الإسلاميون في ظلمة الاغتراب.. مرة أخرى
فبراير 23, 2024الصدقة المتعثرة
فبراير 23, 2024كان النبي ﷺ أول من يعمل بما يأمر الناس به، هذه شهادات أقرب الناس إليه ﷺ ممّن خالطوه، وعاشروه، وعرفوا دخائله، وهي تدلّ على أن سيرته الطاهرة كانت أعلى ما تكون عليه سيرة أفضل البشر، ومن أفضل سيرته وأعلاها أنه بعد ما أوحي إليه لم يأمر أتباعه وأصحابه بأمر إلا وقد سبقهم إلى العمل به، فدعا الناس إلى ذكر الله ومحبته.
ذِكر الله تعالى
ولو راقبت حياته نفسها لرأيتها ملائمة لهذه الدّعوة؛ لأنه لم تكن تمضي عليه ساعة من نهار أو ليل إلا وهو يذكر الله بقلبه، ويحمده بلسانه، فكان لسانه رطباً بذكر الله، لا يفتر عنه طرفة عين، فإذا أكل، أو شرب ذكر اسم الله، وإذا فرغ من ذلك حمد الله، وإذا أخذ مضجعه أو استيقظ من نومه ذكر الله، وإذا نهض، أو جلس سبّح الله، أو حمده، وإذا لبس جديداً شكر الله، حتى أن أذكاره ودعواته التي حفظها الناس عنه في مختلف الأحوال شغلت فراغاً واسعاً من كتب الحديث، وجمعت في كتاب (الحصن الحصين) الذي يبلغ مئتي صفحة، ومن قرأ هذه الأدعية يقضي العجب؛ ويوقن بأنه ﷺ كان يحب الله، ويخشاه، ويهاب جلاله، فكان كما وصف الله في القرآن عباده الصّالحين ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191] وكما شهدت عائشة بأنّه ﷺ كان يذكر الله، ولا يغافل عن ذكره أبداً.
الصلاةَ الصلاةَ
وأمر الناس بالصلاة، وحضّهم على إقامتها والمحافظة عليها أشدّ المحافظة، فماذا تحسبون الرسول كان يعمل في نفسه بما كان يأمر به غيره؟ إنه ﷺ كان يقيم الصلاة، ويحافظ عليها أكثر من غيره، كان المسلمون يقيمون الصلوات المفروضة خمساً. وكان ﷺ يتطوّع بالزيادة على ذلك في صلاة الضحى، وصلاة الإشراق، وصلاة التهجّد، وكان عامة المسلمين يصلون سبع عشرة ركعة المكتوبة عليهم، وكان هو ﷺ يصلي في اليوم والليلة خمسين إلى ستين ركعة من المكتوبة والنوافل. لقد سقطت عن عامة المسلمين فريضة التهجّد بعد ما فرضت عليهم الصلوات الخمس، لكنّ الرسول كان يقوم الليل، ويصلي صلوات لا تَسَلْ عن حسنهن وطولهن حتى كانت قدماه تتورمان من طول القيام، فقالت له عائشة يوما- وقد رأت ما يعاني ﷺ في قيام الليل-: إن الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، فما بالك يا رسول الله! تلقى العناء، وتتعب هذا التعب الشديد؟ فأجابها ﷺ: «أفلا أكون لله عبداً شكوراً»(1).
وكان في هذه الصلوات معنى محبة الله أغلب عليه ﷺ من معنى الخوف، فكان يطيل الركوع حتى يخيل إلى من يراقبه أنه ربما قد نسي السجود، وكان يقيم صلاته من بدء الوحي في فناء بيت الله أمام المشركين الذين كانوا يعادونه، ويؤذونه إيذاءً شديداً. وقد هجم عليه بعض المشركين وهو في الصلاة فلم يترك صلاته خوفاً منهم. وكان جنباه يتجافيان عن المضجع، وكان قليلاً من الليل ما يهجع، ويبيت ساجداً أو قائماً والناس نيام، وأشد ما يكون إقام الصلاة حين يلتقي الجمعان في ساحة الحرب، والسيوف مصلتة، والرّماح مشرعة، والقلوب واجفة، ومع ذلك فإنه إذا حان وقت الصلاة صلى منفرداً أو صلّى بأصحابه إماماً. فيتناوب بعضهم الصلاة، وبعضهم الحرب، وإمامهم ثابت في الحالين إلى أن يؤدوا فريضة الله، لا يمنعهم عنها مانع.
