أسوء مرَض .. وأسوء مَرضَى
أكتوبر 8, 2024الإسلام والعلاقات الدولية (3/3) .. منظومة القِيَم
أكتوبر 8, 2024الشيخ محمد علي المسعود
هيئة التعليم في مؤسسة (إددف)
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ﷺ واله وصحبه ومن والاه أما بعد:
لا يسعُ الباحثَ المنصفَ المحايدَ -وإن لم يكن مسلماً- خلالَ استقرائِه لتاريخ الإسلام منذ بعثة النبي ﷺ إلى يومنا هذا، واستقرائه لأخلاق الغرب وقوانينه، إلا وأن يقف مشدوهاً لما يطَّلع عليه من حقائقَ مذهلةٍ سطَّرها التَّاريخُ لتكون أعظمَ شاهدٍ على عدالة الإسلام، وازدواجيةِ الغرب.
وعندما يقرأ منصفٌ عن الإسلام عامةً وسيرة النبي ﷺ خاصةً، ويسبر أغوار التَّاريخ، سيخلصٌ إلى نتيجةٍ حتمية مسلَّمٍ بها، ألا وهي أن الفقير والغني، والقوي والضَّعيف، والأبيض والأسود، والرَّجل والمرأة.. سواسية أمام المعايير الأخلاقيَّة الإسلامية بكل أشكالها، وحتَّى العبد الذي يُباع ويُشترَى، قد ضمن له الإسلام أن يعيش حياةً كريمةً، فلا يُظلَم، ولا يُكلَّف فوقَ ما يُطيق، ولا يُنتقص من كرامته وإنسانيَّته شَروى نقيرٍ.
وهذا المبدأُ الأخلاقي الذي افتقدته معظم الحضارات أسَّسه القرآن الكريم بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: ١٣] وأصَّله نبينا الكريم ﷺ بقوله: “أيُّها النَّاسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى”1.
كانوا خير مثالٍ
وهذا الخلق الرَّاقي في عدم ازدواجية الأخلاق والمعايير، تشرَّبه الصحابةُ رضي الله عنهم، وترجموه قِيماً أخلاقيةً، سارت بها الركبان، وأصبحت مَضرِباً للمثل، فكانوا خير مثالٍ يُحتذى به، وحُقَ على الغرب بقضِّه وقضِيضِه أن يجلس على ركبتيه ليتعلم من النبي ﷺ وأصحابه هذا الخلق العظيم.
روى البخاري في صحيحه عن المعروف بن سويد قال: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَعليه حُلَّةٌ، وعلَى غُلَامِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، فَذَكَرَ أنَّهُ سَابَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ ﷺ فَعَيَّرَهُ بأُمِّهِ، قالَ: فأتَى الرَّجُلُ النبيَّ ﷺ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ النبيُّ ﷺ: “إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ عليه”2.
ولما دخل النبيُّ ﷺ مكة فاتحاً وهدم الأصنام الحجريَّة حول الكعبة، أراد أن يهدِم الأصنام البشريَّة التي تكيلُ بمكيالين، فتبجلُ الإنسانَ على حَسب لونه أو عرقه أو ماله أو منصبه، فعندما حضرت صلاةُ الظُّهرِ، والصحابةُ وأهل قريشٍ مجتمعين حول النبي ﷺ، وكلهم يفكر في الشخص الذي سيتشرَّفُ بالصُّعودِ على ظهر الكعبة ويصدح بالأذان، منصبٌ تشرئِبُّ له الأعناق، وترخص له الأموال والأرواح، نظر النبي ﷺ يَمنةً ويَسرةً، لم ينادِ أبا بكر ولا عمر -وهما خير البريَّة بعد النبي ﷺ- ولم ينادِ علياً وهو صهره وابن عمه، ولكن قال: “اصعد يا بلال على ظهر الكعبة وارفع الأذان”. فامتثل بلال أمر النبي ﷺ، حتى قال الحارث بن هشام وبعض أهل قريش: “أما وجد محمدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذناً”!3
وما ذكرنا ما هو إلا غيضٌ من فيضٍ مما يحويه إرثنا الثقافيُّ، وسيرةُ نبينا المصطفى ﷺ، من عدم ازدواجية المعايير، أو الكيل بمكيالين على حسب العِرق أو اللون أو الجنس البشري.
واقع الغرب المرير
فإذا استقرأنا واقع الغرب المرير، الذي يدَّعي الحضارة والمدنية، ويتَّهم الإسلام بالغلوِّ وهضم الحقوق والظلم، وجدناه يتنطَّع بحقوقِ الإنسانِ، بل وحتَّى الحيوان، ولا نحتاج إلى كثيرِ عناءٍ حتى يتبيَّن لنا نقيض هذا الكلام، على كل الأقْيسَةِ والمعايير، ولا أدلَّ على ذلك من نزعات العنصريَّة والتّعصبِ، وثقافة الكراهية التي كانت قديمة ً، بل وبدأت تستيقظ من جديد، يساندها عددٌ من القادة والسِّياسيين الذين جعلوا ازدواجيَّة المعايير من فضائِل الأعمال! يسوِّغُها لهم مجموعةٌ من كتَّابِهم ومفكِّرِيهم، ويدعمها أصحابُ الرُّؤى والأساطير الدينيَّة، والأيديولوجيات العنصريَّة4.
