
وحدة الأمة.. من ثمرات رمضان
أبريل 8, 2025
دوافع الصهاينة لنقض الهدنة وتجدد الحرب في غزة
أبريل 9, 2025في غمرات الطوفان (6)
محمد محمد الأسطل – من علماء غزة
ما زال الحديث موصولاً عن ثمرات الطوفان، وكنا قد تناولنا ثمراته داخل غزة، ثم شرعنا في الحديث عن ثمراته على المستوى الإقليمي، ثم على المستوى الدولي، وأخذنا من هذا المستوى الأخير ثمرتيْن.. فالآن نستكمل الحديث ونختمه عن ثمرات الطوفان.
الثمرة الثالثة:
إبطالُ الروايةِ الصهيونية، وجمعُ العالم على القضية الفلسطينية بما يُؤذِنُ بنوعِ إمامةٍ لأهلها لو أحسنوا استثمار الحدث.
وإبطال الرواية الصهيونية عُلِمَ بما تقدم.
وأما جمع العالم على القضية الفلسطينية فما أحسب أنه تيسر لقضيةٍ إسلامية أن تجتمع عليها قلوب سكان الكوكب كما حصل في هذه المرة، وهذا كله خادمٌ في التحولات على مستوى التفاصيل.
وما أريد إبرازه هنا هو أنَّ الشعوبَ المسلمةَ متعطشةٌ لمن يمسك بيدها ويأخذ بها في مشروع التحرر الحقيقي من الاحتلال بالوكالة، والتحرر كذلك من التبعية الدولية، ولو بأن يمثل لها ومضةً مشرقةً على الطريق.
والحديث هنا بوضوحٍ عن الدولة التي يمكن أن تمثل قائد الأمة الإسلامية، بحيث تكون بمثابة السراج المنير لها، والتي تتابع أحوال الشعوب ولو على وجهٍ مُجمَل، وتتبنى قضاياهم، وتستفرغ غاية وسعها في حل مشكلاتهم، وتمثل لهم أملًا في التحرر يومًا ما، وإن لم تتمكن من ذلك كله فلا أقل من بعض ذلك ما أمكن.
وقد كان بإمكان ثلاث دولٍ إسلاميةٍ القيام بهذا الدور القيادي الكبير، إلا أنه لم تنجح أي دولةٍ حتى الآن في ذلك، مع أن المنصب لا زال شاغرًا.
ومن عدد سنين بدأت الأنظار تتجه جهة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس لأخذ جرعاتٍ من التفاؤل والأمل، فجاءت هذه المعركة تضخ كمياتٍ جيدةً على هذا الصعيد.
والتركيبة السياسية للبلد والمعطيات الاستراتيجية لا تُمَكِّنُ غزةَ من القيام بدورٍ قائدٍ للأمة، إلا أن قدرًا جيدًا من التأثير يمكن إنجازه على هذا الصعيد بما حصل لهذه البقعة من اجتماع القلوب عليها، لا سيما وأن القتال لا ينحصر توصيفه بقتال مسلمٍ لكافر فحسب؛ بل الكافر هنا هم اليهود أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، والمعركة تجري في بيت المقدس، وعنوانها المسجد الأقصى الذي كان قبلة المسلمين في صلاتهم قبل المسجد الحرام، فالسياق مرتبطٌ بالعقيدة وقدسية الأرض المقدسة التي بارك الله فيها للعالمين.
والبركة هنا هي التي تفسر جملة هذه الآثار والثمرات، فهذا البلد ليس من عواصم الأمة بالمعنى الاستراتيجي المادي؛ ولهذا ما يقرر فيه ليس بالضرورة أن يعود بالتأثير المادي على غيره بخلاف الحال في مصر مثلًا، إلا أن الله جعل التغير هذه المرة حاصلًا بصورة هائلة من البوابة المعنوية.
والذي أخشاه ألا يعي قادة هذا البلد هذه الرسالة جيدًا فلا يعطوا هذه الثمرة قدرها من الاستثمار حين تنتهي المعركة.