أيها القارئ! أحبّ أن أطوي لك من صحائف القرون السالفة ثلاث عشرة ورقة لأعود بك إلى السنة الثانية من الهجرة. فتعال معي تنظر إلى ساحة بدر: هؤلاء مؤمنون، وهؤلاء مشركون، لقد التقى الجمعان، واشتد القتال بين المشركين والمؤمنين، وحمي وطيس الحرب، أين هو الرسول يا ترى؟ هاهو ذا ساجد بين يدي رب العالمين، يدعوه ويسأله النصر المبين بقلب ذاكر، ولسان بالدعاء ناطق، وناصية لعظمة الله ساجدة على الأرض، لقد أقام الصلاة لأوقاتها، ولم يؤخرها إلا مرتين: فقد فاتته مرّة في غزوة الخندق حين تألب عليه المشركون واليهود، ولم يمهلوه حتى يؤديها في وقتها، ومرّة أدلج الليل بطوله، ثم غفا غفوة هو وأصحابه، فطلعت عليهم الشمس، ولم يستيقظوا حتى أيقظتهم بأشعتها، فقضى ما فاته من الصّلاة، ثم لم تفته ﷺ حتى في مرضه الذي توفي فيه، بل قد اشتدّ به المرض، ووهنت قوته، فخرج مع ذلك متهادياً بين رجلين من حجرته إلى أن بلغ المسجد، وصلّى مع الجماعة، وقد غشي عليه ثلاث مرات قبل وفاته بثلاثة أيام، فكان كلما همّ أن يذهب إلى المسجد غشي عليه، ففاتته الصلاة مع الجماعة، هذا ما كان عليه الرسول من عبادة الله وذكره، وهذا ما تركه خلفه لمن يتأسون به في عبادته، وذكره لله عز وجل.
يصوم حتى يُظن أنه لا يفطر
وأمر المسلمين بالصوم، وليس على المسلمين إلا صوم رمضان، ولكن ما ظنّكم بالرسول ﷺ وصومه؟ إنه قلّما يمرّ به شهر، أو أسبوع من شهر إلا كان يصوم فيه، تقول عائشة: كان ﷺ يصوم حتّى يظنّ أنّه لن يفطر (2). ونهى المسلمين عن صوم الوصال، لكنه يواصل الصوم يومين، بل ثلاثة أيام متوالية، لا يأكل فيهن، ولا يشرب، وذلك الذي يقال له صوم الوصال. وكان بعض الصحابة يحبّ أن يقتدي به في ذلك، فيقول ﷺ: «لست كأحدكم، أيّكم مثلي إنّ ربّي يطعمني ويسقيني» (3). وربما كان يصوم شهرين متواليين: شعبان ورمضان. وكثيرا ما كان يصوم الأيام البيض (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) من كلّ شهر، وكان يصوم ستّا من شوال، ويوم عاشوراء من المحرم، وكثيراً ما كان يصوم يوم السبت ويوم الخميس من كلّ أسبوع، كذلك كان دأبه وهديه في الصّوم.
“وتُكسب المعدوم”
وأمر المسلمين بإيتاء الزّكاة، وإنفاق المال في الخير، لكنّه بدأ ذلك بنفسه. وقد علمت شهادة أم المؤمنين خديجة له في ذلك يوم قالت له: إنك تحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتكسب المعدوم، إنه لم يأمر الناس بأن يتبعوه في ترك الدّنيا، ولم يقل لهم ضحّوا بكل ما في أيديكم من أموال، ولم يخبرهم بأنّ ملكوت السّماوات موصدة أبوابه في وجوه الأغنياء، وإنما الذي أوصاهم به أن يتصدقوا ببعض أموالهم كما قال الله عز وجل: ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُون﴾َ [البقرة: 3].
