خيرُ قلبٍ
فبراير 21, 2024مِنة الله على المؤمنين
فبراير 21, 2024لإن كان فضل النبي ﷺ قد غمر الدنيا بأسرها، ولإن كان فضله عم البشرية جمعاء، ففضله أيضاً على النباتات لا يخفى، ذلك أن النبي ﷺ ما ترك وصفًا في الخير إلا واتصف به، وما ترك عملًا فيه خير له وللبشرية إلا وقام به، ليكون فيه قدوة للعالمين، هذا فضلًا عن كونه دعا إليه وحث أمته على فعله. ولقد عمل ﷺ قبل بعثته راعيًا للغنم، كما عمل تاجرًا في مال خديجة رضي الله عنها، وهكذا كان الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم يحترفون الحرف والمهن يعملون بها، وممن ورد عنهم أنهم عملوا بالزراعة من الأنبياء آدم عليه السلام، وكانت حواء تعاونه، بل وكان يصنع آلات الزراعة بيده كما ذكر القرطبي.
أما نبينا ﷺ فقد اهتم بالزراعة اهتمامًا بالغًا، ورغب فيها أصحابه بل والأمة بأسرها، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»1. وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ»(2).
فأي امرئ عاقل يزهد بعد ذلك في الغرس أو في الزرع لما يعود عليه من الفضل، بل وقال بعضهم: حتى لو باع الثمرة فإنه ينال الثمن في الدنيا والأجر في الآخرة وذلك لعموم قوله ﷺ ما من مسلم، دون تخصيص بالتصدق أو الإهداء، فدخل فيها البائع. وقد حفظ الصحابة رضوان الله عليهم ذلك عنه فجعلوا الزراعة جل عملهم الدنيوي لينالوا أجر الأخرة، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا بِدِمَشْقَ فَقَالَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ غَرَسَ غَرْسًا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ آدَمِيٌّ، وَلَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً»(3).
ورسول الله ﷺ خير معَمِّر للأرض وكان يعلم أن الزراعة خير ما تُعَّمرُ به الأرض، ثم من حرصه ﷺ على البيئة وعلى جمالها كان يأمر بكل ما يصلح الأرض، وينهى عن كل ما يؤدي للفساد فيها فينهى عن قطع الشجر المثمر أو الشجر الذي يستظل الناس به، بل ينهى عن البول والغائط في مستظل الناس أي تحت الشجر الذي يستظل به الناس كل ذلك محافظة منه ﷺ على البيئة وجمالها ومنافعها للبشرية. فعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ قَتَلَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ أَحْرَقَ نَخْلًا، أَوْ قَطَعَ شَجَرَةً مُثْمِرَةً، أَوْ ذَبَحَ شَاةً لِإِهَابِهَا لَمْ يَرْجِعْ كَفَافًا»(4). ولم يرجع كفافًا.. أي ذلك وعيد من النبي ﷺ لمن يفعل ذلك بأنه سيفتقر ولا يجد الكفاف بعد.
وينقل العلامة صفي الرحمن المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم حديثًا عن رسول الله ﷺ في وصيته لأمراء الجيش يوم أن سيرهم إلى مؤتة قال لهم «اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلًا بصومعة، ولا تقطعوا نخلًا ولا شجرةً، ولا تهدموا بناءً»(5).
فإذا كان ﷺ ينهاهم عن قطع النخل أو الشجر وهم في حال حربهم مع عدوهم، وربما في ذلك إعانة لهم على النصر؛ فالحفاظ على هذه الأشياء في السلم ولمصلحة المسلمين أولى، والنهي عن قطعها في السلم أشد.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ»(6). أي حتى لا يكون عرضة للعنَّة من قبل من أراد أن يسير في الطريق، أو أراد أن يستظل بذلك الظل، وفي هذا محافظة على البيئة ونظافتها ليستغلها الناس أفضل استغلال، فأي فضل لك على البشرية وعلى البيئة سيدي يا رسول الله!
وها هو رسول الله ﷺ يعلم البشرية درسًا عظيمًا في الاهتمام بالزراعة لكونها لا يُستغنَى عنها، ولكونها من أهم أسباب الحياة، فيبين الاهتمام بها حتى وإن قامت الساعة، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»(7). فأي اهتمام هذا بالزراعة أن يؤمر المرء في أشد اللحظات بغرس الفسيلة إن استطاع ذلك، بل وحتى لو كان يعلم عدم جدواها لحظة قيام الساعة، إذ ما جدوى غرس الفسيلة التي تحتاج لسنوات حتى تثمر؟! ولكنها دلالة عظيمة على اهتمامه ﷺ بالزراعة وإعمار الأرض.
وأما كونه ﷺ مزارعًا ففي ذلك ما ورد عن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ بُرَيْدَةَ يَقُولُ: جَاءَ سَلْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِمَائِدَةٍ عَلَيْهَا رُطَبٌ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟» قَالَ: صَدَقَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَصْحَابِكَ. قَالَ: «ارْفَعْهَا فَإِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» فَرَفَعَهَا، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: «مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟» قَالَ: صَدَقَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَصْحَابِكَ. قَالَ: «ارْفَعْهَا؛ فَإِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» فَرَفَعَهَا، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْمِلُهُ فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟» فَقَالَ: هَدِيَّةٌ لَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: «ابْسُطُوا». فَنَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَآمَنَ بِهِ. وَكَانَ لِلْيَهُوَدِ فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، وَعَلَى أَنْ يَغْرِسَ نَخْلًا فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ فِيهَا حَتَّى تُطْعِمَ. قَالَ: فَغَرَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخْلَ إِلَّا نَخْلَةً وَاحِدَةً غَرَسَهَا عُمَرُ، فَحَمَلَتِ النَّخْلُ مِنْ عَامِهَا وَلَمْ تَحْمِلِ النَّخْلَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا شَأْنُ هَذِهِ؟» قَالَ عُمَرُ: أَنَا غَرَسْتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ غَرَسَهَا فَحَمَلَتْ مِنْ عَامِهَا(8).
ويبين الحديث أن النبي ﷺ باشر زراعة النخل بيديه الشريفتين بل وقام بنزع النخلة التي زرعها عمر رضي الله عنه لأنها لم تثمر وعاد ﷺ فزرعها فأثمرت من عامها. وهذا يوضح جليًا أنه ﷺ كان مزارعًا من الدرجة الأولى، ولم لا؟ وهو رسول الله جل في علاه والذي أخبر عن نفسه الكريمة وبين أنه سبحانه الزارع الحقيقي لكل مزروع. ﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّٰرِعُونَ ﴾ [الواقعة: 63- 64]
هذا وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري، رقم 2320.
(2) صحيح مسلم، رقم 1552.
(3) مسند الإمام أحمد، رقم 27506.
(4) مسند الإمام أحمد، رقم 22368.
(5) الرحيق المختوم، صـ 356.
(6) صحيح مسلم، رقم 269.
(7) مسند الإمام أحمد، رقم 12981.
(8) مسند الإمام أحمد، رقم 2297.