
رمضان مدرسة الأجيال
مارس 29, 2025
العدد الخامس والثلاثون
أبريل 1, 2025علي جاد المولى – كاتب مصري
يأتي هذا المقال ونحن في شهر رمضان المبارك، شهر الانتصارات التي رسمت معالم التاريخ الإسلامي من بدر إلى حطين، ومن عين جالوت إلى أكتوبر. ليس رمضان مجرد شهر عبادة وصيام، بل هو شهر تتجدد فيه معاني الصمود والثبات واليقين بنصر الله. في هذا الشهر العظيم نستعيد روح المقاومة، ونستلهم من تاريخنا دروس الثبات في وجه الطغيان مهما بلغ جبروته.
ترامب: تاجر الصفقات وصانع الفوضى
لفهم طريقة تفكير دونالد ترامب، لا بد من العودة إلى كتابه الشهير “فن الصفقة” الذي صدر في ثمانينيات القرن الماضي. هذا الكتاب يكشف بوضوح عقلية ترامب: رجل أعمال يجيد المراوغة، يبيع الوهم، ويعتمد على خلق الأزمات لصناعة فرص التفاوض. ترامب ليس مجرد رئيس سابق؛ هو تاجر يفاوض من موقع قوة، يثير الفوضى والجدل ليشتت خصومه، ثم ينتظر ليرى من سيصمد ومن سيضعف، فيبدأ حينها بفرض شروطه.
سياساته اليوم ليست سوى امتداد لنفس هذه العقلية التجارية. هو يعلم أن أمريكا تعاني من أزمات اقتصادية خانقة، مع ديون تتجاوز 36 تريليون دولار وتراجع في أداء الاقتصاد الأمريكي مقارنة بالصين والهند. لذا يسعى لإثارة أزمات عالمية، ليستغلها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية تعزز موقفه داخليًا وتوفر تمويلًا للخزينة الأمريكية المنهكة. لكن خلف هذا الوجه التفاوضي القاسي، يقف رجل أعمال يبحث عن صفقات أكثر مما يبحث عن حلول.
ومن الأدلة الملموسة على أن ترامب كان “تاجر صفقات وصانع فوضى” ما يلي:
- اتفاقيات إبراهيم، التي حققت التطبيع بين إسرائيل ودول عربية رغم تعقيدات القضية الفلسطينية.
- التحالف الاستراتيجي مع السعودية، الذي عززته صفقات الأسلحة الضخمة والتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان.
- محاولاته التفاوضية مع كوريا الشمالية وإعادة صياغة اتفاقيات تجارية مثل نافتا مع المكسيك وكندا.
هذه الأمثلة توضح كيف استخدم ترامب الفوضى والضغط لتحقيق أهداف بدت للكثيرين صعبة المنال.
وفي مقابل هذه العقلية التجارية البحتة، يُعيد رمضان تذكيرنا بقيمة المبادئ والثبات. ففي معركة بدر الكبرى، التي خاضها المسلمون رغم قلة العدد والعدة، كان النصر حليف الصادقين الذين وثقوا بوعد الله. هكذا تُعلّمنا روح رمضان أن الفوضى التي يصنعها أمثال ترامب لا تصمد أمام يقين المؤمنين وثباتهم على الحق.
السبب الحقيقي وراء سياسات ترامب تجاه غزة
لماذا يصر ترامب على تكرار دعواته لتهجير سكان غزة رغم المعارضة الإقليمية والدولية؟ الإجابة تبدأ من مشروع الممر الاقتصادي الذي أعلن عنه الرئيس بايدن في سبتمبر 2023. هذا المشروع يهدف لربط تجارة الهند وشرق آسيا بأوروبا، مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن وصولًا إلى ميناء حيفا المحتل.
لضمان نجاح هذا المشروع، لا بد من القضاء على أي تهديدات محتملة مثل المقاومة الفلسطينية وحزب الله. كما يسعى المشروع لتحويل المناطق المحيطة بحيفا إلى مناطق اقتصادية حرة، مما يفسر حديث ترامب عن “تحويل غزة إلى منطقة جميلة وحديثة”. هذا ليس حلمًا إنسانيًا، بل خطة اقتصادية بحتة تهدف لتحويل غزة إلى واجهة اقتصادية تخدم المصالح الأمريكية والصهيونية.
وعندما نعود خطوة إلى الوراء، سنجد أن هذا المشروع يهدد أيضًا مشروع “الحزام والطريق” الصيني ويقوّض مكانة قناة السويس عبر فتح الباب أمام مشروع قناة بن غوريون، مما يخصم من عوائد مصر خصماً هائلاً. كل هذه المخططات ليست وليدة اللحظة، بل هي جزء من مشروع استعماري جديد يُدار من واشنطن وتل أبيب.
