
الصدقة المتعثرة
فبراير 23, 2024
مستقبليات مصر والعرب والعالم في منتصف القرن 21
فبراير 26, 2024بينما كانت الجيوش العربية بقيادة غلوب باشا البريطاني تواجه عصابات شتيرن والهاغاناه الصهيونيتين خلال حرب 1948 – بغض النظر هنا عن مهزلة أن يقود جيشاً عربياً محتلٌّ بريطاني دونه لما تمكن اليهود من فلسطين – كان ضابط أردني عادي يسأل غلوب باشا في أحد دروسه العسكرية مع ضباط أردنيين آخرين عن مصير العرب بعد حرب فلسطين، ابتلع القائد البريطاني ريقه ثم دقّق طويلاً في أعين السائل، آخذاً نفساً عميقاً، يتناسب مع عمق السؤال، ليقول له: “العرب منذ القدم: غساسنة، ومناذرة، الشطر الأول مع الفرس، والثاني مع الروم، ولن تتغير المعادلة قبل حرب فلسطين وبعدها”.
ساد صمت مريب على الحاضرين، لم يعلق أحد على جواب غلوب باشا، وابتلع الكل إهانة الجواب، ليمضي كل واحد إلى مهمته، وتمضي الحياة بنا كعرب كما شخّصها غلوب باشا وإلى الآن.
تذكرت هذه القصة التي رواها لي من سمعها من أربابها، وأنا أكتب عن فضل النبي محمد عليه السلام على أمة العرب. التي كانت أمة بلا دين، وبلا قائد، وبلا نظام، مبعثرة القبائل والعشائر، الهوية الواحدة التي تجمعها هي الهوية القبلية، والنسغ الوحيد الذي يشدهم هو غارة بعضهم على بعض، يقتتلون من أجل ناقة لأربعين عاماً، ويئد بعضهم بناته، وقبل هذا وبعده ينثرون أصنامهم حول أول بيت بُني للناس، البيت الحرام، ليصل عدد أصنامه إلى 360 صنماً، لا دين يجمعهم، ولا حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية تنظم معيشتهم.
تلك كانت الحياة في جزيرة العرب، ميّزها حينها أن سطوة الفرس والروم عليها معدومة، بخلاف حال العرب في العراق والشام، التي كانت أسوأ بكثير من هذا، حيث شبابهم مرتزقة وماءٌ لطاحونة معركة فرس في العراق، وروم في الشام.
في غضون 23 عاماً فقط، تمكن النبي العربي محمد عليه السلام، من إخراج العرب من حياة الجاهلية الجهلاء، إلى حمل دين عالمي حضاري للعالم كله، دفع كل مؤرخي الغرب ومفكريه لاحقاً، أن ينعتوه بـ (شمس العرب تسطع على الغرب)، تمكن النبي محمد عليه السلام خلال هذه الفترة القصيرة من جعل العرب مادة الإسلام والمسلمين، فارتفع شأن لغتهم، حين تشرّفت وتكرمت بنزول القرآن الكريم بها، وتشرّفت ثانية حين أتت أحاديث السنة النبوية المطهرة، كثاني مصادر التشريع الإسلامي بها. وتألّق وازدان شرفها حين أبلغنا المصطفى عليه السلام بأنها لغة أهل الجنة، فأي شرف وأي فضل أنعم الله به على العرب بهذا النبي العربي؟
لم يمنع النخبة المبدعة التي اختارها النبي عليه السلام حوله، أن يكون فيها بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، فالعربية هي اللسان كما قرر معظم العلماء، ولذا حين تعرّبت أوطان كثيرة كانت من قبل غير عربية، عُدّت وحُسبت في صفوف العرب، فالأمن القومي، والمجال الحيوي للدول لا يقاس بالعرقية والجغرافيا فقط، بل بكل من آمن عقدياً وإيديولجياً بالفكرة، وهو ما حصل مع الصليبية الغربية، والشيوعية، والهندوسية، فكيف لا يكون ذلك مع العقيدة الإسلامية التي جمعت شتات العالم العربي والإسلامي من قبل ومن بعد، ولذا فقوة الرسالة المحمدية، وسطوتها وينبوعها الذي أضاء العالم منذ بعثته ظل وهاجاً حتى حين قاده الأمويون، ثم العباسيون، فصلاح الدين الكردي، فعثمان التركي، إلى المغول في وسط آسيا وجنوبها، والغزنوي الأفغاني، وغيرهم، فكل من آمن بما آمن به محمد عليه السلام، لم يجد العرب وغير العرب غضاضة أن يتبعوه قائداً وأميراً.
كان النبي عليه الصلاة والسلام يدرك منذ اللحظات الأولى للبعثة، عظم المهمة في توحيد قبائل العرب، ولذا كانت الدعوة المكية عشر سنوات، ليتعلم بها العرب الصبر على الأذى وابتلاعه، وشحن أنفسهم دينياً، ومع هذا الصبر على الاتباع والقيادة، ولذا أتت الأحاديث النبوية محذرة من الفرقة وشق عصا المؤمنين، وداعية إلى الجماعة، ومبايعة الأمير ولو كنتم ثلاثة، كما ورد في الأحاديث، كل ذلك من أجل تحضير العرب للعمل الجماعي في مواجهة إمبراطوريات ملء السمع والبصر يومها، لا يمكن مجابهتها بعقلية فردية، وإنما بعقلية جماعية منظمة، يقودها أمير واحد، ولذا رأينا تحذيره حين يخرج أمير محلي عن أوامره، كل ذلك بهدف تجذير العمل الجماعي والطاعة الجماعية، والنأي عن الفردانية التي دمرت العرب لقرون.