ومستقرئُ التِّاريخ، سيمرّ معه صور مفزعة من ألوان الاضطهاد والتَّعذيب والعنصرية التي استخدمها الغرب ضد العبيد، أو من اختلف عنهم في لون البشرة أو الدين أو العرق.
وكم روت كتبهم عما يُسمَّى: صائدي العبيد، الذين كانوا يتوغَّلون في القرى الإفريقية فيأسرون الآلاف من الرِّجال والنِّساءِ، ويقيِّدونهم بالسَّلاسلِ، ويكوونهم بالأختام النِّارية باسم المالك الجديد لهم، ثم ينقلونهم إلى سفنٍ تحمل أعداداً كبيرةً منهم، ومن يبدي أي اعتراضٍ فستلهب السِّياطُ ظهرَه، ومن يمرض من هؤلاء يُرمي في البحر، حتى لا يتكلَّفون علاجه، فما هو إلا رقم من الأرقام الكثيرة التي لا قيمة لها ولا كرامة5 .
ولكن بتقدير الله سبحانه، وبعد وصول هؤلاء المضطهدين إلى عالمهم الجديد، بدأوا يدخلون في دين الله أفواجاً، لما عرفوا من قيَّم الإسلام العظيمة التي كرَّمت الإنسان لإنسانيَّتِه، لا لِلَونه أو عرقه أو ثروته، وبعد أن عاينوا ظلم الغرب وخداعه وكَيلِه بمكيالين، ينطبق عليه قول النبي ﷺ: “إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضِّعيفُ أقاموا عليه الحدَّ”6.
من ذكرياتي في ساحل العاج
ولعلِّي أذكر في هذا المقام حادثةً شخصيةً حصلت معيَ وأنا في دولة أفريقية -دولة ساحل العاج- تدلِّلُ على ما ذكرته، وتجلِّي معناه، حيثُ توجَّهنا إلى إحدى القرى النائية لافتتاح مسجدٍ ومدرسةٍ، ولمَّا وصلنا إلى القرية وكان غالبية أهلها من النَّصارى، وجدنا أهل القرية باستقبالنا، بما فيهم نصارى القرية، فسلَّمنا عليهم بحرارةٍ، وعانقناهم وكأنَّنا نعرفهم منذ زمنٍ بعيدٍ، ثم ألقيت خطابا تحدَّثتُ فيه عن الأخوَّة الإسلاميَّة، وعن المنظومة الأخلاقيَّة الإسلاميَّة، وأنَّ الإسلام لم يفرق بين البشر على حسب ألوانهم ولا أموالهم ولا أعراقهم، وذكرت طرفاً من سيرة سيدنا بلال، وكيف كرمه الإسلام، وصعوده على ظهر الكعبة ليرفع الأذان.
وبعد انتهاء الكلمة تقدَّم رجلٌ من نصارى القرية كان يستمع الخطاب، وتظهر عليه علامات التأثُّر وقال للمترجم: إنه يريد أن يعلن إسلامه على العلن! وبالفعل تقدَّم إلى المِنصَّة ولقنتُه الشهادتين.
ثم سألته عن طريق المترجم: ما الذي دفعه إلى أن يدخل في الإسلام؟
فقال: “يأتي إلى قريتنا كثيرٌ من المبشرين النَّصارى من دول الغرب، ولكن قبل مجيئهم بساعاتٍ يأتي شخصٌ من قبلهم إلينا، ويطلبُ منَّا أن لا نقترب إليهم وأن لا نصافحهم، فيتكلمون ما عندهم وينصرفون، وعندما رأيتكم تصافحوننا وتعانقوننا بحرارةٍ، دخل في قلبي محبَّةُ دينكم، ولمَّا تكلمتَ لنا عن عدالة الإسلام وعن بلالٍ الحبشي، شعرتُ أنَّ قلبي دخل الإسلام قبل أن ينطق لساني بالشهادتين”.
وقدْ مضى على إسلام هذا الرجل ثلاثة أعوامٍ، وأنا أتواصل مع إمامِ القريةِ أسأله عن أحوالِ هذا الرجل الذي تسمى بـ”محمود”، وأبَشَّرُ من الإمام بأنَّه لا يتخلف عن الصَّلواتِ الخمس، وأنه حفظ كثيرا ًمن سور القرآن!
ولعلي أوفَّقُ في المقالة القادمة أن أبيِّنَ ألواناً أخرى من عظمة الإسلام في عدم ازدواجية المعايير، مقابل الغرب الذي اتَّخذ الِازدواجية والكيل بمكيالين سياسةً لا تنفك عنه.
ــــــــــــــــــ
1 رواه أحمد في مسنده، الأنصار، برقم ٢٢٣٩١.
2 رواه البخاري، كتاب الإيمان- باب المعاصي من أمر الجاهلية، رقم30. وعلى ما تذكُر بعض الروايات، أنَّ أبا ذر عيَّر بلالاً أو غيرَه من العبيد فقال له: “يا ابن السَّوداء”. ذكَره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) بقوله: “وقيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، مولي أبي بكر، روى ذلك الوليد بن مسلم منقطعاً”. 1/80.
3 انظر تفسير البغوي: سورة الحجرات الآية 13.
4 انظر: الغرب ودراسة الآخر.. إفريقيا نموذجاً، دكتور علي القرني، ص17.
5 انظر: اضطهاد الزنوج في أمريكا، طاهر عبد الحكيم، ص170.
6 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود- باب قطع يد السارق، رقم1688.