من الهند إلى فرنسا .. انتفاضةُ أمة وذكرَى بطل
فبراير 5, 2024افتتاحية العدد الثاني
فبراير 5, 2024الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أعتقد جازمًا أن كل مسلمٍ – مهما كان حاله – يحب النبيّ ﷺ، ويغار عليه، ويضعه في أفقٍ سامٍ، لا يرقى إليه راقٍ، ولا يبلغه أملُ آمل.
وأعتقد أن هذا الحب ضرورةٌ شرعيةٌ، لا يكون أحدُنا مسلمًا بدونها، وأنَّ قدْرَ الحب يكون بقدر المعرفة، فكلما عرفته ﷺ أكثر، وتتبعت سيرتَه الزاكيةَ أكثر، زادت محبته، وارتفع منسوبها في نفسك، ثم إذا أحببته ﷺ وعرفته اتبعته، وأحببتَ أن تحذو حذوه، لتحشر معه يوم القيامة، اللهم اجعلنا من رفقائه في الجنة يا كريم!
فإذا جاء من يسُبُّ النبي ﷺ، أو يتنقص قدْرَه، فلا يلامُ المسلمُ أن يغضبَ وينفعلَ، لأنه يغضب لحبيبه ﷺ ودينه وشرعه وعقيدته.
لكني ألومه إذا جاءت غيرته وغضبته هوجاءُ حمقاءُ، أو شفويةٌ لفظيةٌ، أو دفقةٌ مؤقتةٌ انفعالية، ليس لها مضمونٌ ولا أثرٌ، كحال كثيرٍ من غضباتِنا العربيةِ المجيدةِ التي تُسفِر – عادةً – عن… لا شيء! كحال هذا العربي الذي أوسع اللصوص ذمًّا، وأودوا بالإبل.
وفي مقابل ذلك، لا يفاجئني مَن لم يعرف النبي ﷺ من غير المسلمين – إذا سَبَّ أو أساءَ – فهذا كثيرٌ، ومتتابعٌ، وتاريخيٌ، منذ اللحظة الأولى للجهر بالإسلام، حين قال الأحمقُ أبو لهب للمصطفى ﷺ: (تبًّا لك! ألهذا جمعتنا)؟!
ثم تتابعت الإهانات والافتراءات، حتى قالت العرب عنه بأبي هو وأمي: كاهن/ ساحر/ شاعر، مجنون/ طالب ملك/ طالب مال، وأشد من ذلك، حين تآمروا عليه فداه أبي وأمي ليقتلوه، أو يُثبِتوه، أو يُخرجِوه.
ويستمر التقبيح عبر التاريخ، ليتركز في القرن العشرين من خلال السينما والراديو، والصحافة وأفلام ورسوم الكرتون، حتى أيام التعيس سلمان رشدي، والأتعس تسليمة نسرين، والإخوة الأشاوس علاء حامد، ونوال السعداوي وحيدر حيدر، الغبي الذي كتب: اخرأ باسم ربك! وصولًا إلى كاريكاتيرات الصحف الأوروبية المتطاولة على المقام المحمدي السامق، في السنين (الثلاثين) الأخيرة.
شهادات المنصفين:
لكن هذا السرد لا ينسيني – ولا يجوز – شهاداتِ مجموعةٍ من المنصفين من النصارى وغيرهم لصالح الإسلام والنبي ﷺ، حين أسبغوا عليه من صفات العظمة والنبل والرحمة والفضل ما هو به جدير.. وشاعت في الناس شهاداتُ كثيرٍ من المفكرين والعظماء الغربيين في هذا الباب، ربما أتناولها في ملفٍ لاحقٍ، كما أُلِّفت كتبٌ، ودُبجت مقالاتٌ، بأقلام عددٍ من النصارى العرب، في فضائله ومناقبه ﷺ، وجدير بالذكر هنا أن الناقد والأكاديمي والمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور حلمي القاعود كتب رسالته في الدكتوراه حول هذا الموضوع: (محمد ﷺ في الشعر الحديث) وتناول هذا الموضوع في أحد أبوابه، وقد استفدت منه في كلامي هذا.
