في ذكرى المولد النبوي الكريم
فبراير 20, 2024قراءة نصية في جوانب من فقه الهجرة [ج2]
فبراير 20, 2024ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلم بتاريخ الأمم عامة، وتاريخ العرب خاصة في زمن البعثة المحمدية، لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز عروش الملوك وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم، وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء، وإلى نار تنقض من سماء الحق على أدم(1) الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول، وصيحة فصحى تزعج الغافلين وترجع بألباب الذاهلين وتنبه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين والقادة الغارين، وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الله له: ﴿إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبيلَ﴾ ليبلغ بسلوكها كماله، ويصل على نهجها إلى ما أُعد في الدارين له.
ولكنا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرخو ذلك العهد نظر إمعان وإنصاف:
كانت دولتا العالم، دولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب في تنازع وتجالد مستمر، دماء بين العالمين مسفوكة وقوى منهوكة وأموال هالكة وظلم من الإحن حالكة، ومع ذلك فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنن في الملاذ بالغةً حد ما لا يوصف، في قصور السلاطين والأمراء والقواد ورؤساء الأديان من كل أمة، وكان شَرَهُ هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد، فزادوا في الضرائب وبالغوا في فرض الإتاوات حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم، وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوي في اختطاف ما بيد الضعيف، وفكر العاقل في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال.
غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم، فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب يديرها من وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففُقد بذلك الاستقلال الشخصي وظن أفراد الرعايا أنهم لم يُخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذاتهم، كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها.
ضلت السادات في عقائدها وأهوائها، وغلبتها على الحق والعدل شهواتُها، ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها، فلم يفارقها الحذر من أن بصيص النور الإلهي الذي يخالط الفِطَر الإنسانية قد يفتق الغُلُف التي أحاطت بالقلوب، ويمزق الحُجُب التي أُسدلت على العقول، فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سُحباً من الأوهام ويُهيئوا كِسَفاً من الأباطيل والخرافات ليقذفوا بها في عقول العامة، فيغلظ الحجاب ويعظم الرَّيْن ويختنق بذلك نور الفطرة ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم.
وصرح الدين بلسان رؤسائه أنه عدو العقل، وعدو كل ما يثمره النظر، إلا ما كان تفسيراً لكتاب مقدس، وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب ومدد لا ينفد.
هذه حالة الأقوام التي كانت في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم.. عبيد، أذلّاء، حَيارَى في جهالة عمياء، اللهم إلا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية والشرائع السابقة آوت إلى بعض الأذهان، ومعها مقت الحاضر ونقص العلم بالغابر.
ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها، بما انقلب من الوضع وانعكس من الطبع، فكان يُرى الدنس في مظنة الطهارة، والشَّرَه حيث تُنتظر القناعة، والدعارة حيث تُرجى السلامة والسلام، مع قصور النظر عن معرفة السبب وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كل ذلك هو الدين، فاستولى الاضطراب على المدارك وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معًا، وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة، وكان ذلك ويلاً عليها فوق ما رُزِئت به من سائر الخطوب.
وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر كل قبيلة في قتال أختها وسفك دماء أبطالها وسبي نسائها وسلب أموالها، تسوقها المطامع إلى المعامع، ويُزين لها السيئاتِ فسادُ الاعتقادات، وقد بلغ العرب من سخافة العقل حداً صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها، فلما جاعوا أكلوها! وبلغوا من تضعضع الأخلاق وهناً قتلوا فيه بناتهم تخلصاً من عار حياتهن أو تنصلاً من نفقات معيشتهن، وبلغ الفحش منهم مبلغاً لم يعُد معه للعفاف قيمة. وبالجملة: فكانت رُبُط النظام الاجتماعى قد تراختْ عُقَدها في كل أمة وانفصمت عُراها عند كل طائفة.
