليه الإنسان من المعارف الكونية، وعد مما لا يستطيع الإنسان أن يبلغه إدراك نوع المادة التي تتألف منها الكواكب، فلم يمضِ على وفاته خمس سنين حتى اخترعت آلة السبكترسكوت وهي آلة تحليل الأشعة التي تصل إلينا من الأجسام المختلفة، والاستدلال بها على المواد التي تنعكس علينا تلك الأشعة منها، وبتطبيقها على الأشعة التي تصل إلينا من الكواكب عُرف أنها مؤلفة من مواد لا تختلف في شيء عن المواد الأرضية، ففيها حديد ونحاس وقصدير… إلخ إلخ، فكان في هذا الاكتشاف دحض للأصل الذي وضعه اجوست كومت. ولكن الإسلام لم يضع للمعلومات التي قد يكشفها الله للإنسان حداً، فإذا سُئل مسلم عما يمكن أن يتأدى إلى علم الإنسان وما لا يمكن، لم يستطع أن يضع لذلك حداً لقوله تعالى: ﴿وَیَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [النحل: ٨].
هذا قصور أكبر العباقرة حيال التعاليم غير المحدودة التي أفيضت على قلب محمد ﷺ، نسوق مقتضياته على سبيل المثال لا الحصر، إذ لو عنينا بالأمر الثاني لما كفانا فيه مجلد ضخم. ومن ناحية أخرى لو نظرنا إلى الذكريات التي يُحتفل بها لتمجيد كبار العقول وأصحاب العبقريات، لوجدناها نشراً لصفحات مطوية من التاريخ، لا دخل لها في الحياة الراهنة. فهم أصحاب آراء ومذاهب اعتُبرت في زمانها طريفة، وكانت مقدمة لآراء ومذاهب أرجح منها، فعاشت هذه وذهبت تلك، فيُنوَّه بالأولى وبأصحابها باعتبار أنهم أول من أتى بمبادئها أو بمقدماتها، لا على أنها حقائق مطلقة تبقى على الدهر ولا يبليها الزمان.
فمحمد هو الإنسان الوحيد الذي يحتفل بذكراه على أن ما جاء به حق مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن تعاليمه هي الروح المدبر الذي يجب أن يقود حركات الجماعات البشرية، ويكيف كيانها على النحو الذي كان يدعو إليه ويقرره. فإن في الأرض أربعمائة مليون مسلم يرون حياتهم في العود إلى حظيرة التعاليم المحمدية، وليس فى العالم أمة ترى مثل هذا الرأي في مُصلح بينها وبينه أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
ومن خصوصيات محمد ﷺ أن يعتقد الناس أن الخير كل الخير في أن تؤخَذ تعاليمه بغير تعديل ولا تنقيح، ويرون أنها بالغة أقصى درجات الكمال إلى حد أن كل إصلاح فيها يحط من قيمتها، ويطمس من لآلئها. وهذه مكانة لم تسمُ إليها أية تعاليم في الأرض. فكل فيلسوف أو مصلح تحفظ عليه سقطات قضت بها عليه الأحوال المحيطة به، ودرجة علمه في العهد الذي كان عائشاً فيه، مما يجعل تعاليمه تستدعي الإصلاح والتهذيب إلى حدود بعيدة. لهذا السبب سقطت جميع الفلسفات القديمة والتعاليم الإصلاحية، واستبدل الناس بها فلسفات جديدة، وتعاليم من طراز حديث يلائم ما وصل إليه الكافة من الثقافة العلمية، إلا التعاليم المحمدية، فإنها لا تزال جديدة كأنها صيغت في هذا العصر، بل يُرَى فيها ما لم تنضج العقول للعمل به، وإن كانت تدرك أنه سام السمو كله.
فمَن من الأمم المتمدنة اليوم تستطيع أن تسوي بين الأبيض والأسود، وبين المواطن الصميم والأجنبي الأعجم، وأن تبتعد عن العدوان في الحرب على غير المحاربين، وأنت تراها تعد العدد لإهلاك النساء والولدان والهرمى والمرضى بالغازات السامة؟
إن كنت تعجب من الفرق بين هذين المذهبين فأزيدك عجباً في هذا الموطن بأن الإسلام يحرِّم على الغزاة أن يقتلوا خدمة أعدائهم في ساحة الوغى. أترى أبعد من هذا مدى فى احترام الحياة الإنسانية، وأرقى مذهباً في حصر نار الحرب في أضيق الحدود حتى لا ينقلب الأمر إلى جاهلية جهلاء، تُنكر فيها المبادئ الأدبية، وتُهدر الكرامة البشرية؟
ومن خصوصيات محمد ﷺ أن يرى أجانب عن هذا الدين في القرن العشرين وهم من الرجال الآخذين بأوفى حظ من العلوم الاجتماعية، أن العالم كله لا ينتعش من كبوته إلا إذا أخذ بتعاليم الديانة الإسلامية، وأنه لا بد منتهٍ إلى هذه النتيجة في نحو قرنين من الزمان.
قال بذلك كثير، منهم (برنارد شو) الفيلسوف الإنجليزي، وقد دوناه في مقالة سابقة هنا. فهل رأيت في كل ما رأيت مثل هذه الخصوصية لواحد من أصحاب المذاهب الإصلاحية؟
هذا عجيب كل العجب، وأعجب منه أن يوحَى إلى محمد ﷺ وهو في صحراوات بلاد العرب بأن التعاليم التي جاء بها ستزداد ظهوراً على مر الأجيال، بتوالي الآيات الدالة على صلاحيتها لكل زمان ومكان، وعلى بلوغها أقصى غايات الكمال، فقال تعالى: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ ﴾ [فصلت: ٥٣].
