رسالة علماء الأمة إلى القادة العرب المجتمعين في قمة الرياض
نوفمبر 11, 2024هنيئاً لـمَن أجرُه كـ50 صحابياً
نوفمبر 12, 2024د. حسين عبد العال
عضو الأمانة العامة للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
لقد شعرنا وشعر الأحرار في يوم السابع من أكتوبر 2023م شعورًا حقيقيًا بمعنى العزة والكرامة، وتنفسنا الصعداء فرحًا ونشوةً وسرورًا، وهتفنا من أعماقنا: الله أكبر الله أكبر، أحقًا ما رأينا وسمعت آذاننا؟ أحقًا اقتحم الأسود سلكًا كلف المليارات؟ واقتحمت صواريخهم قبة صوروها لنا أنها تصطاد الحشرات؟ أحقًا أسر أبطالنا أكثر من مئتي وخمسين خنزيرًا صهيونيًا في لحظات قليلة وقتلوا أكثر من ألف وثلاثمئة آخرين؟ أحقًا يفر المستوطنون خوفًا وفزعًا؟ ويهجر الآلاف منهم أرض الميعاد المزعومة؟ نعم هذا كله وغيره أشعرنا بعزة الإسلام، وكرامة المسلم، وبهجة النصر العظيم.
وما زلنا طوال هذا العام ونحن نشعر بالعزة رغم الألم، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ [آل عمران: ١٣٩]. أنتم الأعلون حتى في لحظة الهزيمة، فكيف بكم في حالة النصر؟! في حالة النصر أنتم الأعلون وتشعرون بالعزة والكرامة ونشوة النصر.
نشعر بالعزة كلما سمعنا عن قتل خنزير فكيف بقتل المجموعات منهم؟ نشعر بالعزة كلما شاهدنا صورة للميركفاة وهي مشتعلة بمن فيها، نشعر بالعزة كلما رأينا منزلًا يفجر بالخنازير، نشعر بالعزة كلما سمعنا (النتن) يصرخ كالمجنون ويتهدد ويتوعد ووجهه مكفهر من آثار الهزيمة، نشعر بالعزة وهم يقولون نحن ننتظر ردّ المقاومة بالموافقة على الصفقة من عدمه، نشعر بالعزة ونحن نرى العالم كله على قدم وساق والمقاومون في هدوئهم وثباتهم.
هذه حالة يشعر بها الأحرار من الناس، ولا يشعر بها العبيد منهم، فالأحرار سعداء تسموا أرواحهم، وإن كانت تمطرهم القنابل، وما رأيناه وما زلنا نراه من أهل غزة يدعونا دائمًا للعزة والكرامة.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
لقد تعلمنا أن لنا أولويات في كل شيء، أولوية في الولاء وفي البراء وفي السلم وفي الحرب، أولوية فيما نسمع وفيما نتكلم، وحتى في الطعام والشراب والنوم وغير ذلك، واليوم نحن أمام أخطر قضية عرفها التاريخ الحديث وهي قضية القرن الواحد والعشرين، وهي قضية (طوفان الأقصى)، والتي سطرت ملحمة جديدة وعظيمة وغريبة على التاريخ المعاصر، ولزاماً علينا أن نجعلها أولويتنا العظمى، وأن نقف في صفها وأن ندعمها وأن لا ننشغل عن دعمها بأي أمر آخر وإن عظم قدره، وأكثر ما يريده بني صهيون هو أن ننشغل بقضية غيرها، وخاصة أن ننشغل بقضايا خلافنا مع بعضنا أو مع بعض المحيطين والمتربصين بنا، ولو انجررنا للنزاعات مع بعضهم، فسننسى قضيتنا الأساسية، وينفرد الذئب بالضحية يفعل بها ما يشاء.
وإن أولى ما ننصر به قضيتنا (قضية الطوفان) هي وحدتنا وترك الخلافات بيننا، فوحدة قلوبنا سبب للنصرة، لقوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَثَـٰبَهُمۡ فَتۡحࣰا قَرِیبࣰا﴾ [الفتح: ١٨]، فلولا تآلف قلوبهم ووحدتهم على الحق لما استحقوا السكينة ولا الفتح القريب، ولذلك فإخواننا في غزة يجاهدون المحتل ويتنزل عليهم النصر بوحدتنا معهم وتآلف قلوبنا.. وهذا يدفعنا للدعاء لهم، فنصرهم عائد على الأمة كلها لذا هم في حاجة ماسة لوحدة قلوبنا، وإنا لنخشى والله أن نكون سببًا في تأخير النصر عن إخواننا بسبب تنازعنا واختلاف قلوبنا، عافانا الله وإخواننا من ذلك!