وعلى كلٍّ؛ فالمقصود أنَّ هذه الثمرة وغيرها من جملة الثمرات التي تقدمت سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو العالمي ما كانت لتحصل لو تم سحق البلد والقضاء على كلمة الجهاد فيه؛ ولكن ثبات أهل غزة والشمال أولًا، ثم الثبات الأسطوري للمجاهدين في العُقَد والأنفاق والمواقع، وإثخانهم في عدوهم هو الذي عمل عمله حتى عاد بالتأثير على صناع القرار في العالم.
ولئن مد الله في العمر وتشخصت هذه الآثار بمزيد بيانٍ سيعجب المجاهد كيف استعمله ربه في تغيير معادلاتٍ كبرى وموازين ضخمة وإنهاكٍ للإمبراطورية العظمى التي تحكم العالم بما لم يكن يخطر له ببال، بل إني لأحسب أن بعض الثمرات ربما ما كانت تخطر لمن أخذ قرار المعركة ببال، ولكن البشر أدواتٌ في تنفيذ القدر.
وهذا كله من البركة التي جعلها الله لأهل هذا البلد.
ولعل من الأحاديث التي ترمز إلى ذلك ما جاء عند الترمذي عن واثلة بن الأسقع t قال: سَمِعتُ رَسولَ الله r يقول لحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل وهما يستشيرانه في المنزل، فأومأ إلى الشام، ثم سألاه فأومأ إلى الشام، قال: “عَلَيْكُم بِالشَّام؛ فَإِنَّهَا صَفْوَةُ بِلادِ الله، يُسْكِنُهَا خِيرتَهُ مِن خَلْقِهِ، فَمَن أَبَى فَليَلْحَق بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْقِ مِن غُدُرِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأهْلِهِ”([2]) صححه الألباني.
وصفوة القول:
إنَّ رجالَ هذا البلد يُعِيدُون بجهادهم وثباتهم صياغةَ الشخصية الإسلامية بالهوية التي تعاند الكفر وأهله، وإنهم قد نجحوا في توريث المسلم قدرًا عظيمًا من الهيبة في ظل الغطرسة الغربية التي تستخف بالمسلمين والعرب.
وهذا كله يصب في مشروع الانبعاث الإسلامي الكبير عقب الزلزلة التي تعرض لها عددٌ من الشعوب إبان إجهاض ثورات الربيع العربي، وفشل أكثر التجارب الإسلامية التي وصلت إلى الحكم، ولكن لهذا شروطٌ وضوابط ومحددات لتجاوز الإفشال المعتاد ليس المقام له الآن، وقد بسطت القول فيه في كتاب: “سبائك الشيطان” يسَّر الله نشره.
وبين يدي الختام:
هذا ما خطر بالبال مما جرى به القلم، وأحسب أن تتبع الثمرات أمر يشق، وإنما كتبته لغلبة من يُركز على البلاء وينسى فضل الله وما أكرمنا به ربنا من أصناف العطاء.
وإنه في كلِّ حركةٍ تحررية يوجد مثبطون، كما يوجد من لا يدرك من المشهد إلا الخسارة، ولكني ذكرت في المدخل أنَّ شدةَ البأس وضراوة المعركة بما فيها من مجازر ومشاهد إبادة تجعل هذا أمرًا متفهمًا سواء على صعيد العامة أو على صعيد الخاصة والنُّخَب.
وإنَّ مصيبتنا هي في فقد الرجال، بأكثر من مصيبتنا في فقد البيوت والمنازل والمساجد، ومع ذلك فالمؤمن قويٌّ بالله، وحسبنا أنه لم تحصل مصيبةٌ إلا وقد جاء ذكرها في القرآن ليكون المؤمن أكثر استعدادًا لما يعرض له في سبيل الله.
وهذا من الثمرات العلمية للمعركة؛ إذ كانت تمثل فرصةً ضخمةً لتلقي حقائق الدين في أرض المعركة، فباتت المعركة كأنها كتابُ تفسيرٍ لكثيرٍ مما يتلوه الإنسان في كتاب الله.
ومن ركز على جزءٍ فقد فاتته أجزاء.