لقد كتب الدكتور نظمي لوقا ثلاثةَ كتب في الإسلام شهيرة هي: وامحمداه، ومحمد: الرسالة والرسول الذي قرَّرتُه وزارة التربية والتعليم على مدارس الجمهورية العربية المتحدة في مصر وسوريا، وأنا والإسلام. كما كتب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وله دراسات إسلامية أخرى.
ود. نظمي لوقا – كما تَرجَمت له إسلام أونلاين – مَسيحَيٌّ من مصر، يتميز بنظرته الموضوعية، وإخلاصه العميق للحق. ورغم إلحاحِ أبويه على تنشئته على المسيحية منذ كان صبيًّا، فإنه كثيرًا ما كان يحضرُ مجالسَ شيوخ المسلمين، ويستمع بشغف إلى كتاب الله تعالي، وسيرة الرسول عليه السلام؛ بل إنه حفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز العاشرة من عمره.
وكتبَ بعضُ نصارى الشام كتُبَا مشابهة، كما فعل الأستاذ نصري سلهب في كتابه: على خطى محمد ﷺ، وكما كتب الأستاذ خليل إسكندر (دعوة نصارى العرب للإسلام) والأستاذ خليل الطوال (تحت راية الإسلام) ولبيب الرياشي (نفسية الرسول العربي) وهي كلُّها كتبٌ مُنصِفَة، تصف النبي ﷺ بما فيه من الحق والخير. كما أن ربنا تبارك وتعالى مدحَ طائفةً من القسّيسين المنصفين، الذين عرفوا قدر النبي ﷺ وفضله، فقال سبحانه:
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ٨٢ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ٨٣ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ٨٤﴾ [المائدة: 82-84]
والحق أنني لا أريد الكلام عن هذا الجانب الآن، ولا أتوسع فيه، فقد تكلم كثيرون فيه، بل أريد أن أقف أمام رؤية أخرى أكثر رهافة ورقة، هي رؤيةُ بعضِ الشعراء والمبدعين، من العرب غير المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وصحبه، إذ كتب كثير منهم – خصوصًا نصارى الشام – قصائدَ تنضحُ حبًّا، ومودةً، وإعجابًا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وسأسوق هنا نخبة من الأشعار المعبرة الرقيقة التي قيلت، لأعكس جانبًا قد تُغطِيه الفورةُ العاطفيةُ القائمة، التي لا تعجبني كثيرًا، لأنها لا تكفي إطلاقًا للدفاع عنه ﷺ، إذ يحتاج الأمر إلى تصحيحٍ واسع للصورة من خلال قنوات التأثير كلها: الدبلوماسيةِ، والأكاديميةِ، والإعلاميةِ، والشعبيةِ، والاقتصادية، والفنية، وغيرها، مع التخطيط لذلك، والتنسيق له، وطول النفس فيه، ودعمه بصورة رسمية وشعبية مؤثرة.. فأما الاكتفاءُ بفورة انفعاليةٍ وقتيةٍ بهذه الشكل، فهو أُدخل في باب (الخيبة القوية) والأداء السلبي الذي اشتهرنا به بين الأمم، إذ تَزيد من استفزاز الآخرين، وتحرضُّهم ضد الإسلام، وتَزيدهم سعارًا على سعار، وسوءًا على سوء!
