
الوعد والأجل .. لماذا يتأخر تحقق الوعد الرباني؟
فبراير 7, 2024
التهيئة لمباحثات قيام الدولة
فبراير 8, 2024إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له، وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلموا إلى يثرب!
فلم تكن الهجرة تخلصاً فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاوناً عاماً علىٰ إقامة مجتمع جديد، في بلد أمين. وأصبح فرضاً علىٰ كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة – بعد الهجرة إليها – نكوصاً عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله، فالحياة بها دين، لأن قيام الدين يعتمد علىٰ إعزازها، وفي عصرنا هذا، أُعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضاً مهنناً، لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قومي لهم، بعد أن عاشوا مشردين قروناً طوالاً.
ونحن لا ننكر جهد اليهود في إقامة هذا الوطن، ولا حماسة المهاجرين من كل فج للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلانه.
ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم، أو بتعبير أدق، ما صُنع لليهود اليوم وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاةً بدعوتهم، وإقامة لدولتهم، إن اليهود جاءوا علىٰ حين فرقة من العرب، وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم في ميدان السياسة الغربية الناقمة علىٰ الإسلام وأهله، فإذا العالم كله يهجم علىٰ فلسطين بالمال والسلاح والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربي حصرتهم الخيانات في مآزق ضيقة أن يصنعوا شيئاً، فهاموا علىٰ وجوههم في الأرض، نتيجة اتفاق أمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا و… ملوك العرب علىٰ خذلان أولئك العرب التعساء، وبذلك قام الوطن القومي لليهود، وبثَّت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له من دهاقين السياسة والمال، في أنحاء الدنيا!
أين هذا الحضيض، من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفعت عن المآرب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول، والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا ـ وحدها ـ في عالم عج بالصم والبكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرّأة التي اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرد المكافح، وهو لا ينى يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]
إن المدينة الفاضلة التي تعشّقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال جاءت في سطور الكتب دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة صفاء ونضارة.
إن المسلمين ـ بإذن رسول الله ـ هرعوا من مكة وغيرها إلى “يثرب” يحدوهم اليقين، وترفع رؤوسهم الثقة، ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة. إنها إكراه رجل آمن في سربه، ممتد الجذور في مكانه، علىٰ إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله، والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره، وهو يصفى مركزه ـ بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل مغامر طباش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضي الضمير وضاء الوجه؟
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السمـٰوات والأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير، هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيَّاب الخوَّار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك. إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66].
أما الرجال الذين التقوا بمحمد ﷺ في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحق والصبر، فإنهم نفروا – خفافاً – ساعة قيل لهم هاجروا إلى حيث تعزّون الإسلام وتُؤمّنون مستقبله.
ونظر المشركون، فإذا ديار بمكة كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحالّ مؤنسة قد أمحلت، مر عتبة والعباس وأبو جهل علىٰ دار بني جحش بعدما غلّقت، فقد هاجر ربّ الدار وزوجه، وأخوه أحمد، وكان رجلاً ضرير البصر، ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يباباً، ليس بها ساكن! فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال:
وکل دار وإن طالت سلامتها يوما ستدركها النكباء والحوب
ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن
أخيك، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا. وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة.
فهم يجرمون ويرمون الوزر علىٰ أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبوا الاستكانة، فإباؤهم علة المشكلات ومصدر القلاقل!
وكان من أول المهاجرين “أبو سلمة، وزوجه، وابنه”، فلما أجمع علىٰ الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ وأخذوا منه زوجته، فغضب آل أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده وذهبوا به، وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة ـ بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها – تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، فرق لها أحد ذويها، وقال: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك، إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة.
ولما أراد “صهيب” الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيت إن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم! قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: ربح صهيب(1).
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات ووحدانا، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين، وشعرت قريش بأن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها، وحصن يحتمي به وتوجست خيفةً من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد ﷺ، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس، حين يخاف علىٰ حياته، إن محمداً ﷺ لا يزال في مكة وهو ـ لابد ـ مدرك أصحابه اليوم أو غداً، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها.
في دار الندوة
واجتمع طواغيت مكة في دار الندوة، ليتخذوا قراراً حاسماً في هذا الأمر. فرأى بعضهم أن توضع القيود في يد محمد ﷺ ويُشد وثاقه، ويرمى به في السجن لا يصله منه إلا الطعام، ويُترك علىٰ ذلك حتى يموت.
ورأى آخر أن ينفى من مكة فلا يدخلها، وتنفض قريش يديها من أمره، وقد استُبعَد هذان الاقتراحان لعدم جدواهما، واستقر الرأي علىٰ الاقتراح الذي أبداه “أبو جهل” قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً، ثم نعطي كل فتىً سيفاً صارماً، ثم يضربونه – جميعاً – ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقووون علىٰ حرب فريش كافة، فإذا لم يبقَ أمامهم إلا الدية أديناها، ورضي المؤتمرون بهذا الحل للمشكلة التي حيرتهم، وانصرفوا ليقوموا علىٰ إنفاذه. وقد أشار القرآن إلى تدبير هذه الجريمة بقوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]
إن هذا الحكم لم يُتخذ في مجلس سر، بل في اجتماع عام، ومن الطبيعي أن يعلم به رسول الله، وأن يعرف حقيقة وضعه في مكة، إنهم لا ينتظرون به إلا موعد التنفيذ، ثم يقدم الطعام قرباناً للأصنام!
على أن رسول الله ﷺ لم يكن ليوعز إلى أصحابه بالهجرة ويتخلف عنهم، لقد رسم الخطة التي يذهب بها إلى “يثرب” حين ندب المسلمين للهجرة إليها، روى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ وهو يومئذ بمكة للمسلمين: “قد أُريت دار هجرتكم، أُريت سبخة ذات نخل بين لابتين”(2)، فهاجر من هاجر قِبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله ﷺ، ورجع(3) إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.
هجرة الرسول
حين عزم رسول الله ﷺ علىٰ ترك مكة إلى المدينة، ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 80](4)
ولا نعرف بشراً أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل الرسول ﷺ الذي لاقى في جنب الله ما لاقى. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعنى التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله، ومن ثم فإن رسول الله ﷺ أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فـرد عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء، وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل – بعد ذلك – علىٰ الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله، فإذا استفرغ المرء جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه علىٰ هزيمة بُلي بها، وقلما يحدث ذلك، إلا عن قدر قاهر يُعذر المرء فيه!
وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار، كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها، والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة جرت علىٰ هذا الغرار، فقد استبقى رسول الله معه علياً وأبا بكر، وأذن لسائر المؤمنين بتقدّمه إلى المدينة. فأما أبوبكر فإن الرسول ﷺ قال له حين استأذنه ليهاجر: “لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحباً”(5). وأحس أبوبكر كأن الرسول ﷺ یعنی نفسه بهذا الرد!
* الشيخ محمد الغزالي، فقه السيرة، ص118 وما بعدها.
(1) ابن هشام في ” السيرة ” (1/289).
(2) أخرجه البخاري ومسلم.
(3) بدأ رجوعهم، وظلّ حتى السنة السادسة للهجرة العامة.
(4) أخرجه الترمذي (١٣٧/٤) والحاكم (۳/ ۳) والبيهقى (9/9) وأحمد (رقم ١٩٤٨).
(5) رواه ابن إسحاق (۲/۲) بدون إسناد: لكن معناه فيما أخرجه البخاري (۷/ ۱۸۳ – ١٩٧).