استمرار الحصار الإسرائيلي يشدد الخناق على غزة لليوم الـ220
ديسمبر 12, 2024تهنئة علماء الأمة ونصيحتهم لثوار سوريا
ديسمبر 13, 2024بقلم: د. إسماعيل محمد رفعت – من علماء الأزهر
الأرقام الصادرة عن شعبة السكان في الأمم المتحدة تُظهر أن العالم العربي يتميز ديمواغرافيًا بتركيب سكاني فتيّ، ففي عام 2023م ارتفع عدد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 إلى ما يقرب من 82 مليون، وهذا يعني أن نظرة سريعة في حاضري الجُمع والجماعات تجد النصف منهم -تقريباً- له في الإسلام قريباً من نصف قرن، ولكن إذا بحثت عن أثرهم الفردي أو الجمعي في الدعوة إلى الله تجد فارقاً كبيراً بين تأثير الصحابة من أول يوم اعتنقوا فيه الإسلام، بخلاف جمهرة كبيرة من المسلمين تعدى إسلامها ربع القرن ولا يزالون -من ناحية الإنجازات- في عداد الأحداث، والذين بلغوا نصف القرن من أهل عصرنا ما زالوا يترددون في العمل للدين.
وعامتنا لم يقدم للدين شيئًا ذا بال وذلك على مر حياتنا كلها! ثم تجد من العاملين للإسلام والمتصدرين للدعوة، أمهر من الساسة في استعمال موازنات تنتهي بوصف الواجب والفرض بالمخاطرة!
والأعمار عطية من الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- واستثمار كل لحظة فيها من أوجب ما يكون على العبد، وأكثر ما يستوجب الندم تضييع الأوقات وعدم توظيف كل لحظة فيها لخدمة هدف نبيل، والله -جَلَّ جَلَالُهُ- نبهنا لما يكون عليه حال البعض من ندم ساعة الموت فقال: ﴿وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقۡنَـٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَیَقُولَ رَبِّ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنِیۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ [المنافقون: 10].
إن تلك اللحظات القليلة التي يطلبها المحتضر النادم على تفريطه ليست طويلة بقدر كبير، بل هي لحظات يلفظ فيها ما لا يزيد عن ثلاث كلمات فقط؛ ليقول مثلاً: تصدقتُ بكذا! ولا يقال للمتمنين أكثر من رد منطقي: ﴿… أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [فاطر: 37].
أما جيل الصحابة رضي الله عنهم فالمبادرة لخدمة الدين شأن هو حال كل مَن اعتنق ذلك الدين من أول لحظة، حتى الجن لما أسلموا رجعوا فوراً دعاة إلى الإسلام: ﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَاۤ إِلَیۡكَ نَفَرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤا۟ أَنصِتُوا۟ فَلَمَّا قُضِیَ وَلَّوۡا۟ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِینَ﴾ [الأحقاف: 29].
وكان الصحابة رضي الله عنهم يبادرون ويسارعون بالأعمال الصالحة ويتسابقون في ذلك، وإنْ تأخر إسلام بعضهم لكنهم استدركوا ما فاتهم من خير!
ولنقف عند نماذج ترفع لنا تصورات عقلهم الجمعي تجاه الواجب نحو الدين، ولتشحذ هممنا وتأخذ بأيدينا لننفض غبار الكسل عنا!
النموذج الأول: الفاروق
جاء إسلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ثلاثة وأربعين مسلم سبقوه إلى الإسلام، ولكنه اجتهد في تحمل تبعات الدين وتكاليفه، وسابق في ذلك فسبق اثنين وأربعين منهم، ليصبح الرجل الثاني بعد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يقول عمر عن نفسه: “أَسْلَمَ حَمْزَةُ قَبْلِي بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ… وعرفت أن رَسُول اللهِ ﷺ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا، فَأَتَيْتُ الدَّارَ… فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَكَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ [الحرام] فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مُتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟
قَالَ ﷺ: “بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ إِنْ مُتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ”. فَقُلْتُ: فَفِيمَ الِاخْتِفَاءُ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَتَخْرُجَنَّ، فَأَخْرَجْنَاه فِي صَفَّيْنِ، حَمْزَةُ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَنَا فِي الْآخَرِ، لَهُ كَدِيدٌ كَكَدِيدِ الطَّحِينِ، [الْكَدِيدُ: التُّرَابُ النَّاعِمُ1] حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ”.
قَالَ: “فَنَظَرَتْ إِلَيَّ قُرَيْشٌ وَإِلَى حَمْزَةَ، فَأَصَابَتْهُمْ كَآبَةٌ لَمْ يُصِبْهُمْ مِثْلَهَا، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ الْفَارُوقَ، وَفَرَّقَ اللهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ”2.