هذا بينما رسول الله نفسه لم يكن يدّخر من المال شيئاً في بيته، بل كان ينفق في سبيل الله جميع ما كان يملكه، ولم يكن قليلاً ما كان يأتيه من خمس الغنائم من ذهب، وفضة، ومتاع، وغيره من عَرَض الدنيا، فكان يخرج عنه كله لغيره من الفقراء والمساكين، ولم يكن يتمتّع هو ولا أهل بيته بمتع الحياة الدنيا، فكان حظه وحظّ أهل بيته من الدنيا الفقر والتعفف، وكان من سنته بعد أن فتحت أرض خيبر أن يوزّع على أزواجه من الطعام والحبوب ما يكفيهم عاماً، لكنه قبل أن ينقضي العام كان ينفد ما وزعه على أزواجه، فيمسهم الجوع والسغب(4) ؛ لأنه كان ينفق على المحتاجين وعلى الضيوف مما يجده في بيوت أزواجه، يقول عبد الله بن عباس: إنّ رسول الله ﷺ كان أسخانا وأجودنا، وهو أسخى ما يكون في شهر رمضان، ولم يقل لسائل: «لا» قطّ طول حياته، ولم يأكل شيئاً وحده مهما كان قليلاً، بل يشرك فيه أصحابه، وقد آذن الناس أن «من مات وعليه دين فدينه عليّ أقضيه عنه، وما ترك من ميراث فميراثه لورثته».
جاءه يوما أعرابيّ، فقال: يا محمد! إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك، فأوقر منه جملي، فحمله رسول الله ﷺ من الشعير والتمر، ولم يسخط عليه ما أغلظه من القول، ثم قال: إنما أنا قاسم، وخازن، والله هو المعطي. يقول أبو ذر: كنت يوماً أمشي مع رسول الله ﷺ في حرّة المدينة، فاستقبلنا جبل أحد، فقال: «أبا ذر!» قلت: لبيك يا رسول الله! قال: «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد ذهباً تمضي عليّ ثلاث ليال، وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدَين»(5).
إخواني! لا تحسبوا أن ما قاله ﷺ إنما هو كلمات عذبة، وألفاظ يتجمّل بها، بل قال ما قاله عن عزيمة، ولم يظهر للناس إلا ما كان يكنّه صدره، ويعمل به مدّة حياته، جاءه مرة من البحرين ذهب، وفضّة، وأموال جمّة، فأمر بوضع ذلك كله في فناء المسجد، ثم غدا على الناس يصلي بهم الصبح دون أن تقع عينه على ذلك المال في الجهة التي وضع فيها، فلما انصرف من الصلاة دعا الناس، وطفق يوزع المال عليهم حتى فرغ منه، فقام ينفض يديه وثوبه لئلا يكون علق بثوبه الطاهر شيء من غبار ذلك المال.
وجاءه من فدك أربعة جمال موقرة بالطعام، فقضى به بعض ديونه، وآتى منه بعض الناس، ثم سأل بلالاً: هل بقي من ذلك الطعام شيء؟ فأجابه بلال: لقد بقي منه شيء وليس هاهنا من يأخذه. فقال ﷺ: لا أُدخل بيتي ما بقي منه شيء. وبات تلك الليلة في المسجد، فلما أصبح بشره بلال قائلاُ: إنّ الله قد وضع عنك. يعني: أنّ بقية الطعام قد قسمت ولم يبق منه شيء، فشكر الله.
ودخل بيته ذات يوم بعد صلاة العصر على غير عادته، ولم يلبث أن خرج منه فاستغرب الناس ذلك، فقال لهم: إني تذكّرت في الصلاة أن في بيتي شذرة من الذهب فخشيت أن يجيء الليل وهي في بيت محمد. ودخل بيته ذات يوم حزيناً كئيباً، فسُئل عن ذلك، فقال: يا أمّ سلمة! إنّ ما جاءنا من الدنانير السبعة قد بقي في الفراش، وقد حان المساء.
وممّا يدلّ على زهده ﷺ في الدّنيا ومتاعها أنّ الرسول ﷺ مرض مرضه الذي توفي فيه، وكان يتقلب على فراشه من شدّة المرض، فتذكر وهو في هذه الحالة أنّ في بيته دنانير، فأمر أن يتصدّق بها، وقال: أيلقى محمد ربه وقد خلف في بيته دنانير؟!
فهذا ما كان عليه ﷺ في حياته من إنفاق المال والصّدقة.
لم يطو ثوبه أبداً
لقد رغّب محمد رسول الله ﷺ في الآخرة، وزهّد في الدّنيا، وحثّ على القناعة بالقليل منها، والكفاف من العيش، فلننظر إلى عيشه كيف كان يعيش ويحيا، لقد علمتم أنّ الله بسط على المسلمين الدّنيا، ووسع في أرزاقهم، فكانت تجبى إليه الأموال من الخراج، والعشر، والجزية، والزكاة، والصدقات، وكانت قوافل الإبل تحمل الطعام والمال إلى المدينة، أمّا رسول الله ﷺ فلم يكن له حظّ من تلك الأموال الكثيرة، وكان أهل بيته في ضنك وكفاف، تقول عائشة رضي الله عنها: توفّي رسول الله ﷺ ولم يشبع يومين متواليين (6).