عام من العزة والكرامة
كثير من الناس يعيشون في الأرض معيشة الأنعام -أعزكم الله-، فلا يرون الحياة إلا علفًا يؤكل، وماء يُشرب، ولذة تُقضى، وإن داروا في فلك الساقية ليل نهار، وإن أذلهم صاحب البستان وأمطرهم بوابل من الشتائم وأحيانًا بعض السياط، المهم عندهم أنهم نجوا من السكين وإن عاشوا ذليلين خاضعين، وتلك هي حياة العبيد.
والبعض الآخر وهم القلة، لا يرضون بمثل هذه الحياة الذليلة مهما كان الثمن، فهم يرضون بالفقر والجوع والعذاب بل والموت، والمهم أن يكونوا أعزة مرفوعي الرؤوس، يعيشون بكرامة وإباء، ويموتون بكرامة وإباء، وهم يعلمون أن عزتهم وكرامتهم لا تقصر لهم عمرًا.
يقول عنترة بن شداد واصفاً هذا الشعور بالكرامة والعزة:
وَإِذا الجَبانُ نَهاكَ يَومَ كَريهَةٍ ** خَوفاً عَلَيكَ مِنَ اِزدِحامِ الجَحفَلِ
فَاعصِ مَقالَتَهُ وَلا تَحفِل بِها ** وَاقدِم إِذا حَقَّ اللقا في الأَوّلِ
وَاختَر لِنَفسِكَ مَنزِلاً تَعلو بِهِ ** أَو مُت كَريماً تَحتَ ظُلِّ القَسطَلِ
فَالمَوتُ لا يُنجيكَ مِن آفاتِهِ ** حِصنٌ وَلَو شَيّدتَهُ بِالجَندَلِ
مَوتُ الفَتى في عِزةٍ خَيرٌ لَهُ ** مِن أَن يَبيتَ أَسيرَ طَرفٍ أَكحَلِ
إلى أن قال:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلّة ** بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
وهذا هو العربي الأصيل وإن كان يعيش في جاهلية قبل الإسلام، فكيف بالعربي لو أسلم؟ فالأصل أنه يزداد حبًا وتمسكًا بكرامته وعزته، خاصة والإسلام يدعوه لأن يكون عزيزًا كريمًا، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [المنافقون: ٨] أي: حصرًا وقصرًا عليهم، ومعنى هذا أن الذي يرضى بالذل والهوان ليس مؤمنًا، بل إن الذي يرضى بالاستضعاف دون عذر فإن الله تعالى يتوعده بالعذاب وإن ادعى الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰسِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾ [النساء: ٩٧-٩٩] وهؤلاء مسلمون وربما من الصحابة، لكن جريمتهم أنهم رضوا بالاستضعاف، والرضا بالاستضعاف ينافي التمسك بالعزة والكرامة.
ولو تأملنا حال بلال -رضي الله عنه- وهو يستعذب البلاء في سبيل الله تعالى، وهو يصرخ في وجه عدوه قائلًا: “أَحد أَحد”، ثم يقول: “لو كنت أعلم كلمة هي أغيظ لهم منها لقلتها”. إنه سمو الروح وحب العزة والكرامة، وإن أدى ذلك للقتل أو الموت.
عام من الحصار والمقاطعة
وبرغم ما في العام من عزة وكرامة ونشوة بالنصر، إلا أنه عام من الألم والجوع لأعز أناس على قلوبنا -أهل غزة الأبطال- يذكّرنا أبطال غزة بما فعلوه في السابع من أكتوبر 2023م وما تلا ذلك اليوم، يذكروننا بكثير من مواقف السيرة النبوية المطهرة، على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم، فاليوم نتذكر شِعب أبي طالب، ذاك الشعب الذي ضم بداخله بني هاشم وبني المطلب، دونَ قريش كلها، وقفوا استجابة لدعوة أبي طالب لهم، استجابة للنخوة والرجولة والشهامة، عرَّضوا أنفسهم وذراريهم للمقاطعة والجوع والحرمان دون أن يتخلوا عن شهامتهم ومروءتهم.. وقوفًا أمام قومهم لما رأوا منهم ظلمًا وعدوانًا لا مبرر له، في حين انحازت بقية القبائل لصف الصلف والجور مع أبي جهل ومَن معه، حتى أبناء العمومة كالمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعتبة وشيبة ابني ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، هؤلاء تخلوا عن بني عمومتهم ووقفوا في صف الطغيان.
