
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا: سَتُغْلَبُونَ﴾
أبريل 14, 2025
أولئك آبائي.. كلمات في رثاء محدّث الأمة وحامل همومها الشيخ الحويني
أبريل 16, 2025عماد إبراهيم – مدير مشروع بصيرة الدعوي
ما بالُ شَهْرِ الصَّوْمِ يَمْضِي مُسْرِعًا ** وَشُهُورُ باقي العامِ كَمْ تَتَمَهَّلُ
يا خَيْرَ مَنْ نَزَلَ النُّفُوسَ أَرَاحِلٌ ** بِالأَمْسِ جِئْتَ فَكَيْفَ سَتَرْحَلُ!
ها قَدْ رَحَلْتَ يا حَبِيبُ، وَعُمْرُنَا ** يَمْضِي وَمَنْ يَدْرِي أَأَنْتَ سَتُقْبِلُ
فَعَسَاكَ رَبِّي قَدْ قَبِلْتَ صِيَامَنَا ** وَعَسَاكَ كُلَّ قِيَامِنَا تَتَقَبَّل
يا لَيْلَةَ الْقَدْرِ الْمُعَظَّمِ أَجْرُهَا ** هَلِ اسْمُنَا فِي الْفَائِزِينَ مُسَجَّلُ؟
ها هو الضيف الكريم والذي حلَّ عزيزاً غالياً، عظيم الأجر جميل الذكر يغادرنا سريعا كعادته؛ تودعه القلوب والدموع والجموع؛ فطوبى لمن أحسن ضيافته وكان فيه من المقبولين، ورغم أنف من ضيعه وأمسى من المحرومين .
و لما كان رمضان يمثل مدرسة لإعداد النفوس، وتهيئة القلوب كان لا بد من طلب استدامة ذلك بعد مُضيّ أيامه وتصرّمها؛ لأنّ مَن فاز في رمضان واغترف من نهره الجاري وتجول في بستانه يكون حاله بعد رمضان أفضل من قبله وهذه من علامات القبول.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “الصوم جُنة من آفات الدنيا، ورياضة للنفس، وتحريرٌ للقلب من أَسْر الشهوات”. إن شهر رمضان ليس موسماً عابراً للعبادات الظاهرة، بل هو محطةٌ سنويةٌ لإعادة تشكيل الهُوية الإيمانية للمسلم، وفرصةٌ لاستعادة الفطرة النقية التي أرادها الله للإنسان.
إذا كان للأزمان أرواحٌ تتجسد، وإذا كانت للشهور أشكالٌ تتحدث، لكان رمضان ذلك الرجل النبيل الذي يطرق الأبواب في صمت، حاملاً معه نفحات الخير وأريج البركة، لينير القلوب الموصدة ويُحيي النفوس الظمأى. قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185]، فهو شهر الهداية والنور، ولو تجسد في صورة إنسان، لاتخذته خليلاً، لا لشيءٍ إلا لأنه يأتي كالنور في ليل حالك، يُضيء الدروب ويهدي التائهين إلى سبيل الرشاد.
يا له من خليل كريم، يزورنا في كل عامٍ دون كلل أو ملل، يحمل في جعبته الرحمة والمغفرة والعتق من النار! يقول النبي ﷺ: “إذا جاء رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النارِ، وصُفِّدَتِ الشياطينُ”. فهو الضيف الذي لا تُغلق دونه الأبواب، بل تُفتح له المضائف، وتُعد له الموائد، وتُزين له القلوب قبل البيوت، رمضان موسم الخيرات، وميدان السباق إلى الجنات، فهو لا يطلب شيئاً سوى أن نُحسن استقباله، وأن نقبل على ما يحمل من خير عظيم، إذ يجود بما لا تُحيط به العقول ولا تُدركه الأحلام.
أي قلب لن يحن إلى هكذا خليل؟!
يقول النبي ﷺ: “المرءُ على دين خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخالل”. هل تخيلت يوماً لو أن رمضان كان رجلاً فهل تتخذه خليلاً لك؟! ومن منا لا يتمنى أن يكون رمضان له خليلاً؟! كيف لا، وهو ذلك الخليل الذي يُربت على أكتاف المتعبين، ويمسح دموع الحزانى، ويُعانق المنكسرين برفق، فيُعيد إليهم الأمل المفقود. ولكان الصديق الذي يعاتبك بحب ليُصلح مسارك، ثم يعانقك بعفو ليبعث فيك الأمل من جديد.. أي قلب لن يحنّ إلى خليل كهذا؟! فرمضانُ هو النور الذي يُعيد للنفسِ توازنها، وللقلب صفاءه، فكم من نفس ضاقت بها السبل، فجاءها رمضان كالدواء الشافي، يُعيد ترتيب أيامها، ويُنظم أنفاسها، ويُذكرها بقوله تعالى: ﴿فَإن مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5-6]
ولو تجسدَ رمضان في صورة إنسان، لكان ذلك الرفيق الذي يُحب لك الخير كما يُحبه لنفسه، بل أكثر. يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: “رمضانُ فرصةٌ لمن أرادَ أن يتطهرَ من أدرانِ الدنيا”، فهو يُريك أن الجوعَ نعمةٌ إذا صبرتَ، وأن العطشَ مدرسةٌ إذا تأملتَ، ويأخذُ بيدك إلى عالم تتساوى فيه النفوس أمام خالقها، ولا تتمايز إلا بالتقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. ويا لروعة أخلاقه لو كان رجلاً! فهو لا يُعاتب من أهمله، ولا يُقاطع من قصر في حقه، بل يظل وفياً، يعود كل عام بنفس البسمة والعطاء. يقول النبي ﷺ: “من صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبهِ”.
