حوار مع الشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله
مايو 18, 2024زوال إسرائيل المرتقب
مايو 18, 2024بسم الله الذي خلق الإنسان من علق، والصلاة والسلام على مَن أرسله رحمةً لأهل هذه الأرض، أما بعد:
فتعالوا نجتر مشهداً مؤلماً من مشاهد زماننا العجيب، هذا الزمان الذي تُحكى مشاهده -ويا للعجب- بنفسها، لا تُحكى لفظاً بل هي التي تَحكي وتقص علينا نفسها لترسل لنا الألم الحقيقي الذي تحويه!
تعالو لنرى هذا الشاب العشريني الضابط في سلاح الجو الأمريكي الذي خصص مدخراته لأطفال فلسطين؛ وطلب التبرع بمدخراته لصندوق مساعدة أطفال فلسطين؛ كيف قرر أن يعبر عما في قلبه من أسى، فتوجه بزيه الرسمي إلى السفارة الصهيونية قُبيل ظهر يوم العطلة (الأحد)، وبدأ بثاً مباشراً فوقف أمام الكاميرا وعدّل طاقيته العسكرية وانتصب وسكب الوقود على نفسه وأشعل النار، واستغرق لإشعالها في جسده ثواني، أوقنُ أنها طالت عليه كما طالت على كثير ممن يشعرون!
إلا أنه حسم أمره وحَرق، وما يثير الشعور أنه صمد للنار ولم يفر منها هذا الفرار الذي نعرفه عندما تبدأ النار بأكل إنسان، هذا الفرار الذي لا يفرق بين منتحر أو مبتلى!
هذا الجنون التي يركب الإنسان وقت الحريق من شدة الألم!
صمد صاحبنا ولم تتحرك قدماه ولا شيء من جسده، والأعجب في الأمر أنه قد أعد لصموده عُدة!
وكانت العدة أن يتقوى على صموده بالصراخ.. فاختار صراخاً هادفاً فكان: حرِروا فلسطين.. حرروا فلسطين..
فحتى الصراخ قد جهزه ليناسب مراده!
وثبات في الصراخ لألم كهذا ليس بالأمر الهين! ولولا المنطق لقلت إنه تدرب عليه من قبل!
وتبدأ النار بأكل الجلد، وكلنا يعرف لسعة النار، أما أن تأكل بعضك أو كلك فليس كلنا يعرفه، إلا أن جسدك الصغير هذا يتسع ويصير كبيراً جداً فتشعر منه كل خلية بشجْرَة النار ولسعتها وفتكها بها، وبما تحتها من طبقات الجلد، إلى أن تتمزق أنفاسك من الألم؛ فتسكن بعد حالة الجنون تلك.. فتهمُد!
ويسقط صاحبنا مكانه صامداً صادعاً بما أراد!
إن هذه النوعية من الإنسان نوعية فذة نادرة، هذه النوعية يقوم على أمثالها التاريخ، هذه النوعية هي أجدر نوعية لحمل هدف أو عقيدة والمضي بها في الصعاب والمهالك حتى إيصالها للمراد.
وكمسلمين نعرف أن هذه النوعية هي أجدر نوعية لحمل هذا الدين، تلك الأرواح الحية الرقيقة النابضة التي تتألم لآلام البشر، القوية الصلبة العنيدة فيما تريد.. هذا الدين الذي يألم أهله لآلام البشر ويوجب عليهم مداواتها..
ما تحرّق له قلبي هو أن هناك ديناً لا يعلم عنه هذا الشاب حق العلم، هناك ديناً يقدّر هذه المشاعر الراقية الرافضة للشر، فيوجهها في اتجاهها الصحيح فتموت في السبيل الذي يليق بها وبسموها!
شاب في عمر الزهر المتفتح، في مهنة مرموقة وسلاح مبجل في قومه، ما قدر ما حل من همٍّ بداخله ليحرق نفسه لأجل قوم ليس منهم وليسوا منه.. وبهذا الصمود؟!
إنها صرخة الإنسان..
صرخة الإنسان في عصر المادية والتوحش المنمقين الفاجرين..