ولا يعني هذا إهمال النظر النقدي؛ فإنما هو مما يتأكد لتقويم التجارب والأعمال، ولكن الكلام في وقت المعركة كلام نصرة لا كلام تقييم، وإني لأرجو أن تكون هذه المعركة بما تثمره من ثمراتٍ من المعارك الإسلامية الكبرى في هذا العصر، حتى إذا امتد الزمان صار من مناقب الرجل أن يكون قد شهد هذه المعركة، فكيف لو كان قد ضرب فيها بسهمٍ كريمٍ على صعيد الجهاد أو الإغاثة أو غير ذلك من الثغور!
أما الرأي الشخصي المتعلق بالمعركة المتصل بالثمرات الذي وعدت بذكره في الختام فخلاصته ما يلي:
إنَّ عمليةَ السابع من أكتوبر هي عمليةٌ كبرى بالنظر إلى قواعد اللعبة والاشتباك مع العدو على مدار عقود الاحتلال، بل هي عملاقةٌ بالنظر إلى بعض المراحل عقب تأسيس الكيان سنة 1948، إلا أنها -في نظري- عمليةٌ عاديَّةٌ محدودةٌ بالنظر إلى الناحية الاستراتيجية في عالم المعارك والحروب، وهي ليست إلا تجاوزًا للحدود، ومهاجمةً لعدد من القواعد العسكرية وقتلًا لعددٍ كبيرٍ من الجنود، وأسرًا لعددٍ جيدٍ كذلك، ثم العودة إلى القواعد بسلام بعد أن قضى بعض المجاهدين نحبهم في الهجوم ورجع من بقي ينتظر.
وكان بإمكان قادة العدو أن يردوا بحربٍ مجنونةٍ تمكث شهرًا أو شهرين، تتوقف عند إنجاز أهدافٍ محسوسة؛ كقتلٍ عددٍ من قيادات الصف الأول، وهدم أكبر قدرٍ ممكن من المقرات الحكومية والمساجد والبيوت وما إلى ذلك، ثم يتم تنفيذ صفقة مقسطة عبر مدةٍ طويلة يصبرون فيها على تجرع مقادير من الذل، ولكنها تبقى عمليةً محدودةً في إطار المشاغلة التي تتصاعد يومًا بعد آخر.
إلا أنَّ العدوَّ وضع أهدافًا كبرى يعلم كلُّ مراقبٍ أنها ليست بالإمكان أن تحصل، حتى إن الرئيس الأمريكي بايدن نبههم على ذلك وحذَّرهم من مغبته في أول زيارةٍ له عقب العملية.
وانطلق الرد الصهيوني بدافع الانتقام، ولم يكن خاضعًا للحسابات الاستراتيجية؛ وإنما للفرار من الاعتراف بالهزيمة، والخروج من حالة الإذلال الذي مثلته العملية، وهذا حال من غلبت نفسُهُ عقلَه.
ومع تطاول الأيام والمحافظة على نفس السقف؛ بل وزيادته في بعض الأحيان.. تم تحشيد العالم كله ليتابع الحرب، ويقف على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها، وتم الشحن النفسي لشعوب الأمة، وحصل طوفانٌ هادرٌ في الوعي، وما زال العناد الصهيوني سيد الموقف!
وصارت العملية مع الأيام تُمَثِّلُ رمزيةً كبرى، حتى لكأنها في نفسها من الأحداث الضخمة بحسب موازين المعارك والحروب، وأحيطت بهالةٍ أكبر منها، وهذا كله من شأنه أن يُحَوِّلَ نتيجةَ المعركة إلى هزيمةٍ استراتيجيةٍ بعد أن كان بالإمكان حصرها في هزيمةٍ تكتيكية محدودة، ويؤسسَ لفكرة التهديد الوجودي للعدو ويجعله قريبًا من الأذهان.
ونظرًا لحركة الاصطفافات فإنَّ الولايات المتحدة قد أخطأت الحساب حين دخلت كشريكٍ في المعركة دون أن تكتفي بمقعد المصلح الذي يتوسط الأطراف الذي تعتاد ممارسة الدجل فيه، ولكن الكيان الصهيوني استطاع أن يجرها، وهي تقدمت للمعركة مُخَدَّرةً تحت عنوان حراسة الوكيل الغربي في الشرق، لتأخذ هي الأخرى جرعةً جديدةً من الإذلال بعد الجرعة الكبرى التي تلقتها مؤخرًا في أفغانستان على يد طالبان.