ورقة بن نوفل رحمه الله تعالى ورضي عنه أول نصراني محب:
على كل حال! لتكن وقفتنا مع الشعر والشعراء المعجبين بسيد الخلق محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والذي بدأ مع أول نصراني ساند الإسلام على الإطلاق، وهو سيدنا ورقة بن نوفل رضي الله عنه، أول نصراني أسلم، والذي وعد أن يدافع جهدَه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، حين اصطحبت أمُّنا العظيمة خديجة رضي الله عنها رسول الله ﷺ أول الوحي إليه. وكان ورقةُ قد تنصر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته العظيمة أمُّ المؤمنين خديجة بما أخبرها به رسول الله ﷺ أنه رأى وسمع، فقال ورقة بن نوفل: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ ، والذي نفس ورقة بيده: لئن كنتِ صدقتِني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر، الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبيُّ هذه الأمة، فقولي له فليثبت. وجعل ورقة يستبطئ الأمر، ويتحرق شوقًا لمزيد من دلائل النبوة، وفيوض الوحي، ويقول حتى متى!؟ وكان مما قال في ذلك:
لججتُ وكنت في الذكرى لجوجا لهمٍّ طالما بعث النشيجا
ببطن المكَّتين على رجائي حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبَّرتِنا من قول قس من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود فينا ويخصِم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياءَ نورٍ يقيم به البريةَ أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارًا ويلقى من يسالمه فُلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم شهدتُ فكنت أوَّلهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ولو عجت بمكتها عجيجا
وله أشعارٌ أخري غير هذه لا داعي لإيرادها، لأفسح المجال للشعراء المعاصرين من غير المسلمين، ورأيهم في سيدنا المصطفى ﷺ.
الشاعر الألماني الكبير: يوهان فولفجانج فون جوته
ومن الذين أُعجبوا كل الإعجاب بمحمدٍ ﷺ وكتبوا عنه، الشاعر الألماني الكبير جوته (28 أغسطس 1749 – 22 مارس 1832) الذي ظهر إعجابه الشديد بالدين الإسلامي وبالرسول الكريم من خلال أشعاره، وأعماله الأدبية مثل “تراجيديا محمد” ذلك الكتاب الذي انقسم إلى فصلين:
الأول تحدث فيه عن بعثة محمدٍ ﷺ، أما الفصل الثاني فقام بتصوير معاناة الرسول أثناء تبليغه الرسالة، وما قاساه من المشركين خلال ذلك.
كما اختص جوته الرسول محمدًا ﷺ بقصيدة مدح طويلة، مشبهًا إياه بالنهر العظيم، الذي يَجرُّ معه الجداول والسواقي في طريقه إلى البحر، كما قام بكتابة مسرحيةٍ أيضًا عن الرسول، ولكنها لم تكتمل بسبب وفاته، وقد وُجد بعضُ المخطوطات لهذه المسرحية التي عمد فيها إلى التأكيد على أن محمدًا ﷺ، جاء بأفكار جديدة لنشر الإسلام، وروح المساواة والإخاء في العالم.
ولقد كنت في مسقط رأسه فرانكفورت أوائل سبتمبر 2020، فما كان يُعقل ألّا أزور دارَه ومتحَفه؛ ذلك الرجل الذي أسلم لسانه، وهفا قلبه، وغرّد شعرًا عن النبي ﷺ، وعن الإسلام والقرآن، وهو رابع العظماء الأربعة في الأدب الغربي: صاحب الإلياذة الإغريقي هوميروس، أقدمُ نصٍّ أدبي مكتوب في الأدب الغربي، والإيطالي صاحب الكوميديا المقدسة دانتي أليجيري، وأخلد شعراء بريطانيا، الشاعر الشهير وليم شكسبير!
وهو بالتأكيد مختلف مميز عن أولئكم جميعًا؛ فإلياذة هوميروس ملأى بالوثنية، والآلهة التافهة التي تتصارع وتغار وتخطف نساء بعض! ودانتي أليجيري وضع النبي محمدًا ﷺ في سواء الجحيم، للعذاب الأبدي! وشكسبير مسرحي فانتازي بدرجةٍ كبيرة، وقد اتهُّم بالانتحال وسرقة أعماله، (فرغم أنه كتب عشرات المسرحيات والسونيتات (الشعر الغنائي)، فإن نسبة هذه الأعمال إليه ظلت محل شكٍ ومثار جدلٍ، منذ العثور على رسالةٍ في أرشيف معاصرِه الكاتب البريطاني روبرت غرين (15581592)، تضمنت هجومًا شرسًا على شكسبير، واتهمته بالسطو على نصوصٍ أدبيةٍ للغير. ونُسبت أعماله لكتـّاب أمثال: فرانسيس بيكون، وكريستوفر مارلوي، بل وإلى الملكة إليزابيث الأولى)!