وتقول: لم يكن في بيته يوم التحق ﷺ بالرّفيق الأعلى سوى صاع واحد من شعير، وكانت درعه مرهونة عند يهوديّ بصاع من شعير، كان الرّسول ﷺ يقول: «ما لابن آدم من دنياه غير بيت يأوي إليه، وثوب يلبسه، وخبز جافّ يأكله، وماء يشربه» (7).
ولم ينطق ﷺ بهذه الكلمات في الزهد بالدّنيا إلا وقد رضي لنفسه بهذا القدر، وعمل به طول حياته، ولم يمدّ عينيه إلى زهرة الدنيا وزينتها، فكانت له حجرة مطينة غير مشيدة جدرانها، وكان سقفها من الخوص والوبر. تقول عائشة: لم يطو ثوبه أبداً. تعني أنه لم يكن له ثوب آخر غير الذي على جسده الطّاهر.
جاءه مرة سائل يشكو الجوع الشديد، فأرسل إلى أزواجه يطلب للسائل طعاماً من بيوتهن، فلم يجد عند إحداهن شيئاً غير الماء. ويقول طلحة: رأيت رسول الله ﷺ يوما مضطجعاً على فرش المسجد، يتململ من الجوع، وشكا إليه بعض الصحابة الجوع ذات مرة وكشفوا عن بطونهم، فإذا حجر قد شدّه كلّ واحد على بطنه، وأراهم ﷺ بطنه، وقد شدّ عليه حجرين، وكان صوته ﷺ يضعف أحياناً من شدة الجوع، وذهب مرّة إلى بيت صاحبه أبي أيوب الأنصاري وهو جائع، فصنع له أبو أيوب طعاما، وقطف له بعض الرّطب من حديقته، فلما قدم إليه الطعام أخذ منه خبزاً ووضع عليه شيئاً من اللحم، وقال: ابعثوا به إلى فاطمة، فإنها لم تأكل شيئاً منذ أيام.
وكان يحبّ بنته وسبطيه حباً جماً، غير أنّ حبّه لهم لم يحمله على أن يكسوهم لباساً ناعماً، أو يحلي بنته حلية ثمينة، ورأى فاطمة قد لبست ذات يوم قلادة من الذهب جاءها بها زوجها عليّ كرّم الله وجهه، فقال ﷺ لها: يا فاطمة أتحبين أن يقال إن بنت محمد قد لبست طوقاً من نار؟ فنزعت تلك القلادة من عنقها، واشترت بثمنها عبداً وأعتقته، ورأى عائشة قد لبست سوارين من ذهب، فأمرها أن تنزعهما، فنزعتهما حين قال لها: هذا لا ينبغي لآل محمد، وكان يقول: يكفي الإنسان من الدّنيا ما يتزود به الغريب في سفره.
هذا قوله، أما عمله فيدلّ عليه ما روي أنّ أحد الصحابة دخل عليه فرآه قد أثر الحصير في جسمه الشريف، فقال: ألا نهدي إليك فراشاً وثيراً؟ فأجابه: مالي ولدنياكم، ليس لي إليها حاجة إلا كما يستظلّ الراكب في طريقه؛ ليستريح ساعة من نهار، ثم يمضي قدماً.
وفي السنة التاسعة للهجرة وكانت رقعة الدولة الإسلامية قد امتدّت إلى اليمن، والشام، ولا ينفذ فيها إلا أمره، حتى أنّه لم يكن يملك إلا إزاراً وسريراً خشناً، لا فرش له، ووسادة حشوها ليف، وقليلاً من الشعير، وجلد حيوان في ناحية من البيت، وقربة ماء معلقة على وتد، فإذا كان ذلك هو تزهيده الناس في الدنيا، فهذا هو عمله الذي رأيتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العلامة السيد سليمان الندوي الحسيني، الرسالة المحمدية، دار ابن كثير- دمشق، ط: 1، 1423هـ، ص153 وما بعدها.
(1) البخاري (152) ومسلم (377).
(2) البخاري (1969).
(3) البخاري (1961).
(4) السغب: الجوع مع التعب.
(5) مسلم (2302).
(6) رواه البخاري (3097) و(4467).
(7) رواه الترمذي (2341) وقال: حديث حسن صحيح.