شبهات الصهاينة في احتلال الأرض المقدسة والردّ عليها
مايو 20, 2024ما ذنب المسلمين المستضعفين في بقاع الأرض؟!
مايو 20, 2024في بدايات صيف 1954م أعلنت كلية الطب عن رحلة لفريق الجوالة إلى عدد من الدول العربية هي لبنان وسوريا والأردن وفلسطين.. والضفة الغربية لم تكن احتُلت بعد.
المدينة المقدسة تبدو هادئة حزينة، والبيوت تعروها سمة العراقة والقدم، تماماً كالفقير المعتز بنفسه! والسور الضخم الذي يفصل بين القدس القديمة (العربية) والقدس الجديدة واليهودية، يعتليه عدد قليل من الجنود العرب، يروحون ويجيئون في تكاسل وملل وقد اغبرت ملابسهم، وندى العرق جباههم، وحركة المارة بطيئة، وهم قليلو العدد، والسوق المركزي القديم المغطى، يتسم بشيء من الحركة والضوضاء القليلة؛ حيث تباع المفارش والمنسوجات المطرزة والمصنوعات الصدفية والمعدنية وغيرها.
وتصادف أن وجدنا اشتباكاً محدودًا بين عدد من الشباب، لم تتبادل فيه سوى التهديدات الكلامية، وكنا كعادتنا، رغم ذلك نضحك أو نتبادل طرفة من الطرائف، وكان مرافقنا الفلسطيني طالباً في كلية هندسة القاهرة، قدم لقضاء إجازة الصيف في مدينته، كان يسير أمامنا رصيناً صامتاً، على وجهه سمات الجد والرزانة، واضعاً إحدى يديه في جيب سرواله، ثم التفت إلينا في جد وهو يسير، وقال في اقتضاب: “من المنتقد جداً أن تضحكوا على هذه الصورة في الشارع، إن مدينتنا لم تتعود على ذلك وتراه عيباً.. ألا ترون؟ الناس كأنهم في مأتم طويل”.
أدركت على التو ما يعنيه، إن المأساة التي يعيشها الشعب هنا، قلما تدفع الابتسامة لتظهر على الشفاه، ونحن لسنا أقل ألماً ممن يعانون تحت سماء المدينة، لكن عاداتنا في التعبير قد تختلف بعض الشيء، لكننا على الفور التزمنا بنصيحته، ورأينا أنه على حق، فإن المدينة تقع تحت نيران العدو مباشرة، واليهود لا يخفون أنهم سوف يجتاحونها في يوم من الأيام، بل ويعتبرونها عاصمة إسرائيل المقدسة رغم أنف العالم كله.
وذهبنا لزيارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة، أية مشاعر تجتاح الإنسان المؤمن وهو يخطو داخل فناء المسجد العريق، حيث يفوح عطر التاريخ، وأيام المجد العظيمة، إنه القبلة الأولى للرسول الأعظم محمد بن عبد الله وللمسلمين، وإليه كان مسراه، وما أكثر ما شهد هذا المسجد من أحداث تاريخية كبرى، إبّان الحروب الصليبية وحروب الاستعمار الحديث!
الضجة التاريخية الكبرى تخفت الآن، لكن شيخ المسجد العجوز ذا اللحية البيضاء، ما زال يبتسم ويأمل، ويحدثنا عن الذكريات وأيام الجهاد المرير والدم المراق، والزمان الذي يتغير، والموازين التي تميل والمستقبل الغامض، وانفراط عقد العرب، وضعفهم وهوانهم، وأرانا آثار الطلقات النارية في قبة الصخرة.. ولم تفارقه الابتسامة الوقورة.
ثم ذهبنا إلى (كنيسة القيامة) ذات الكنوز الأثرية الضخمة، وأخذ القساوسة يحدثونا عن الماضي الزاهر، والحاضر المؤلم، والمستقبل المجهول، وأشاروا إلى الثقوب التي أحدثتها طلقات الرصاص في النوافذ المغلقة دائماً، والتي لا يسمح اليهود لهم بفتحها أبدًا.
ونظرنا من خلال الثقوب.. ورأينا جزءاً من شوارع القدس الجديدة (اليهودية)، كانت شوارع نظيفة مرصوفة، والفتيان والفتيات يسيرون متشابكي الأذرع والأيدي يمرحون ويعبثون، والجنود متربصون هناك بأحدث الأسلحة، وعيونهم على القدس العربية!
