في صحبة صحيح مسلم
فبراير 26, 2024حول حديث “أنتم أعلم بأمور دنياكم”
فبراير 27, 2024
رسالة الإسلام هي الرسالة السماوية الخاتمة التي أنزلت على سيدنا محمد للناس كافة؛ فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28]. ونبينا محمد نبي عربي وكذلك أُنزل القرآن بلسان عربي مبين، ورغم هذا لم يتحيز الإسلام للعِرق العربي بل جعل الناس كلهم متساوين أمام أحكامه وواجباته ونواهيه؛ فلم يفضل عرقاً ولا لوناً ولا جنساً، فلا فضل لأي منهم على الآخر إلا بالتقوى.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟”، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: “فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ”(1).
ولذا جعل الله في القرآن الكريم التقوى هي المعيار الأول للتفاضل بين الناس فقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13]، وأكد النبي ﷺ هذا المعيار للنجاة مُنحيا النسب والعشيرة والمال وكل شئ جانبا، فلم يجعل لهم قيمة للمرء إذا ساء عمله فقال: “ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”(2).
بل جمع نبينا محمد ﷺ أهله وأقرب الناس إليه وطالبهم بحسن العمل للنجاة من العقاب، وأعلمهم أنه ليس بين الله وبين عباده نسب، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: “يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ شَيْئًا سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ”3.
ولذا ضمت الكوكبة الأولى من صحابة النبي ﷺ الذين أسلموا وتربوا على يد الرسول ﷺ العرب والعجم معاً، وبهذا ذابت الفوارق بين الناس وانتشر الإسلام بعدهم في كل أرجاء الأرض، فكان من العجم بلال بن رباح ووحشي بن حرب وأم أيمن حاضنة الرسول ﷺ كانوا من الحبشة، وكانت أم المؤمنين مارية بنت شمعون وأختها سيرين بنت شمعون أقباطاً من مصر، وكان سلمان فارسياً وكرّمه النبي الكريم ﷺ ونسبه إلى آل بيته، وكان صهيب رومياً وكذلك كان فيروز الديلمي، وكان عداس من أهل نينوى، فلم يفرق الإسلام بينهم جميعاً وبين العرب، فكلهم لهم فضل السبق والصحبة ولم تكن بينهم تلك العنصرية البغيضة.
وهكذا رأى غير العرب من بعدهم حينما دخلوا الإسلام المساواة الكاملة بين كل المسلمين في الحقوق والواجبات وعدم التفرقة بينهم وبين غيرهم من الناس، فالكل سواسية أمام الله عز وجل، لذلك بذلوا جهدهم في قضايا الأمة مثلهم مثل العرب سواء بسواء.
ومن أهم العلوم التي اهتموا بها بعد علوم القرآن الكريم علم الحديث الشريف، وهو الذي يجمع الروايات عن رسول الله ﷺ ومن ثم يميز الصحيح منها من السقيم، حرصاً على السنة النبوية الشريفة التي هي المصدر الثاني للتشريع، امتثالاً لأمر الله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾ِ [الحشر:7].
فبذلوا جهداً عظيماً فيه لجمع الأحاديث نظراً لتفرق الصحابة رضوان الله عليهم في الأمصار بعد وفاة النبي الكريم ﷺ، ولم يتركوا حديثاً منسوباً للرسول ﷺ إلا وجمعوه، فاحتاج الأمر منهم إلى سنين كثيرة وسفر دائم وتفرغ كامل وجهد شاق لجمع الأحاديث لينقّوها أو ينقيها مَن بعدهم، مما قد يدس عليها أو يخطئ فيها بعض الرواة عمداً أو سهواً ونسياناً.
ومن اللافت للنظر أن أشهر الكتب التي جمعت أحاديث النبي ﷺ -وهي الكتب الستة المشهورة- لم يكن مؤلفوها من العرب، بل كانوا من الأعاجم، وتلقتها الأمة بالقبول ولم يجد أي مسلم غضاضة في ذلك لاستقرار فكرة عالمية الإسلام عند كل المسلمين منذ أول يوم، فلم يأبه المسلم بجنسية ولا لون ولا عرق صاحب الكتاب لأنه يعلم أن جنسية المسلم تتمثل في عقيدته فحسب.
رحلة أصحاب الكتب الستة
وفيما يلي نبذة عن أصحاب الكتب الستة ورحلتهم في طلب وجمع الأحاديث:
1- الإمام محمد بن إسماعيل البخاري
وهو من مدينة بخارى وتلك من دولة أوزباكستان الحالية. نشأ يتيماً فبدأ طريقه في طلب الحديث الشريف في سن قبل العاشرة، ثم رحل إلى مكة وإلى غيرها من مدن العالم الإسلامي لمدة ستة عشر سنة كاملة، تمكن فيها من جمع ما يقارب ستمائة ألف حديث منما يقرب من ألف محدث، ثم تخير أصح الصحيح منها في كتابه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ﷺ وسننه وأيامه)، وبذل جهده لخدمة الحديث الشريف على مدى عمره كله، وتُوفي عن اثنين وستين عاماً.
2- الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري
من مدينة نيسابور وهي في دولة إيران الحالية، فبدأ بطلب العلم في بلدته أولاً ثم انتقل إلى العراق والحجاز، وجمع الأحاديث الصحيحة في كتابه الذي انتهى منه بعد خمس عشرة سنة من الرحلة في جمع أحاديثه والانتقاء منها، وتوفي عن سبعة وخمسين سنة.
3- الإمام النَّسائي أحمد بن شعيب
وهو من مدينة نسا بخراسان في دولة تركمانستان الحالية، وبدأ بطلب العلم في المدن والبلدان الإسلامية حتى وصل إلى مصر واستقر بها فترة ثم رحل إلى دمشق، كتب كتابه المعروف بسنن النسائي وتوفي عن خمسة وثمانين سنة.
4- الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني
من مدينة سجستان في دولة إيران الحالية، وبدأ الهجرة لطلب العلم من بغداد ومنها إلى الحجاز والعراق وخراسان والشام ومصر وغيرها، وكتب كتابه (سنن أبي داود)، واستقر بالبصرة وتُوفي بها عن ثلاثة وسبعين عاماً.
5- الإمام أبو عيسى الترمذي
من مدينة ترمذ وهي في دولة أوزباكستان الحالية، وقد قام برحلته أيضاً في طلب العلم والحديث الشريف بدءاً بخراسان ثم العراق والحجاز، حتى أتم كتابه في السنن وله كتب أخرى غيره، وكف بصره آخر عمره ومات عن سبعين عاماً.
6- الإمام ابن ماجه محمد بن يزيد القزويني
وهو من مدينة قزوين في دولة إيران الحالية، ورحل في طلب العلم البصرة والكوفة وبغداد في العراق وإلى مكة والشام ومصر والري، وكتب كتباً أخرى بخلاف كتابه السنن، وتوفي عن أربعة وستين سنة.
وبهذا انضمت هذه الكوكبة من العلماء الأعاجم إلى إخوانهم العلماء العرب أمثال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة صاحب الموطأ، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني صاحب المسند، ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهم الذين كانوا في مرحلة مهمة من تدوين أحاديث النبي ﷺ لجمعها وتبويبها للحفاظ عليها من الضياع أو الاندثار.
وكان جهدهم المبذول في رحلاتهم لجمع الأحاديث كبيراً وعظيماً، ولذا لم يشترط معظمهم الصحة في الأحاديث باستثناء البخاري ومسلم اللذين قاما بجهد مضاعف بدءاً من مرحلة الجمع ثم التصحيح والانتقاء وبيان علل الأحاديث، أما أصحاب السنن فلم يشترطوا ذلك، ولكنهم لم يوردوا في كتبهم أي حديث ضعيف بغير إسناد لكي يُيسروا على مَن بعدهم التدقيق والتحقيق في كل الأسانيد التي أوردوها، تاركين ميراثاً ضخماً من الأحاديث التي تحتاج إلى التصحيح فجزاهم الله خير الجزاء، وقد نبهوا على ذلك في مقدمات كتبهم لبيان مناهجهم.
وخلال قرن واحد من الزمان كان مبعثهم جميعاً ليقيّضهم الله سبحانه وتعالى لخدمة دينه والذب عن سنة رسوله ﷺ، فوُلد أقدمهم سناً الإمام البخاري في السنة الأربعة والتسعين بعد المائة هجرية، بينما مات آخرهم الإمام النسائي في السنة الثالثة بعد المائة الثالثة هجرية، فكأن الله ابتعثهم وجمعهم لأداء هذه المهمة الجليلة وهي مهمة الحفاظ على أحاديث النبي الكريم ﷺ من الاندثار أو الدس أو التقوّل عليه بما لم يقله، وأتموها بفضل الله، ودلوا الناس على صحيح سنة نبيهم بعد تفرق العلم في الأمصار وخُشي عليه، فما من مسلم الآن -إلا ما ندر- يروي حديثاً ثابتاً عن النبي ﷺ إلا ويذكر واحداً أو أكثر من هؤلاء الأئمة الأعلام رضي الله عنهم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أعظم الجزاء، وما أعظم دعاء النبي ﷺ لهم كما رواه البزار بسنده عن أبي سعيد الخُدري عن النبي ﷺ، أنّه قال في حجة الوداع:
“نَضَّرَ اللهُ امرءاً سمع مقالتي فَوَعاها، فَرُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه”(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعب الإيمان للبيهقي، (7/132).
رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيره.
رواه مسلم.
صحيح لغيره ذكره الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب والترهيب)، (1/104).