أو ليس من العجب العاجب أن يطلب طالب بعد هذه الآيات البينات كلها دليلاً على نبوة محمد ﷺ؟
فأي دليل يبلغ في القوة والإقناع مبلغ هذا الدليل: رجل نهض في بقعة قاصية من الأرض لا عهد لأهلها بإصلاح اجتماعي، ولا بكتاب سماوي، فأخذ يدعوهم إلى دين وصفه بأنه دين الإنسانية كلها، قائلاً إنه يوحى إليه كتاب من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه خاتم الأنبياء وما جاء به آخر ما يتفضل به الله على الناس من الوحي، فاستهزأ به قومه وسخروا منه، فلم يرفع باستهزائهم رأساً، فاشتدوا عليه واضطهدوه، فلم يُقِم لاضطهادهم وزناً، فهددوه بالقتل فلم تلِن له قناة، ولم تنثنِ لهم صريمة، واتبعه نفر من قومه فلقوا من ممالأتهم له ما يلقى أهل الحق من شيعة الباطل.
ثم هاجر إلى قوم آخرين وهاجر معه مَن آمن به، فتألب عليه خصومه واستثاروا معهم من استثاروه من أحلافهم، وتقصدوا القضاء عليه وعلى من معه دفعات متوالية ﴿سَیُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَیُوَلُّونَ ٱلدُّبُر﴾ [القمر: ٤٥]، فنصره الله عليهم، ثم ما هي إلا سنون معدودة حتى عمت دعوته جزيرة العرب كلها، فلم يستهوِه التفرد بالسلطان، ولم تستغوِه فواتن الملك إلى أن يغير من بساطته، وطرز معيشته، واستمر داعياً العالم كله إلى دينه، مبشراً قومه بأن الله سيعطيهم خلافة الأرض، وزعامة الأمم، ما داموا عاملين بكتاب الله وسنته: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [النور: ٥٥].
فما هي إلا سنون معدودة حتى تحقق هذا الوعد، وإذا بالعرب الذين كانوا بالأمس مضرب المثل في الجاهلية والفرقة قد أصبحوا للعالم سادة، ولشعوبه وأممه قادة، فنظر الناس إلى الدين الذي أبلغ أهله هذه المرتبة فإذا به مطمأن النفوس، وسكن الأرواح، وبلسم القلوب، ونور العقول، فدخلوا فيه أفواجاً أفواجاً، بل ملايين ملايين، فلم يمضِ عليه جيل واحد حتى كان المؤذن في مسجد المدينة يقول: “حي على الفلاح”، فيتابعه زميله عند أسوار الصين بمثلها.
ثم تمادى الزمان، وتطاولت الأيام، وإذا بالأمم الإسلامية التي بليت بالفتور أجيالاً، تهب مذعورة على أبواق المدنية الأوربية وطبولها، ففتحت أعينها فإذا هي حيال علوم عالية، وفلسفات مغرية، وآلات محيرة، ومخترعات مدهشة، فوجمت برهة، ثم أخذت تلقي بنظرها على ما تركته وراء ظهرها من تراث الآباء، فإذا ما حيرها الساعة وأضاع رشدها، وليد ما خلفه أولئك الآباء وثمرة جهودهم، فإن زيد عليه شيء فما اقتضاه الفرق بين العصرين، والتباين بين العهدين، فأصبحت لديهم العقيدة التي كادت تتزعزع، يقيناً لا يعتريه شك، في أن الفتور الذي كانوا فيه هو نتيجة لتعاميهم عن التعاليم التي أورثوها، فأقبلوا عليها أيما إقبال، ورأوا نجاتهم في العود إليها على كل حال. وشجعهم الأجانب عنهم على هذه العقيدة بما كتبوه من تاريخ أسلافهم، وما تبينوه من دراسة ديانتهم.
أيريد الطالب دليلاً أسطع من هذا على النبوة؟
ألا سقياً ورَعْياً لـ(كارلايل) المؤرخ الفيلسوف الإنجليزي الكبير، لقد قال في كتابه الأبطال وديانة الأبطال:
“أتريد دليلاً ممن يدعي لك أنه بنّاء أقوى من أن يبني لك داراً تسع الملايين الكثيرة من الناس وتدوم قروناً طويلة، لا يعتريها تصدُّع، ولا يعتورها أقل تداعٍ؟ كذلك هل يطلب طالب إلى مدعي النبوة دليلاً أقوى من أن ينشر ديناً بين ملايين من البشر يستمرون عليه قروناً طويلة ويتحمسون له تحمساً كبيراً؟ فمحمد قال بأنه رسول من عند الله وبرهن على صدق قوله بدين نشره في الناس أخذ به مئتان من الملايين ومضى عليهم فيه اثنا عشر قرناً، وهم يحبون دينهم هذا ويتحمسون له أكبر تحمس، فماذا يراد من الأدلة على نبوته بعد ذلك؟ ألا فليعلم الناس أن التعاليم كأوراق البنكنوت، فالحقيقية منها تتداول بين الناس ولا تثير أقل شبهة، والزائفة منها تخدع بعض الناس مرة أو مرتين ثم يُفتَضح أمرها وتعرف أنها زائفة فتمزق كل ممزق”. انتهى
هذا حق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجلة نور الإسلام -تصدر عن الأزهر الشريف- المجلد السادس، عام 1354هـ، ص190 وما بعدها