والذي يقع في صدري أن نتنياهو بهذا الغباء المتدثر بالذكاء لم يكن إلا أداةً في تنفيذ قدر الله؛ لتحصل جملة الثمرات العظيمة التي كانت الأمة في غاية التعطش لها، والتي ما كانت لتجتمع بعد حالة الركود إلا بحدث كبير يمثل شرارة الانبعاث.
وأما من ذهب من الرجال فعزاؤنا -وإن لم يكن لهم عِوَضٌ في أمدٍ قصير- أنهم شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، وأما البنيان الذي تهدم فتبنيه السواعد المؤمنة بإذن الله.
ومن المعاني التي تتقرر عادةً على لسان علماء العقيدة: أنه لا يصدر عن الله إلا خيرٌ محض، وليس في الأرض شرٌّ محض، وقد قال الله في خصوص القتال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
ومن الرؤى التي يحصل الاستئناس بها: ما حدثني به الشيخ الفاضل أبو البراء حلس وفقه الله أن رؤيا جاءته قبل الحرب، وأذكر مما قاله لي أن شخصًا رأى النبي r في المنام، وهناك أعداد كثيرة من الرجال والنساء والأطفال كانت تأتي وتقف خلفه، فيقول له قائل: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: هؤلاء شهداء غزة أخرج في استقبالهم.
وكانت هذه الرؤيا قبل المعركة بقليل.
ومن عجيب ما وقع لي أن الشيخ محمد حِلِّس أبا البراء وفقه الله كلمني قبل المعركة بنحو شهر، وقال لي: سجلت مقطع فيديو يتعلق بتفسير رؤيا وأريد أن أستشيرك في نشره، فقلت: أرسله.
واستمعت إليه، وكان يتكلم فيه عن رؤيا بلغته تعبيرها يفيد بأن حدثًا ضخمًا سيأتي البلد، ويمثل زلزالًا كبيرًا لا نظير له فيما سبق قط، ولا تعد جائحة كورونا بما حصل فيها من رعبٍ في بداياتها بالقياس مع هذا الحدث الضخم بشيءٍ.
وأعترف أني كنت أستمع للفيديو وأشعر كأني في فيلم آكشن من الأفلام التي يتعاظم فيها خيال البطش والتدمير!
ثم أرسلت له: يمكن أن تنشر الفيديو؛ لأنه جارٍ على قواعد التعبير فيما حصل عندي من الظن بناءً على ما أسمعه منه من قواعد التعبير، ولكني نصحته أن يضيف جملةً في الختام فيها نوع مواساة للناس إذا نزل بهم هذا الحدث الضخم الذي تُنبئ به الرؤيا.
ثم إني نسيتُ الأمر تمامًا، وجاءت المعركة ولم يخطر لي ببال، إلى أن قَدَّرَ الله والتقيت بأبي البراء بعد مدة طويلة من اندلاع المعركة، وحين التقينا قال لي: أتذكر ما استشرتك به؟!
فقلت له: ما تذكرت إلا الساعة، ولولا أنك ذكرتني ما أحسب أني كنت أذكر!
والرجاء أن يكون هذا القدر من القدر الذي يغلب ما فيه من الخير على ما فيه من الشر، ويزيد ما فيه من العطاء على ما فيه من العناء، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
[1] تنشر مجلة “أنصار النبي” على حلقات متتالية، كتاب: في غمرات الطوفان: آمال تتدثر بالآلام” للشيخ الغزي الفقيه محمد بن محمد الأسطل –حفظه الله- وهو الكتاب الذي سطره صاحبه تحت القصف والموت والدمار في غزة، ونشره على قناته على التليجرام. وهو مادة نفيسة نرجو أن يهتم بقراءتها كل من كان يهمه أمر المسلمين.
وقد كان الشيخ محمد بن محمد الأسطل من الكتاب الدائمين لمجلتنا، مجلة “أنصار النبي” حتى حال الطوفان بينه وبين الاستمرار في ذلك، نسأل الله تعالى أن يمتعنا بالشيخ وعودته القريبة إلى أحبابه، وأن يمتعناً جميعاً بنصر قريب في غزة وسائر بلاد المسلمين.