ثبات النبي ﷺ في مواجهة الأذى
فبراير 22, 2024الإسلاميون في ظلمة الاغتراب.. مرة أخرى
فبراير 23, 2024إن الرضا بمحمد ﷺ رسولاً من متطلبات صحة الإيمان، فلابد ليصح إيمان العبد من التسليم بأن محمَّدَ بنَ عبدِالله بنِ عبد المطلب بن هاشم القرشيَّ ﷺ، مبعوث من الله تعالى برسالة إلى الثَّقلين، والقناعة بذلك، والاكتفاء به، والسكون إليه وحمده، دون تسخط لذلك أو تحسر عليه أو حزن.
فهذا هو مدلول الرضا، ومدلول الرسالة، والمطلوب الرضا بمحمد رسولاً.
قال ابن رجب: “الرِّضا بمحمدٍ رسولاً يقتضي الرِّضا بجميع ما جاء به من عند الله، وقبولِ ذلك بالتَّسليم والانشراحِ، كما قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء: 65]”(1).
وقال ابن القيم: “وكيف يصح الرضا بمحمد رسولاً ممن لم يحكّمه على ظاهره وباطنه، ويتلقَّ أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده، وكيف يرضى به رسولاً مَن يترك ما جاء به لقول غيره، ولا يترك قول غيره لقوله ولا يحكمه ويحتج بقوله إلا إذا وافق تقليده ومذهبه، فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله، والمقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً”(2).
ومن هنا نعلم أهمية تعظيم السنة النبوية التي استهان بها كثير من المسلمين اليوم، إما بالتماس التأويلات للتخلص منها، أو بتركها، وربما التزهيد فيها، أو بتقديم آراء العقول والمصالح المتوهَّمة عليها، وربما تعدى الأمر إلى وصف المتمسكين بها بالتشدد والتنطع، ونبزهم بغير ذلك من الألقاب.
ونحن نعيش عصراً من ألزم ما ينبغي أن ندعو إليه وأن نشيعه فيه ونؤكد عليه كل فينة، قضية تعظيم السُّنة وقبل ذلك الكتاب، وذلك للجرأة عليهما في هذا العصر، والجرأة عليهما جرأة على الدين، وأنتم ترون كُتاب الصحافة وغيرهم من أنصاف المثقفين في وسائل الإعلام المختلفة يتناولون السنة بما يدل على ضعف في التعظيم، وإلا لو عظّموا القائل واستحضروها خارجة من فمه عليه الصلاة والسلام، لاحتاطوا قبل معارضة ظواهرها، ولو عظموا مقوله، لما اجترؤوا عليها بالسخرية والاستهزاء، والإلغاء بالتأويلات السخيفة الباردة، التي حاصلها وصف قائلها عليه الصلاة والسلام -وهو أفصح العرب- بالعِي وعدم البيان وسوء التعبير.
وتأمل تجرؤ الأقلام على الأحاديث الصحاح، كحديث “المرأة فتنة” ونحوه، وأحاديث الـمَحرَم للمرأة، وأحاديث الحجاب، وأحاديث الولاء والبراء، وأحاديث الجهاد، وأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك تأمله يَندى جبينك ويعتصر الألم قلبك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فقد تجاوز الأمر الترك والتزهيد إلى الطعن المبطن بل والصريح أحياناً. قال الذهبي: “عن أبي قلابة، قال: إذا حدثت الرجل بالسُّنة، فقال: دعنا من هذا، وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال”. قلت (أي الذهبي): “وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد، وهات العقل فاعلم أنه أبو جهل، وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر، أو قد حل فيه، فإن جبنت منه، فاهرب، وإلا فاصرعه وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه”(3).
وقد أوصى ﷺ بسنته وأمر بالأخذ بها، فقال في حديث العِرباض بن سارية الصحيح المشهور: “عليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”(4).
والله عز وجل يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 63].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2].
قال ابن القيم تعليقًا على هذه الآية: “فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله ﷺ كما يجهر بعضهم لبعض. وليس هذا برِدّة، بل معصية تحبط العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن قدَّم على قول رسول الله ﷺ وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟! أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟”(5).
ويذكر أن أبا حنيفة رحمه الله، قال لابن أبي ذئب الإمام المشهور: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ يريد حديث: “من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله قَوَد”. قال: فضرب صدري، وصاح عليّ صياحاً كثيراً ونال مني وقال: “أحدثك عن رسول الله ﷺ وتقول: تأخذ به؟! نعم، آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه، إن الله اختار محمداً من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك”. قال: وما سكت حتى تمنيتُ أن يسكت.
وقال الحميدي: روى الشافعي يوماً حديثاً فقلت: أتأخذ به؟ فقال: “رأيتَني خرجت من كنيسة أو عليَّ زُنَّار [وهو من لباس النصارى والمجوس يحزمون به وسطهم] حتى إذا سمعتُ عن رسول الله حديثاً لا أقول به؟!”.
وسُئل الشافعي عن مسألة فقال: رُوي فيها كذا وكذا عن النبي ﷺ، فقال السائل: يا أبا عبد الله، تقول به؟ فارتعد الشافعي وانتفض وقال: “يا هذا، أي أرضٍ تقلُّني، وأيُّ سماءٍ تظلُّني إذا رويت عن رسول الله ﷺ حديثًا فلم أقل به؟ نعم، على السمع والبصر”.
قال أحمد بن حنبل: “من رد حديث النبي ﷺ فهو على شفا هلكة”.
قال البربهاري في عقيدته التي كتبها في السُّنة: “إذا سمعت الرجل يطعن في الآثار أو يريد الآثار، فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع”.
وقال أبو القاسم الأصبهاني المعروف بقوام السنة: “قال أهل السنة من السلف: إذا طعن الرجل على الآثار، ينبغي أن يتهم على الإسلام”.
والمقصود لا يتحقق الرضا بمحمد ﷺ رسولاً، مع ازدراء سنته والاستخفاف بها، لا يكون الرضا بمحمد ﷺ رسولاً إلاّ مع تعظيم السنة ومعرفة قدرها كما مر في كلمة ابن القيم وكلمة ابن رجب.
وأنتم يا من أنعم الله عليكم بتعظيم السنة احمدوا الله على ما وفقكم له، فقد كان السلف رضوان الله من لدن الصحابة يحمدون الله على التوفيق إلى ما يرضي رسول الله ﷺ، كما في حديث بعث معاذ إلى اليمن، وفي بعض ألفاظه قال ﷺ: “فَإِنْ جَاءَك أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ نَبِيُّهُ وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ الصَّالِحُونَ؟”. قَالَ: أَؤُمُّ الْحَقَّ جَهْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقْضِي بِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ”(6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. ناصر العمر، مقال (رضيت بمحمد رسولاً)، موقع (المسلم)، 1431، رابط إلكتروني: almoslim.net/node/132374
(1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب.
(2) شفاء العليل، لابن القيم.
(3) سير أعلام النبلاء، 4/472.
(4) رواه أبو داود، 4607.
(5) الوابل الصيب، ص24.
(6) يُنظر: مصنف ابن أبي شيبة، 7/239، (23443).