فهو يُعيد فتح الصفحة البيضاء أمامك لتكتب فيها ما شئت من أحلام وآمال. وحين يحين موعد رحيله، يترك في النفس أثراً لا يُمحى، وفي القلب شوقاً لا ينقضي. نودعه بعيون دامعة، نرجو أن نلقاه في العام القادم ونحن على العهد معه.
رَمَضَـانُ دَمْعِـيْ لِلْفِرَاقِ يَسِيْلُ ** وَالْقَلْبُ مِنْ أَلَمِ الْـوَدَاعِ هَـزِيْلُ
رَمَضَـانُ إِنَّكَ سَـيِّدٌ وَمُهَـذَّبٌ ** وَضِيَـاءُ وَجْهِـكَ يَا عَزِيْزُ جَلِيْلُ
رمضان ثورة
إذا كان رمضان خليلاً عزيزاً، فكيف لنا أن نُفارقه دون أن نحمل معنا شيئاً من روحه؟ إن الخليل الحق لا يُنسى بمجرد الوداع، بل يبقى أثره حياً في النفس والسلوك. يقول ابن القيم رحمه الله: “العاقلُ من جعلَ رمضانَ بدايةً للتغييرِ، لا نهايةً للطاعةِ”، فلا ينبغي أن نعود إلى ما كنا عليه من غفلة وانتكاسة، بل علينا أن نُحافظ على ما تعلمناه من هذا الخليل النبيل.
إن رمضان شهر تُفتح فيه أبواب الجنان، لكن أبواب التغيير تبقى مفتوحة لمن أراد. والتحدي الحقيقي ليس في بلوغ ليلة القدر وفقط، بل في جعل كل الليالي قدراً، وكل الأيام رمضان في الجوهر. فرمضان ليس طقساً، أو مناسبة عابرة. بل هو مشروع ثورة داخلية تُعيد ضبط بوصلة النفس البشرية إلى طريق الهداية والحق.
لقد غرس رمضان في نفوسنا خيرا عظيما، صقل القلوب وأيقظ الضمائر، وطهر النفوس وأكسب الفضائل فاجعل من نسمات رمضان المشرقة مفتاح خير لسائر العام، ومنهج حياة لكل الشهور والأيام، احرص على بر الوالدين وأصلح ذات البين وصل الأرحام، وواصل الإحسان لعباد الرحمن، انصر المظلومين وواس المكروبين، أطعم المحرومين وأغث الملهوفين، واحفظ ذخيرة الفضائل وجميل السجيات، وتجمل بحسن الأخلاق وطيب العادات، كن نبعا متدفقا بالخير كما كنت في رمضان.
وداوم على تلاوة القرآن، فهو الرفيق الذي كان يُنيرُ لك ليالي رمضان، ولنُحيي الصيام تطوعاً، كما قال النبي ﷺ: “من صامَ يوماً في سبيلِ اللهِ، باعدَ اللهُ وجههُ عن النارِ سبعينَ خريفاً”، ولنُبقي أيدينا ممدودة بالعطاء، فالصدقة ليست حكراً على رمضان، بل هي شعيرة دائمة تُطهر النفس وتُقرب العبد من ربه. ومن أحبّ شيئاً أكثرَ من ذكره، فلنُكثر من ذكر هذا الخليل الكريم بالعمل الصالح، ولنجعل من دروسه منهج حياة، حتى لا نكون كمن قال عنهم النبيّ ﷺ: “رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُم انْسَلَخَ قَبْلَ أنْ يُغْفَرَ لَهُ”.
فإن أردنا أن يظل رمضان خليلنا، فلنحمل نوره في قلوبنا، ولنُحيي دروسه في أيامنا، حتى نلقاه مرة أخرى وقد أحسنا العهد معه.
أكمل المسير بعزيمة لا تلين
إن رمضان ليس مجرد ثلاثين يوماً تَمر كغيرها من الأيام، بل هو حالة إيمانية تُعيد تشكيل النفس البشرية. فيا من رأيت في شهر رمضان فرصة عابرة ثم انسلخت عن الأعمال الصالحة التي كنت مواظباً عليها فيه، هل تدرك أنك بإعراضك هذا قد جحدت نعمة الصيام وفضلها؟! لا تكن بئس العبد الذي لا يعرف ربه إلا في رمضان! واعلم أن برهان قبول العمل في رمضان يتجلى في ثباتك على ما اكتسبته من عبادات وطاعات تداوم عليها بعد انقضاء الشهر الكريم، فإذا تركناه يرحل دون أن نحمل شيئاً منه، فكأنما أضعنا فرصة عظيمة لإصلاح أنفسنا، فمن لم يشعر برمضان كمدرسة للروح، فقد فاته خير كثير.
إن استدامة رمضان تعني أن نجعل من قيمه جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، أن نعيش كما عشنا فيه من انضباط في العبادة، فالعبادة ليست مقتصرة على رمضان، بل هي طريق مستمر يجب أن نسير فيه حتى نلقى الله؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، فهو من فعل مَن بدّل نعمة الله كفرًا”.
فالاستمرار في الخير درعك الحصين أمام نداء النفس الأمّارة بالسوء، وطريقك لقهر نوازع الهوى والاستعلاء على ظلم ذاتك. فامض قدمًا في جهادك، واجعل المثابرة سلاحك، ولا تترك لليأس أو الفتور موطئ قدم في قلبك. قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبّكَ حَتّىٰ يَأتِيَكَ الْيَقِين﴾ [سورة الحجر: 99].
والحمد لله رب العالمين..