لقد قفز الفاروق بالإسلام قفزةً نوعية، نقله من سرية الدعوة إلى الجهرية ومن خفاء المستضعفين إلى علن الصامدين، وعبر عن ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقَالَ: “مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ”3. “إِنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إِمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً، وَاللهِ مَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ظَاهِرِينَ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ”4.
النموذج الثاني: عبد الله بن مسعود
إذا كان عمر رضي الله عنه نموذجاً لا يُبارَى في شجاعته وقوته فقد كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كذلك مع ضعف بنيته وصغر جسده! فهو أول من جهر بالقرآن وأنفذ القرآنَ الكريم بصوته الضعيف إلى مسامع أساطين الكفر وصناديد الضلالة!
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: “لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَادِسَ سِتَّةٍ مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُنَا”5.
لقد هاجر ابن مسعود إلى الحبشة وإلى المدينة، وصلى إلى القبلتين، وشهد بدراً واحتز رأسَ أبي جهل، وكان يقول: “قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعي الغنم”6. وشهد أُحُدًا والخندق وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله ﷺ وشهد اليرموك بعد النبي ﷺ، ولم يتخلف عن غزوة.
ومرة أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنْ يَصْعَدَ شَجَرَةً فَيَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ [دقة ساقيه] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَا تَضْحَكُونَ؟ لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ”7.
وشهد له رسول الله ﷺ بالجنة، ولم يكن في أول البعثة أحد يقوى أن يجهر بقراءة القرآن الكريم، إلا رسول الله ﷺ، واجتمع يوماً أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا: والله ما سمعتْ قريشٌ من هذا القرآن يُجْهَر لها به قَط، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إِنا نخشاهم عليك، إِنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إِن أرادوه. [وهذه إشارة صريحة لضعفه رضي الله عنه] قال: “دعوني فإِن الله سيمنَعُني”. فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ: ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾ رافعاً بها صوته: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ﴾ [الرحمن: 1-2] قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأمّلوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابْن أُمِّ عَبْدٍ؟ ثم قالوا: إِنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إِليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إِلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أَهْوَن منهم الآن، ولئن شئتم لَأُغَادِيَنّهُمْ بمثلها غداً (أي آتيهم غدوة بمثل ذلك)، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون8.
وبهذا كسر هيبة قريش وعنادها وهو أضعف الصحابة بنية رضي الله عنهم!
في وصفه قال حذيفة رضي الله عنه: “إِنَّ أَشْبَهَ الناس دلّاً وسَمْتاً وهدْياً9 برسول الله ﷺ لَاَبْنِ أمّ عبد”10.
فكان ابن مسعود رضي الله عنه أشد الناس في امتثال واتباع سُنَّةِ رسول الله ﷺ، وهذه النماذج -من قويهم وضعيفهم- كشفت لنا عن فعال وتصرفات لم تكن محكومة بموازنات انهزامية ولا بنظر لتكافئ طاقات، بقدر ما كانت صادرة من إيمان لا يتزحزح، وتقصي حالهم يبين لنا هدفاً لهم كان شاخصاً أمام أعينهم جميعاً، لم ينقضِ جيلهُم حتى رأوه متحققاً بينهم، وإن لم يسعوا لجني ثمرة دنيوية؛ فقد أدوا واجباً استحقوا به أن يكونوا اختياراً لله -تعالى- في أن يجعل فيهم النبوة ليحملوا مشعلها للناس بلاغاً وتطبيقاً!
1 النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 116).
2 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – ط السعادة (1/ 40).
3 صحيح البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي ﷺ: باب: إسلام عمر بن الخطاب I ط/ السلطانية (5/ 48).
4 المعجم الكبير للطبراني، ط/ مكتبة ابن تيمية، (9/ 162).
5 صحيح ابن حبان: التقاسيم والأنواع (4/ 263)
6 سيرة ابن هشام (المتوفى: 213ه) تحقيق طه عبد الرؤوف سعد (2/ 202).
7 الأدب المفرد للبخاري (المتوفى: 256ه) المطبعة السلفية- القاهرة، الطبعة الثانية (ص92).
8 الروض الأنف: للسهيلي (المتوفى: 581هـ) ط/ دار إحياء التراث العربي، بيروت (3/ 108).
9 الدَّل: عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيئة، وسمتاً: السمت: حسن هيئته ومنظره في الدين، وهدياً: يعني في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر. [انظر: النهاية في غريب الحديث].
10 صحيح البخاري: كتاب: الأدب، باب: في الهدي الصالح (8/ 25).