لم يرحل النبي عليه الصلاة والسلام حتى اختطّ الدورة الحضارية لمن بعده، التي أتت في حديث أبي الدرداء من مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني، وقال الهيثمي بأن رجال أحمد رجال الصحيح، حين قال ﷺ : “بينما أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِه، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشّام”، فكان أن شرع في تنفيذ تلك الدورة الحضارية، حين أصر على إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه، وهو ينازع سكرات الموت، على الرغم من تردد بعض الصحابة في تعيين أسامة، الذي كان عمره لا يتعدى الـ 18 عاماً، فردّ عليهم رسول الله ﷺ : “إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله، إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده”. رواه البخاري. وفي رواية أخرى، أمر عليه السلام بتنفيذ بعث أسامة، فقال: “أنفذوا بعث أسامة”.
وتطبيقاً لوصيته عليه السلام بعد وفاته، كان بعث أسامة للشام، آخر وصية النبي كما كان أول بعث في حياة أبي بكر، ومع وفاة النبي عليه السلام بدأ البعض يتردد في إيفاد جيش أسامة، فأتى الحسم من صاحب الحسم، الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين قال: “والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله، ما رددت جيشًا وجَّهه رسول الله، ولا حللت لواءً عقده رسول الله”. وفي رواية أنه قال: “لو ظننت أن السباع تخطفني، لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله ﷺ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته”.
وفي غضون عقدين من الزمن تمكن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من القضاء على إمبراطورية الفرس، ودك إمبراطورية الروم، ليطرق الصحابة رضوان الله عليهم أسوار القسطنطينية بعد أن ركبوا البحر، الذي وعد النبي عليه الصلاة والسلام بأجر شهيدين لمن يُقتل وهو يقاتل أعداء الإسلام فيه، فكان أن ترك الصحابة رضوان الله عليهم قبر أبي أيوب الأنصاري شاهداً على فضل النبي عليه السلام على هذه الأمة، التي تمكنت من الوصول إلى أسوار القسطنطينية، وتحريضها حتى بالوصول إلى روما.
بسطت هذه الأمة سلطانها على بقعة عُدت الأضخم في تاريخ الإمبراطوريات، يوم وصلت إلى الأندلس ووسط آسيا، وفرضت هيبتها على العالمين، جعلت أميراً كمعاوية رضي الله عنه – فيما يروى في ذلك الزمان – يقول: “إن صياح الديكة في قبرص يزعج أهل الشام، ولذلك لا بد من تحريرها والسيطرة عليها”.
لقد لعب هذا الدين الذين أتى به النبي عليه الصلاة والسلام من عند ربه دوراً مهماً في تعزيز ثقة العرب بأنفسهم، ليس على مستوى القيادة، وعلى مستوى تحرير أنفسهم، وتحرير غيرهم، جعلت رسول الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه، يرسل لجنة استطلاعية لفتح السند والهند، فأرسل حكيم بن جبلة العبدي، فأتى بخلاصة دراسة تصلح رسالة للدكتوراه، في معرفة الشعوب ونفسيتها، فقال: “يا أمير المؤمنين! قد عرفتها وتنحرتها”. قال: “فصفها لي”. قال: “ماؤها وشل، وثمرها دقل، ولصها بطل. إن قلّ الجيش فيها ضاعوا، وإن كثروا جاعوا”. فقال له عثمان: أخابر أم ساجع؟ قال: بل خابر! فلم يغزها أحدٌ إلى أن فتحت في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي.
لم يكن الإقلاع الحضاري للعرب في ساحة المعركة، بل كان الإقلاع الحضاري للمسلمين ومادتهم العرب في مجالات الحياة جميعها، انعكس ذلك في بناء المدن، وشق الترع، والطب والهندسة، والرياضيات والعلوم، والفلك، وهذا ربما بحاجة إلى مقال وبحوث عدة للحديث عن تألق المسلمين في هذه المجالات.
بالعودة إلى مستهل المقال، وكلام غلوب باشا عن غساسنة العرب ومناذرتهم، فإن الواقع العربي اليوم، يبدو كأنْ لا مياه كثيرة ولا قليلة جرت تحته، فلا يزال العرب إما غساسنة يطوفون حول الفرس الجدد، أملاً خلبياً سرابياً في تحرير الأقصى، بينما هي تفكك حواضرهم، ومدنهم وقراهم، أو مناذرة يطوفون حول الروم الجدد، أملاً في مكاسب ومنافع سرابية خلبية كذلك، وما لم يعد صوت النبي محمد عليه السلام، ليصدح من جديد في جسد هذه الأمة، ليؤذن بالجيل القرآن الفريد الذي تحدث عنه سيد قطب رحمه الله، فلن تعود الأمة إلى سابق عزها، وماضي مجدها.