
تطهير منطقة أبوقوتة في السودان من شراذم مليشيات دقلو
فبراير 9, 2025
استثمار 1.5 مليار أفغاني لإنشاء مدينة تجارية في إمارة أفغانستان الإسلامية
فبراير 10, 2025بادية شكاط – كاتبة جزائرية
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد، وبعد:
لأن عالمنا المعاصر يعيش ما يدعوه الصينيون بلعنة الأزمنة الهامة، تلك التي تجعل العالم حطبًا لنيرانٍ أوقدها الإنسان، فقد بات لزامًا التفكير في كل ما قد يسلب الشعوب حرية انتزعتها من أرض أشواكها دامية، والتأمل لأجل تحقيق التغيير الجدير الذي يرسّخ جذورها على خريطة للعالم جديدة، إنما ليست خريطة جغرافية، ولا سياسية، بل خريطة إيديولوجية، نضع فيها حدودًا للهمجية، ونؤسِّس موطنًا مشتركًا للإنسانية.
فما يحدث اليوم مِن خراب وتدمير ما هو إلاّ نتيجة حتمية لمادية طافحة، رأت العالم جسدًا بلا روح، فحين تَخلّص هذا العالم مِن قداسة المقدّس وجلال السلطة كما يُسمّيها (كانط)، أصبح يؤسِّس لآلهة أخرى بديلة تشعره أكثر بالحرية، فلم يجد غير ذاته، فراح يقيم لها معبدًا من الماديات، أو ذهب ليغرقها في الروحانيات، فأسَّس للدين جمهوريات، فصار العالم كما قال الفيلسوف “شايغان” مقسَّماً بين عالم ديني هو باطن العالم، وعالم مادي هو ظاهره.
ولأنّ العالم الغربي هو العالم المادي، والعالم الشرقي هو العالم الروحي، فقد أصبح ما يحدث من أزمات مردّه الأول هو ذاك الصراع، وإن تستَّر بطابع سياسي، أو اجتماعي أو اقتصادي، فهو في النهاية تدفّق لسيل من الأفكار، تمامًا كما تتجمع الأنهار، لتصب في البحار.
فكانت تلك الأيديولوجيات بمثابة انهيار العالم، والذي يدعوه الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو بالأنطولوجيا الضعيفة، أي أنّ الإنسان قد أُشرب تلك المادية، فأفرغ نفسه من روحه، فصار كآلة تقوم بأدوار دون أن تعي المعنى، وهذا بات لنا واضحًا، جليّا، إنما الضبابي غير الجلي هو ذاك الحراك الخفي، المتداخل بين روح الشرق ومادية الغرب، وأنّ هاته الأدوار سوف تُتداول بعد بلوغ سقف الامتلاء، سواء منه الامتلاء المادي أم الروحي.
وليس ذلك بالصدمة المدهشة، بل هي طبيعة سائدة في نقلات الفكر الإنساني، والذي لن يسكن حتى يتعادل طرفا الميزان الروحي منه والمادي، وذلك بالفصل بين الإيديولوجي والديني، غير أن هناك من اختلطت لديهم المفاهيم، وصارت عقولهم في كل وادٍ تهيم، فيكفّرون كل مَن نطق اسم عالم غربي على لسانه، أو ردّد فكرة من أفكاره في خلده، فصار حتى المنطق يخضع للجغرافيا، فهناك من المناطق منطقها محظورًا ولو كان الأصوب، ولديننا أقرب.
إن هذه النظرة التفكيكية التي سادت فكرنا المعاصر، أضحت بحق خطرًا حقيقيًا يتهدّد بُنى الوعي التحتية، التي ترتكز عليها مفاهيم كثيرة، من بينها مفهوم الانتماء، ففي الجزائر مثلاً حتى الفئة المثقفة ومن حيث لا تدري راحت تمدّ أسباب القطيعة موصولة، بين الشعب الجزائري الواحد، وكأننا نعود إلى الفكر الكولونيالي القديم، الذي يريد بالتباين بين العرب والأمازيغ إحداث التقسيم. والذي كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الوعاء الذي بوعيه جمع جميع الجزائريين، والوتن الذي حفظ وشائج هذا الشعب العربي والأمازيغي، والوتد الذي دقت عليه مسامير الهوية جميع الثوابت: الدينية، واللغوية والوطنية. يقول مؤسسها ورائد النهضة الإسلامية في الجزائر العلامة عبد الحميد بن باديس:
“إنّ الشعب الجزائري خليط بين عرب وأمازيغ، أبوه الإسلام وأمه الجزائر”.
ويقول أيضًا خليفته في رئاسة الجمعية، المفكر الجزائري البشير الإبراهيمي:
“وإنّ اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها ويصل بين نكرات القلوب فيعرفها هو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة، ولكن التمسوها في الدين والقرآن تجدوا الأفق أوسع”.
إنّ التفكك الحقيقي الذي ينبغي أن نخشاه على الأمة الإسلامية، إنما هو التفكك السياسي، حين نحيد عن هدفنا المشترك في افتكاك الحرية، وبناء صرح الديمقراطية الحقيقية.