وسر اختلاف جوته عن أولئكم؛ أنه ممن افتتنوا بالقرآن، ومن الذين أُعجبوا كلَّ الإعجاب بمحمدٍ ﷺ وكتبوا عنه! وقد أظهر إعجابه الشديد بالدين الإسلامي، وبالرسول الكريم، من خلال أشعاره، وأعماله الأدبية مثل “تراجيديا محمد” ذلك الكتاب الذي انقسم إلى فصلين: تحدث في الأول عن بعثته ﷺ، أما الفصل الثاني ففيه تصوير لمعاناة الرسول عليه السلام أثناء تبليغه الرسالة، وما قاساه من المشركين خلال ذلك!
كما اختص جوته الرسول محمدًا ﷺ بقصيدِة مدحٍ طويلة، مشبهًا إياه بالنهر العظيم، الذي يجر معه الجداول والسواقي في طريقه إلى البحر، كما كتب مسرحية أيضًا عن الرسول ﷺ، توفاه الله قبل إتمامها! وقد وُجدت بعض المخطوطات لهذه المسرحية، التي عمد فيها إلى التأكيد على أن محمدًا ﷺ جاء بأفكارٍ جديدةٍ لنشر الإسلام، وروحِ المساواة والإخاء في العالم!
ومما قاله في الإسلام في ديوانه الشعري (الديوان الشرقي)، الذي ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي: “إذا كان الإسلام معناه أن نُسْلِمَ أمرنا لله، فعلى الإسلام نعيش ونموت جميعًا”.
وقد اعتقد أناس أنه أسلم، حتى إن أستاذة الأدب الألماني كاترينا مومزن قالت: “إن علاقة جوته بالإسلام ونبيه الكريم ظاهرة، مدعاة للدهشة في حياته، فكل الشواهد تدل على أنه في أعماقه شديد الاهتمام بالإسلام، وكان يحفظ عشرات من آيات القرآن الكريم”!
وكتبت الأستاذة مي كمال الدين عنه في موقع محيط:
في قصيدته التي جاءت في أول كتاب “المغني” تحت عنوان “الهجرة” أشار الشاعر إلى رغبته في أن يهاجر كما هاجر محمد ﷺ من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة! يقول:
الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر/ والعروش تُثل، والممالك تتزعزع وتضرب/ فلتهاجر إذن إلى الشرق في طهره وصفائه/ كي تستروح جو الهُداة والمرسلين/ هنالك، حيث الحب والغناء/ سيعيدك ينبوعُ الخضر شابًّا من جديد/ إلى هنالك، حيث الطهر والحق والصفاء/ أود أن أقود الأجناس البشرية/ فأنفذ بها إلى أعماق الماضي السحيق/ حين كانت تتلقى من لدن الرب وحي السماء بلغة الأرض/ دون تحطيم الرأس بالتفكير!
وقد نظم جوته في سن الثالثة والعشرين قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد ﷺ، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن “يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة، التي أنزل فيها القرآن على النبي ﷺ”.
وفي إعلانه عن صدور كتابه “الديوان الشرقي” قال إنه “لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم”، كما يقول عن القرآن الكريم إن أسلوبه “محكم، سامٍ، مثير للدهشة، وفي مواضع عديدة يبلغ قمة السمو حقًّا” ويشير الكتاب إلى أن المعتقدات الإسلامية الواردة في القرآن كانت تتفق مع معتقدات جوته الدينية والفلسفية، ومنها فكرة التوحيد، والاعتقاد بأن الله تبارك وتعالى يتجلى في الطبيعة، وأنه سبحانه يخاطب البشر على لسان الرسل.
ومن الدلائل التي تسوقها كاترينا مومزن على ارتباط جوته بالقرآن الكريم الرسالة التي بعث بها إلى هردر عام 1772 حيث كتب جوته من مدينة فتسلار قائلًا: “إني أود أن أدعو الله كما دعاه موسى عليه السلام في القرآن:
﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي٢٥﴾ [طه: 25]
وكان جوته يقتبس معاني بعض آيات القرآن الكريم في مقطوعاته الشعرية الحكمية، فيقول في أحد أشعاره التي جاءت في شكل رباعيات أضفى عليها صيغة الدعاء:
يريد الضلال أن يربكني/ لكنك تعرف كيف تهديني/ فإن أقدمتُ على عملٍ أو أنشدتُ شعرًا/ فأنر أنت لي جادّةِ الطريق!