لكن ما هو الدافع الأعمق؟
خلف هذه السياسات تختبئ عقيدة دينية يمينية متطرفة. ترامب ومن حوله يؤمنون بأنهم في مهمة مقدسة لتمهيد الطريق لعودة المسيح وبناء مملكة إسرائيل الكبرى. هذه الأفكار المسيانية تُحرك سياسات واشنطن أكثر مما نتصور، وتجعل من ترامب ليس مجرد سياسي يبحث عن مصالح اقتصادية، بل رجلًا يعتقد أنه يؤدي دورًا إلهيًا في تحقيق نبوءات توراتية.
رغم تعقيد هذه المخططات، يظل رمضان شاهدًا على حقيقة أعمق:
أن قوة الظالم مهما تعاظمت لا يمكن أن تصمد أمام صبر المظلومين وإيمانهم. كما قال تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160].
رمضان ليس مجرد موسم عبادة بل موسم وعي واستنهاض للأمة.
أمريكا ليست المهيمن: خدعة القوة في عالم متعدد الأقطاب
لفترة طويلة، كانت أمريكا تُقدَّم على أنها القوة الوحيدة القادرة على إدارة شؤون العالم. غير أن المتغيرات العالمية أظهرت هشاشة هذا الادعاء. لم تعد أمريكا اللاعب الوحيد على الساحة الدولية، مع صعود قوى مثل الصين وروسيا، وتزايد النفوذ الإقليمي لقوى مثل تركيا وإيران.
رغم ما تروج له أمريكا عن قوتها ونفوذها العالمي، فإن الوقائع على الأرض تكشف صورة مغايرة تمامًا. فقد احتلت أفغانستان لمدة عشرين عامًا بهدف القضاء على (طالبان)، لكنها غادرتها مرغمة، لتجد (طالبان) نفسها في سدة الحكم دون الحاجة لطلقة إضافية.
وفي سوريا، ادّعت أمريكا منذ عام 2011 أنها تسعى للإطاحة بنظام بشار الأسد، لكن النظام سقط مؤخرًا دون أن يكون لأمريكا أي دور يُذكر، بل جاء ذلك نتيجة تفاهمات معقدة بين تركيا وإيران وروسيا، مما يعكس بوضوح تقلص نفوذ واشنطن في المنطقة.
الأكثر غرابة أن بعض ممثلي الحكومة الحالية في سوريا كانوا يُصنفون من قبل أمريكا كـ”إرهابيين”، ليصبحوا الآن جزءًا من واقع سياسي لم تستطع هي تغييره أو حتى التأثير فيه.
وفي أماكن أخرى من العالم، لم تكن الأمور أفضل بالنسبة للولايات المتحدة. لم تستطع إخراج روسيا من أوكرانيا رغم كل العقوبات والدعم العسكري لكييف. وفشلت محاولاتها للإطاحة بنيكولاس مادورو في فنزويلا، لتجد نفسها في نهاية المطاف تعقد اتفاقات معه. الأمر نفسه تكرر في بوليفيا، جورجيا، كازاخستان، النيجر، بوركينا فاسو، مالي، إثيوبيا، وغينيا… قائمة طويلة تعكس فشلًا متكررًا رغم ادعاء الهيمنة.
لقد ولى عهد الهيمنة الأمريكية بلا رجعة. والسؤال الحقيقي هنا: لماذا لا يزال البعض في عالمنا العربي يصدقون هذه الخدعة بينما العالم بأسره لم يعد يعبأ بما تقوله واشنطن؟
وفي رمضان، حيث نستلهم دروس معارك مثل القادسية واليرموك، نتعلم أن الهيمنة لا تدوم مهما بدت راسخة، وأن الأمم التي تنهض على الحق تبقى، بينما تسقط القوى التي تعتمد على الظلم والخداع.
ما بعد أمريكا: مستقبل المقاومة في عالم جديد
في عالم يتغير بسرعة، لم تعد أمريكا قادرة على التحكم بمسارات التاريخ. المقاومة الفلسطينية، ومعها كل حركات التحرر في العالم، تدرك هذه الحقيقة وتستغلها لصالحها. لم يعد الخوف من “غضب أمريكا” عائقًا أمام أي حركة تطالب بحقوقها.
المستقبل ليس للهيمنة الأمريكية، بل لشعوب تؤمن بقضيتها وتدافع عنها مهما كانت التحديات. غزة اليوم ليست مجرد جرح في جسد الأمة، بل هي رمز لصمود الإنسان في وجه آلة الاستعمار الحديث. ومهما حاولت أمريكا أن تصنع من نفسها قوة لا تُهزم، ستظل الحقيقة واضحة: الشعوب الحرة لا تُقهر.
وفي خضم هذا التحول العالمي، يمنحنا رمضان درسًا خالدًا:
أن النصر ليس وعدًا مشروطًا بالقوة المادية، بل هو وعد إلهي يتحقق بالصبر والثبات. كما قال الله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 249].
غزة اليوم هي فئة قليلة أمام جبروت القوى العظمى، لكن رمضان يُعيد لنا اليقين أن النصر حليف من يصبر ويثبت.