وفي (بيت لحم) كانت زيارتنا لكنيسة المهد، حيث وُلد عيسى عليه السلام.. الراهبة تجلس في صمت وخشوع، ولا تكلم أحداً، وهذا باب خشبي قديم يقولون إنه الباب الخاص ببيت يوسف النجار، وتماثيل عدة لمن كتبوا الإنجيل، ولعيسى وحوارييه وللعذراء..
وقبل أن نأخذ الصور التذكارية أخذ أحد القساوسة يحدثنا عن الخطر اليهودي المحدق وعن الذكريات الكئيبة التي تبعث الألم في النفوس. وكيف أن اليهود لا يؤمَن جانبهم، وأنهم لا يحترمون الأديان، ولا مقدسات الشعوب الأخرى.
وتيسرت لنا زيارة مدينة الخليل، وصلينا في مسجدها الشهير، وشاهدنا المقابر التاريخية، كما استقبلنا رئيس بلديتها الشيخ محمد الجعبري آنذاك، وتناولنا على مائدته العامرة طعام الغداء، ووقف بيننا خطيبًا، وإلى جواره عدد من رجال الحرس يطلقون الرصاص، كأنما يؤكدون وجودهم واستعدادهم لليوم المرتقب، وأذكر أن الشيخ قال في خطبته: “لن نغادر هذه المدينة إلا جثثًا هامدة إذا ما تعرضت لغزو إسرائيلي آخر”.
لكن الحظ لم يحقق أمله فقد غادروها في عام ١٩٦٧ فيما بعد بسلام إلى المملكة الأردنية، وتسلم إحدى الحقائب الوزارية فيها.. لكن الرجل -والحق يقال- كان كريماً في حفاوته بنا، بليغاً في خطابه الوطني، جهوري الصوت واثق النبرات، لدرجة أنه أسال منا الدموع.. وكنت لأول مرة أتناول الطعام على الطريقة العربية التقليدية، ولم أدرِ كيف أبدأ، لكن أحد الضباط كان معنا، ثم رأيناه يشمر عن ساعده، ويدس يده في الأرز واللحم، ويقول: وهكذا تفعلون.
وانطلقنا إلى منطقة (باتير) و(سور باهر)، ووقفنا خلف الأسلاك الشائكة، التي تفصل بين العرب واليهود، وأخذنا نرقب جموع العساكر اليهود على الجانب الآخر في كامل العدة والسلاح، وفي الجانب العربي لم نرَ إلا بضعة أنفار يرتدون الملابس العسكرية المتواضعة ويحملون السلاح القديم، وكان واضحًا أن أي هجوم صهيوني غادر مفاجئ لن تواجهه مقاومة تُذكر.. قلت هامساً لأحد الإخوة في مداعبة: أستطيع أن أسبب مشكلة بين اليهود والعالم العربي .
قال وهو يرمقني في دهشة: وكيف؟ !
أُطلق رصاصة واحدة صوب اليهود.. فتقوم المعركة!
نظر إليّ ساخراً وقال: “يعملونها الصغار.. ويقع فيها الكبار”. وأخذ يضحك في مرارة.
وقيل لنا إن مؤتمر الشعوب الإسلامية -ومقره القدس- سيقيم لنا حفلة عشاء، فذهبنا إلى هناك في المساء، كان المقر بيتاً عتيقاً يبدو أنه بُني منذ مئات السنين، وكان ضيق الحجرات والأبواب والنوافذ، وأرض مكونة من قطع حجرية ملساء تشبه الرخام، وليست برخام، كانت المائدة متواضعة، بها كثير من الفواكه، وقليل من الطعام، ويجلس في الصدارة الأستاذ سعيد رمضان عضو الإخوان المسلمين البارز، وكذلك الأستاذ كامل الشريف المجاهد المعروف في فلسطين والقنال، ووزير الأوقاف الأردني بعد سنوات نجيب جويفل وهو من شباب الإخوان المعروفين، وقد دار حوله كثير من الجدل.
وكان هؤلاء وغيرهم قد غادروا مصر بعد أن أيقنوا من سوء نوايا الحكام، وتوقعوا أن الضربة سوف توجَّه إلى الجماعة إن عاجلاً أو آجلاً، فتركوا مصر لكي تكون لديهم حرية الحركة، ولعلهم يستطيعون أن يؤدوا واجبًا ولو إعلامياً إذا ما حاقت المحنة بالإخوان.