إنها صرخة تشبه صرخات الجاهلية على موؤدة دُفنت حيّة.. أو كصرخة أب على ابن نُزِع منه نزعاً لربا غرق فيه ليطعمه! لم يقدر على سداد قوت فلذة كبده فذهب منه كبده! أو صرخة من فتاة يسحب منها شرفها بغياً وطغياناً.
بل صرخة تمرد عالية تأتي من أخ في هذه الإنسانية يتمرد على مكانته وصحته وعمره لأجل أخيه الإنسان.. تلك الروح الراقية.
وهل قال الله تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ إلا لحق!
وهل قال ربعي بن عامر: “جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”!
وهل البشارة بالمهدي أن يملأ الأرض عدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً إلا من هذا الظلم الظليم.. العميم!
إن صدق هذه الصرخة أن تأتي من هذا الشاب اليافع الناجح في هذا المجتمع المتقدم المتطور، فهو لا ينقصه شيء؛ فلو كانت من قومنا أو من أي قوم مسحوقين لما كشفت عن حقيقتها تلك..
إنها الصرخة التي تفلت من ذوي الإحساس حين تطعن أرواحهم، صرخة المصدوم لهذا الكذب والخداع الذي يملأ الدنيا حين يكتشف الخدعة وكم الزيف.. على عمر صغير ما لبث أن فهم العالم!.
صرخة الإنسان ليستعيد شيئاً من وادي روحه الفسيح.. هذا الوادي الذي إن ضاق خنق ففتك! فالإنسان راقٍ جداً جداً..
كائن قلبه بين أصابع الله.. فيا للشرف!
كائن يكون أشقى شقائه هو الحجب في الآخرة عن ربه العزيز الذي خلقه ونفخ روحه، ويكون منتهى سعادته في رؤيته وقربه!
مخلوق قال عنه خالقه حينما أعرض ﴿یَـٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ﴾ فيا للمكانة! ويا للخسران إن ضاعت!
إن هذه المكانة ليست للإنسان إلا في الإسلام وبالإسلام، الإسلام الذي يقول ﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ﴾.
إنه الإنسان.. مكرم في دين الله.. محفوظ عرضه ونفسه وماله، مرشَد بحكمة بالغة لأمنه وسكونه الاجتماعي والنفسي.. ممتهن مغتصب مخدوع مستدرج في شريعة البغي والعدوان والعلو..
شريعة الخبث المتلبسة بلباس الرقي.. والحداثة المخادعة الظالمة الفاجرة المفروضة قهراً.. التي تنزع الإنسان من علوه لتمسخه وتغريه لتغتصبه سلعة رخيصة ورقماً تافهاً بين مليارات الأرقام التي لا تعدو كونها أجساداً! هذا الطغيان والعلو الذي فرضه طغاة البشر على البشر، وجعلوه ثقافة وشرعة ومنهاجاً. طغيانٌ من فجوره رفع قوماً على أقوام، وكذبة على حقائق، وباطل على الحق.
هذا الطغيان المتكرر الذي أراد الله زواله فأرسل الرحمة مع نبي رحيم ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾.. معلم كريم، فصنع جيلاً يعرف هذا المعنى جيداً، يسمع هذه الصرخات جيداً فيقوم لها، جيلاً يعرف أن هذه هي رسالته التي شرف بها، جيل يعلم البشر ما هو قدرهم عند خالقهم، وكم هم مكرمون.. جيلاً يبعث الأمل ليس للمظلومين المقهورين فحسب بل للظالمين أنفسهم.. أنهم إن عادوا تطهروا وكُرموا وعادوا للكرامة التي خُلقوا عليها.
إن الله قد قدّر أن هذا الدين سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها ويعمها، وهذا لن يكون إلا بجيل على نهج الجيل الأول الذي يعرف ماذا يسمع وماذا يصنع، وقبل أن يسمع ويصنع يعرف قدره عند ربه مهما أسرف فيعود.. فربه يريده كما خلقه كريماً مكرماً.. حاملاً وناقلاً للكرامة.