أما ما يراد لنا من انقسامات إثنية فلا يختلف في غاياته عن سايكس بيكو، رغم أنها وإن كانت تجزئة للرقعة الجغرافية العربية، تبقى مجرد مجازات قطيعةٍ فارغة، يحاولون إثباتها جُزافًا بتأشيرات وجوازات، يمكن تجاوزها إذا قرّرت الدول العربية ذلك، لأن السماء المشتركة التي تجمع الدول العربية أكبر من الأرض، فالإسلام هو المظلة الواسعة والحقيقة الساطعة التي تذوب تحتها كل التفكيكات والإثنيات، يقول عليه الصلاة والسلام وهو حامل رسالة هذا الدين العظيم: “يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُم”.
فالهوية التي تهوي بنا في براثن اللا إنسانية لا تختلف عن الصهيونية التي تريد أن تبني وجودها على جثث الفلسطينيين، ولا نراها إلا عقلاً أداتيًا كما تدعوه مدرسة فرانكفورت، يرتكز على:
1. تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة، ثم يعجز عن إعادة تركيبها.
2. النظر إلى الإنسان باعتباره جزءاً مادياً كبقية الأشياء المادية في الكون.
3. اعتبار الطبيعة والإنسان مجرد وسائل وأدوات لخدمة المصالح والأهداف.
4. تلخيص الهدف من الوجود في الهيمنة، ولو بدحر كل ما تبقى لأجل البقاء.
أما تمزيق الهُوية مع عالمية هذا الدين فليس بالأمر اليسير، كما أنّ كل عصبية قبلية ما هي إلا جلب للعصا والاستعباد بقابلية، ولا تختلف عصبية عرق أيًّا كان عن العصبية النازية المستعلية، ففرق بين أن تكون أنت كما أنت، وأن تجعل من نفسك أنت المحور الذي حوله البقية يدورون، وفرق بين أن تكون ضمن الإنسانية العالمية، وبين أن تكون أنت الإنسان الذي يريد أن يتضمن معالم كل إنسان.
فالعقل الأداتي للأسف يفرض قواعد للسيطرة على جميع ظواهر الإنسان، فيصبح عاجزًا تمامًا عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والتاريخية في سياقها الشامل، الذي يتخطى حدوده المباشرة، ويعجز عن فهم الغائيات الكلية، بتجاوز المعطيات الجزئية الآنية، ويصير غير قادر على تجاوز الحاضر للوصول إلى الماضي، أو لاستشراف المستقبل، فيسقط في اللا تاريخية، إذ هو غير قابل إلا لقبول الواقع كما هو، والتكيّف مع الوقائع، وإن كان واقع قهر وتشيّؤ.
فحتى في سعيه إلى الحفاظ على الثوابت والهوية، نراه يثبّت دعائم السلطوية والاستبداد، ويكبح كل نزعة إبداعية تتمرّد على المألوف.
ففي أمتنا الإسلامية لحل إشكالية الهوية، علينا عدم الانجراف خلف أصحاب العقل الأداتي، ولنمتلك العقل النقدي؛ فنتساءل:
1. ما جذور الانقسام بيننا نحن المسلمين؟
2. لماذا لم تظهر تلك الانقسامات أثناء الخلافة الإسلامية؟
3. هل الأفضل أن نجتمع على كلمة سواء أم أن نتعامل مع بعض تعامل الأعداء؟
4. كيف يمكن لراية لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ أن توحدنا؟
5.كيف نحارب الإسلاموفوبيا وننشر السلام في العالم من خلال دين السلام الإسلام؟
6. ما مساحات الاختلاف المسموح بها، التي لا تفقدنا وحدتنا العقدية وتبقينا في دائرة الاختلاف الفرعية؟
أما من يدّعي بأنّ قبولنا لاختلافاتنا الإثنية في رقعة جغرافية واحدة تحت مظلة إسلامية بأنه كسر للهوية، لا يختلف برأينا عن شيخ يفتي ببطلان صلاة جماعة لمجرّد اجتماع مصلين من العرب والعجم.
إنّ الهوية بنظرنا أشبه بصورة فوتوغرافية تحفظ نفس الملامح الشخصية، في نفس اللحظة الزمنية، غير أن مرور الزمن قد يغيّر الملامح دون أن يمحوها، وأنها مشترك إنساني لا يمكن أن يتناقض معها المشترك الديني الإسلامي.
فكما كان نبينا ﷺ قرآنًا يمشي على الأرض، على المسلمين أن يكونوا بالقرآن يمشون على الأرض، فنحن أمة جمعت بين الظاهر والباطن، بين الروح والمادة، ولهذا الله عز وجل قد جعل الأنبياء بشراً ظاهرين ولم يجعلهم ملائكة لا تَبين، ولن يكتمل لنا استقلال ولا تتضح لنا شخصية إلا إذا كنا في تدافع عن كل من يجهزون على ديننا.
وأختصر كل ذلك بقول الغزالي رحمه الله: “الاسلام هو قلب تقي وعقل ذكي”.
فلنعتز بأنّ الإسلام رسالة عالمية، ورحمة وإنسانية.
قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
فلنجعل رسالة الإسلام تناطح السماء وتنافس الشمس في الجلاء.