وقد رافقونا في كثير من الجولات في أنحاء الضفة الغربية بالذات، وشرحوا لنا الكثير عن الأوضاع الفلسطينية والعربية بوجه عام، وكانوا مجمعين على أن مطامع اليهود لن تقف عند حد، وأنهم لابد وأن يستأنفوا سياستهم العدوانية في التوسع والتهام الأرض العربية قطعة قطعة، ولم تكن منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة (عرفات) قد ظهرت بعد، كما كانت الأوضاع شديدة التوتر في مصر، وهي القاعدة العربية الكبرى، ودولة المواجهة الأولى.
وعلى شاطئ البحر الميت انتحى بي نجيب جويفل جانباً، ولم يكن بيننا صلة مباشرة سابقة، كنت أسمع عنه وأراه أحياناً في المركز العام، لكنه لم يكن يعرفني، لكن الأيام التي قضيناها في الضفة الغربية والأردن أتاحت فرصة للتعارف السريع. وعندما أصبحنا وحيدين أخذ يسألني عن الأوضاع في مصر، وأخذت أفيض في الشرح، وهو يناقش ويستفسر، ولعله ظن -وبعض الظن إثم- أنني قد أكون واحدًا من أعضاء النظام الخاص، والدليل على ذلك أنه أخذ يلمح بأنه لا أمل في التفاهم مع عبد الناصر، وأنه أصبح عقبة في طريقة الدعوة، وأنه يتخذ أبشع الأساليب وأظلمها في التصدى للجماعة، دون وازع من ضمير، أو قانون، ويريد أن ينفرد بحكم استبدادي مطلق، ويرى في الإخوان القوة الوحيدة التي تحاول تحجيمه، أو تعديل مسار طموحاته الخطرة، وقال نجيب جويفل بصوت خفيض هادئ: يجب التخلص منه بأي شكل .
وصمتّ.. لم أعلق بكلمة واحدة.. كنت أظنه ممن يملكون صنع القرار في الجماعة وإن ثبت العكس بعد ذلك، وخاصة بعد أن أشيع عنه أنه يتعاون مع السلطة في مصر، ويلعب على الحبلين.. والله وحده يعلم الحقيقة.
استطعنا خلال تلك الأيام القليلة، أن نلم بالكثير عن الأوضاع العربية الفلسطينية، وأن نجمع الكثير من المعلومات، وكثير من تلك المعلومات قد زرع في قلوبنا الألم ولا أقول اليأس، إن الصراعات الدامية تنتشر هنا وهناك، والانقلابات ومحاولات الانقلابات نسمع أو نقرأ عنها، والصراعات الفكرية أيضًا بين الأحزاب والجماعات تشتعل في كل مكان، وقوات الاحتلال ما زالت رابضة في كثير من البلدان العربية، وإسرائيل تنمو وتقوى ونحن ننكمش ويكاد الغموض يلف كل شيء..
الصدام في الداخل.. والصدام في الخارج وعلامات السياسية تختلف من كاتب لآخر، ومن مكان لمكان، وعلاقات النهضة الحديثة تهتم بالقشور دون اللباب، والشعارات تزحم الآفاق، كلام كثير وفعل قليل…
وعدنا مرة أخرى إلى بيروت كي نتخذ طريقنا بحرًا إلى مصر، واستغرقت رحلة العودة من ميناء بيروت إلى القناة أقل من يوم.. ولم أحمل معي سوى الذكريات وهدايا قليلة للأهل والأصدقاء.
كنت مضطرباً بعض الشيء، فإن ما تكتبه الصحف خارج مصر، غير ما تنشره الصحف المصرية، إن أمورًا هامة لابد وأن تحدث على الساحة السياسية في مصر، وخاصة بعد أن وقّع الثوار والإنجليز على اتفاقية الجلاء.. نعم الجلاء “الناقص” حسب نصوص الاتفاقية، والذي كانت نتيجة غير كاملة لدماء الشهداء والأبرار في منطقة القنال، والذين كانت غالبيتهم العظمى من الإخوان.. وبات واضحًا أن (جمال) سوف يتفرغ للقضاء على مناوئيه -في السلطة- حسب تصوره.. وهم الإخوان، وكانت كل الأحداث والشواهد تؤكد ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــ
د. نجيب الكيلاني، طبيب وأديب مصري يُعد منظّر الأدب الإسلامي، تُوفي: 1995م، من كتابه: مذكرات، ط: كتاب المختار، 2006م. ص150-153.