ومن أشعار جوته أيضًا، التي تأثر بها بالقرآن الكريم:
هو الذي جعل لكم النجوم/ لتهتدوا بها في البر والبحر/
ولكي تنعموا بزينتها، وتنظروا دائمًا إلى السماء!
بطاقة شخصية
شهدت مدينة فرانكفورت الألمانية ولادة الشاعر الألماني العظيم يوهان فولفغانغ فون غوته Johann Wolfgang von Goethe في 28 أغسطس 1749 22 مارس 1832! وهو أحد أشهر أدباء ألمانيا المتميزين، ترك إرثًا أدبيًا وثقافيًا ضخمًا للمكتبة الألمانية والعالمية، وكان له بالغ الأثر في الحياة الشعرية والأدبية والفلسفية،. وما يزال التاريخ الأدبي يتذكره بأعماله الخالدة التي تحفل بها أرفف المكتبات في العالم كواحدة من ثرواتها، وقد تنوع أدب غوته ما بين الرواية، والكتابة المسرحية، والشعر، وأبدع في كل منها، واهتم بالثقافة والأدب الشرقيين، واطلع على العديد من الكتب؛ فكان واسع الأفق، مقبلًا على العلم، متعمقًا في دراساته!
ونظرًا للمكانة الأدبية التي مثلها غوته تم إطلاق اسمه على أشهر معاهد لنشر الثقافة الألمانية في شتى أنحاء العالم معهد غوته الذي يعد المركز الثقافي الوحيد لجمهورية ألمانيا الاتحادية، الذي يمتد
نشاطه، في العالم كله.
كان جوته من أسرة بروتستانتية، وعمل والده مستشارًا للقيصر؛ حيث كان متعلمًا وطموحًا، ودرس اللغة الإنجليزية في وقتٍ مبكرٍ من حياته، ثم التحق بجامعة ليبزيج سنة 1765 لدراسة القانون، ثم واصل دراسته 1770م في مدينة ستراسبورج، ثم استقرَّ في منصب قانوني بالقصر الإمبراطوري بالمدينة، في عام 1781م درس جوته علم التشريح والعظام، بينما درس الجيولوجيا عام 1782م، ولكنه ترك دراستها بعد أن عيَّنه الإمبراطور جوزيف الثاني وزيرًا، ثم رقَّاه إلى رتبة نبيل، وزار مدينة البندقية 1786م، وتعرَّف فيها على زوجته كرتسيان فولبيوس التي أنجب منها ابنه الوحيد!
استقر فيلسوفنا في هايدلبرج عام 1775م؛ ليكون مستشارًا مفوضًا لدى وريث عرش فايمر الألمانية الشرقية، شارل أوجست، الذي رقاه إلى وزير مكلف بالشؤون الثقافية والمعادن والغابات، وكانت هذه هي آخر كلمات نطق بها جوته: (انقطعت الأنوار)، وفاضت روحه إلى بارئها يوم 22 مارس 1832م.
لم يكن جوته مجرد شاعر عادي يسجل خواطره وأفكاره من خلال قصائده الشعرية، وكتبه الأدبية، بل مال إلى التبحر في مختلف العلوم، فانكب دارسًا العلوم والفنون المختلفة وعكف على تعلم اللغات بمساعدة والده؛ فدرس اللاتينية، واليونانية، والإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية، والعبرية، كما سعى للتعرف على ثقافات أخرى، فتعمق في الأدب الشرقي، مطلعًا على الأدب الصيني والفارسي والعربي، بالإضافة لتعمقه في الفكر الإسلامي، ولم يكتف غوته في مجمل اطلاعه على الثقافة العربية والشعر العربي، فقط بل اطلع على كتب النحو والصرف متلهفًا وساعيًا نحو المعرفة، ما أهلته ليكون شاعرًا متمكنًا، واسع الثقافة، مطلعًا على العديد من العلوم.