وتستمر المقاطعة ثلاث سنوات متواصلة، يحرم فيها بنو هاشم وبنو المطلب من كل حقوقهم في البيع والشراء والمناكحة وحتى من التجول والخروج سوى في الأشهر الحرم، كل هذا لأجل عدم التفريط في ابنهم والمسلمين معه، وما منع أبا جهل وعصابته من قتل محمد ﷺ إلا خوفه من سيلان بحور الدم ممن ناصروه ومن بني هاشم والمطلب المدافعين عن رسول الله ﷺ.
لكن تلك المقاطعة كانت تتخلق بأخلاق الجاهلية الأولى (وأقصد بذلك مدحًا لها لا قدحًا فيها) فبرغم الحصار لهم كانوا يحافظون على بعض أخلاقهم التي تربوا عليها، فبنو هاشم والمطلب ما دخلوا في حلف أبي طالب إلا لحفاظهم على عاداتهم من عدم التخلي عن ابنهم، ومن مناصرتهم للمظلوم وإن كلفهم ذلك حياتهم، وحتى المحَاصِرون -بكسر الراء- كانوا يخشون رغم ظلمهم أن يؤثَر عنهم أنهم تخلوا عن أعرافهم، ولذلك قاموا هم أنفسهم ينقضون الصحيفة التي كتبها صناديدهم، فرأينا هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية المخزومي، ومطعم بن عدي، وأبا البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، يتمالؤون بالليل سرًا على نقض الصحيفة، ولو أرادوا توسعة دائرتهم لوجدوا العشرات معهم، ممن يرفضون الظلم والقطيعة.
حصار غزة ليس له مثيل
ولكن جاهلية القرن الواحد والعشرين جاهلية جهلاء، لا تعرف قيمًا ولا أخلاقًا وليس لها من العادات ما تحترمه، وليس من بينهم من يستطيع تقليد المطعم أو زهير، لذلك حصار ومقاطعة أهل غزة أشد بكثير من حصار أبي جهل للمسلمين الأول، حصار اليوم تنصب فيه الحمم صبًا على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ والضعفاء، حصار اليوم لا يوجد فيه من يقول للظالم أنت ظالم، لا يوجد فيه زهير ليطوف بالبيت ثم يقول: “أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة”، لأن اليوم دار ندوتهم -وما يسمونه مجلس أمنهم- لا يعرف شيئًا عن الأخلاق والعادات الكريمة، ولأن زعماء جاهليتنا ليس فيهم أمثال المطعم ولا زمعة ولا هشام، وغاب عنهم حكيم بن حزام الذي كان يمد عمته خديجة بالليل سرًا بالطعام والشراب.
ونحن والله على ثقة بأن الله الذي أرسل الأرضة التي أكلت الصحيفة غير باسمك اللهم، قادر سبحانه أن يرسل جنودًا من عنده -وما يعلم جنوده إلا هو- لنصرة أهل المسرى وأهل غزة، ولكن كما قال ربنا: ﴿ذَ ٰلِكَۖ وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَا۟ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲۗ﴾ [محمد: ٤]، وكما قال أيضًا: ﴿لِیَمِیزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ وَیَجۡعَلَ ٱلۡخَبِیثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَیَرۡكُمَهُۥ جَمِیعࣰا فَیَجۡعَلَهُۥ فِی جَهَنَّمَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٧].
فسارِع أيها المؤمن لتكون في صف الطيبين، وإن أصابك ما أصابك من بلاء، وأبعد نفسك عن صف الخبيثين، وكن واثقًا في نصر الله المبين، وكن أنت حامل اللواء والمدافع عن إخوانك، حتى يأتي النصر وأنت في خندق المؤمنين، أو يأتيك الأجل وأنت ثابت على طريق الموحدين.
وللحديث بقية في العدد القادم إن شاء الله تعالى.