

رسالة يجب أن تصل إلى أئمة التراويح.. ما الاعتداء في الدعاء؟
مارس 15, 2025عماد المبيض – رئيس اتحاد الدعاة في لندن
أخرج أحمد عن عبيد، مولى رسول الله ﷺ، أن إمرأتين صامتا وأن رجلا قال: يا رسول الله إن ههنا امراتين قد صامتا وإنهما كادتا أن تموتا من العطش. فأعرَض ﷺ عنه أو سكت. ثم عاد وأراه وقال: بالهاجرة. قال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا. قال ﷺ: “ادعُهما”. قال: فجاءتا. قال: فجيء بقدح أو عُس فقال لإحداهما: “قيئي”. فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً حتى ملأت نصف القدح، ثم قال للأخرى: “قيئي”، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح. ثم قال: “إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا عما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس”.
شغلتنا الجزئيات عن الكليات والفرعيات عن الأصليات.
ينكر كثير منا أن يحتوي الخطاب الديني على مفردات حقوق الإنسان والمرأة والطفل وغير ذلك مما لا نظفر به في أكثر تراثنا. ثم ننقسم حيال ذلك قسمين: قسم يعمل بالمنهج القرآني فينظر ويتأمل ويدرس ويعالج الإسلام من مصدره الأمين بنفسه فهو بلسان عربي مبين ميسر، وقسم يظل على تقليده السلف فالحق ما قالوا وليس ما قال الكتاب والباطل ما نصوا عليه وليس ما نص عليه الكتاب.
يظن بعضنا أن ذلك خطاب غريب عن الإسلام أو ربما يتقرب به صاحبه إلى الخلف. فينا داء عضال ينخر منا العقول اسمه تقديم الجزئيات على الكليات والفرعيات على الأصليات؛ بل أحيانا نحكّم الأدنى في الأعلى، ومن ينقلب سلّمه الأصولي لن يظفر بحق ولا صواب.
لا غبار أبدا على أن جماع الإسلام هو تحرير الإنسان أوّلاً، فإذا تحرر آمن. ولا غبش عندي أن الكفر بالطاغوت مقدَّم على الإيمان بالله. الطاغوت الذي يتخبط فيه كثير منا اسمه التقليد وليس الاتباع. لا يتطلب الأمر شيخاً إنما يتطلب إقبالاً على المصدر الأصلي للإسلام بشرط واحد لا بد منه، هو أن تفسخ كل شيء وتنسخ فيك كل شيء لتكون في الوضع الذي به هدى الله سبحانه الصحابة، إذ أخبروا عنه عليه السلام أنه كان يفرغهم ثم يملؤهم. لو ألفاهم ممتلئين ما ملأهم، ولكنهم جاؤوا مخلصين ينشدون الحقيقة التي لفرط نقاوتها لا ترضى بالدخول على فؤاد لم يفرغ من الخبث بالكلية.
العدوان على حقوق الإنسان مفطر وناقض للصوم.
لنا فقهان: فقه الجارحة وهو المدون في بطون الكتب. وفقه القلب الذي زهد فيه الناس فلم يدونوا منه إلاّ قليلاً، منهم العلامة ابن القيم عليه الرحمة والرضوان.
هما فقهان لا مناص لنا منهما، ولكن العلم استأثر بفقه الجارحة مما دعا الإمام الغزالي إلى تأسيس مشروع إحيائي عظيم خلف لنا منه كتابه الكبير (إحياء علوم الدين). مهمة فقه الجارحة هي كمهمة قانون الطرقات بالتمام والكمال، أي يعنيه الواجب والحرام والعزيمة والرخصة والسبب والعلة والفساد والبطلان وغير ذلك.
أما مهمة فقه القلب فهي كمهمة الطبيب الذي يرشدك إلى وسائل الوقاية إن عدته في الوقت المناسب أو إلى وسائل العلاج إن عدته مريضاً.
للفقيه أن يقول إن المفطرات هي ما دخل من القوت المعتاد من الجوف المعتاد، وكلامه صحيح، ولكن عندما يتأخر فقيه القلوب الذي يقول إن العدوان على حقوق الإنسان بصريح هذا الحديث المثبت أعلاه مفطر من المفطرات، فإن الحياة الدينية تظل فينا حركات باهتة باردة، ثم تؤول الشخصية فينا إلى الانقسام والتشظي ومن هنا يتألف النفاق.
تصوير نبوي بديع يوحي بأن الفن فريضة لإبلاغ الإسلام.
هو العربي القح عليه السلام، ثم شرفه ربه سبحانه بالوحي المعصوم، فاجتمعت له الفضيلتان فتربع على عرش البشرية.
كان يمكنه عليه السلام أن ينهاهما -أي المرأتين- عن أكل لحوم الناس وخاصة في حالة صوم. لم يفعل.
كان يمكن له أن يؤنبهما بحضرة الناس. لم يفعل.
كان يمكنه أن يصور الذي صور بحضرتهما هما فحسب. لم يفعل.
كان يمكنه أن يصور ذلك التصوير الفني الكفيل بالانتهاء عن الولوغ في حقوق الإنسان بحضرة الناس ويستبعدهما. لم يفعل.
ماذا فعل إذن؟
حرص على إنجاح العرض الفني بكل أركانه مجتمعة: المرأتين والناس والقدح والقيء ومنهما معاً، ثم شفع ذلك بتعليمه، ولم يكن التعليم القولي منه إلا متأخراً عن التصوير الفني البديع.
العبد الفقير إلى ربه تعالى ينقدح في ذهنه من هذا المشهد ومشاهد أخرى من سنته ﷺ أنه ﷺ يأمرنا أمر إشارة بمعالجة الدين والدعوة بالفن؛ لأن الفن أغلب في التأثير في الناس. الفن يختصر كلاماً كثيراً كان سيقوله القائل خطباً عصماء ومثلها أسفاراً مسفرة. ثم تنتهي بنا الحالة المزرية إلى القول صراحاً بواحاً بأن الفن حرام! الفن كله! مفردة الفن نفسها مستهجنة وكلما أوغل المتدين في تدينه وظهرت عليه أماراته استقبح الفن ليتحول إلى خشبة محشرجة غليظة لا تحسن سوى: افعل ولا تفعل!
من لم يدرك أن الدعوة فن يغزو القلوب قبل الجوارح وليست هي ثكنة عسكرية في حالة طوارئ قصوى .. لا أظن أنه أدرك من الإسلام شيئاً.
تقديم حق النفس وتأخير حق الإنسان تدين كاذب وصيام مزيف.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة أنه عليه ﷺ قال: “من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
كما أخرجا عنه كذلك أنه ﷺ قال: “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم “.
الصوم حق النفس في التزكية والتطهير ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فمن ظن أنه بصومه يقدّم حق نفسه في ذلك مؤخراً حق الإنسان في عرضه أن تلوكه الألسنة أو يلوث به الحياة صخباً وسباباً حتى وهو يدافع عن نفسه مظلوماً.. فقد عصى الحديثين آنفي الذكر.