تنوعت مؤلفات جوته بين الرواية والقصيدة والمسرحي، ومنها: آلام الشاب فرتر، ونزوة عاشق، والمتواطئون، وجوتس فون برليخنجن ذو اليد الحديدية، وكلافيجو، وإيجمونت، وشتيلا، وإفيجينا في تاورس، وتوركواتو تاسو، ومن قصائده بروميثيوس، وفاوست “وهي ملحمة شعرية من جزأين”، والمرثيات الرومانية، وسيرة ذاتية بعنوان من حياتي: الشعر والحقيقة، والرحلة الإيطالية، والأنساب المختارة. كما قدم واحدة من أروع أعماله وهي “الديوان الغربي والشرقي” والذي ظهر فيه تأثره بالفكر والإسلامي، ولعل غوته هو أول شاعر أوروبي يقوم بتأليف ديوان عن الغرب والشرق مجسدًا قيم التسامح والتفاهم بين الحضارتين!
اللغة العربية في حياة جوته
مما قاله جوته في وصفه للغة العربية: ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط، مثلما حدث في اللغة العربية، وإنه تناسق غريب في ظل جسد واحد”، وقد عكف جوته على دراسة الشريعة الإسلامية دراسة متعمقة، واطلع على الأشعار والملاحم العربية، وتأثر بعدد من الشعراء مثل المتنبي، وقام بإدراج بعض من ملامح أشعاره في روايته “فاوست”، كما تأثر بأبي تمام، والمعلقات السبع، فقام بترجمة عدد منها إلى اللغة الألمانية عام 1783 م بمساعدة معلمه هيردر، وقرأ لفحول الشعراء مثل امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وعنترة بن شداد، وزهير بن أبي سلمى وغيرهم، وكانت للأشعار والمفردات العربية تأثير بالغ على أشعار وأدب جوته.
وفي سياق اهتمامه باللغة والآداب المشرقية أصدر جوته عام 1819 ديوان شعري بعنوان (الديوان الغربي الشرقي)، أراد من خلاله تقريب المسافات بين الغرب والشرق، واطلاع الغربيين على الآداب الشرقية. صدر الديوان في 12 كتابًا وموضوعًا، تأثر فيه جوته بديوان حافظ الشيرازي. وإلى جانب القصائد احتوى الديوان على ملاحظات وتعليقات تساعد في الفهم، وتلقي الضوء على تاريخ الآداب العربية والفارسية والعبرانية.
توفي في الثاني والعشرين من مارس 1832 بفايمار، في الثانية والثمانين من عمره، بعد أن أثرى المكتبة
الألمانية والعالمية بالعديد من المؤلفات الأدبية القيمة، وقد كان له أثرٌ كبيرٌ في الحياة الأدبية في عصره؛ ما أهله لأن يظل التاريخ يردد اسمه كواحد من أعظم الأدباء. ومن شعره:
باسمِ الذي (أوجدَ نفسه!)/ ويعيشُ مهنةَ الخلق منذُ الأزَل!/ باسمه هو الذي يُبدع الإيمانَ/ والثقةَ والحبَّ والنشاط والقوةَ!/ باسمِ ذلك الذي، غالبًا ما يُذكرُ/ لكنَّ جوهرَه يظلٌّ غَامضًا أبدًا:/ على امتدادِ السمْعِ والبصر/ لا تجدُ شيئًا معرُوفًا يماثله!/ وأسمى تعالٍ ناري لعقلك/ يكتفي بالرَّمز، ويكتفي بالصورة/ يجتذبك ويقودك في بِشْر!/ فيزهو لك الطريق والمكان أنى اتجَهْتَ!
ومن شعره:
لله المشرق.. لله المغرب
والأرض شمالًا.. والأرض جنوبًا
تسكن آمنة.. بين يديه
هو العدل وحده
يريد الحق لعبده
من مائة اسم من أسمائه
تقدس اسمه هذا
آمين
بيت جوته ومتحفه