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم، يوحي إليه رسالته ويمنحه عنايته، ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت رؤوس جميع الأمم؟
نعم.. كان ذلك، وله الأمر من قبل ومن بعد، في الليلة الثانية عشر من ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 من ميلاد المسيح عليه السلام)، وُلد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، بمكة، وُلد يتيماً تُوفي والده قبل أن يولَد ولم يترك له من المال إلا خمس جمال وبعض نعاج وجارية، ويُروى أقل من ذلك،وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً، فاحتضنه جده عبد المطلب، وبعد سنتين من كفالته توفي جده، فكفله من بعده عمه أبو طالب، وكان شهماً كريماً غير أنه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله، وكان ﷺ من بني عمه وصبية قومه كأحدهم، على ما به من يُتم فقد فيه الأبوين معًا، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول، ولم يقُم على تربيته مهذِبٌ ولم يُعنَ بتثقيفه مؤدِب، بين أتراب من نبت الجاهلية وعشراء من حلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الأوهام وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً، حتى عُرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه، بالأمين.
أدب إلهي لم تَجرِ العادة بأن تُزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القُوَّام، فاكتهل ﷺ كاملاً والقوم ناقصون، رفيعاً والناس منحطّون، موحداً وهم وثنيون، سِلْماً وهم شاغبون، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.
من السنن المعروفة أن يتيماً فقيراً أمّياً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه، لا سيما إن كان من ذوي قرابته وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده، فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم وأخذ بمذاهبهم إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده، ولكن الأمر لم يجر على سنته؛ بل بُغّضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة كما بادره حسن الخليقة. وما جاء في الكتاب من قوله: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلًّا فَهَدَىٰ ﴾ [الضحى: 7] لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم قبل الخلق العظيم، حاش لله، إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص فيما يرجون للناس من الخلاص وطلب السبيل إلى ما هُدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته.
وجد شيئاً من المال يسد حاجته –وقد كان له في الاستزادة منه ما يرفّه معيشته- بما عمل لخديجة، رضى الله عنها، في تجارتها وبما اختارته بعد ذلك زوجاً لها، وكان فيما يجتنيه من ثمرة عمله غناء له وعون على بلوغه ما كان عليه أعاظم قومه؛ لكنه لم تَرُقه الدنيا ولم تُغرِه زخارفها، ولم يسلك ما كان يسلكه مثله في الوصول إلى ما ترغبه الأنفس من نعيمها، بل كلما تقدم به السن زادت فيه الرغبة عما كان عليه الكافة ونما فيه حب الانفراد والانقطاع إلى الفكر والمراقبة والتحنث بمناجاة الله تعالى، والتوسل إليه في طلب المخرج من همه الأعظم في تخليص قومه ونجاة العالم من الشر الذي تولاه، إلى أن انفتق له الحجاب عن عالم كان يحثه إليه الإلهام الإلهى، وتجلى عليه النور القدسي وهبط عليه الوحى من المقام العلي، في تفصيلٍ ليس هذا موضعه.
لم يكن من آبائه ملك فيطالب بما سُلب من ملكه، وكانت نفوس قومه في انصراف تام عن طلب مناصب السلطان، وفي قناعة بما وجدوه من شرف النسبة إلى المكان دل عليهما ما فعل جده عبد المطلب عند زحْف أبرهة الحبشي على ديارهم، جاء الحبشي لينتقم من العرب بهدم معبدهم العام وبيتهم الحرام ومنتجع حجيجهم ومستوى العلية من آلهتهم، ومنتهى حجة القرشيين في مفاخرتهم لبني قومهم. وتقدم بعض جنده فاستاق عدداً من الإبل فيها لعبدالمطلب مائتا بعير، وخرج عبد المطلب في بعض قريش لمقابلة الملك فاستدناه وسأله حاجته، فقال هي أن ترد إليّ مائتي بعير أصبتها، فلامه الملك على المطلب الحقير وقت الخطب الخطير، فأجابه: “أنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه”.
هذا غاية ما ينتهى إليه الاستسلام وعبد المطلب في مكانه من الرياسة على قريش؛ فأين من تلك المكانة محمد ﷺ في حالة من الفقر ومقامه في الوسط من طبقات أهله حتى ينتجع مُلكاً أو يطلب سلطاناً؟ لا مال لا جاه لا جند لا أعوان لا سليقة في الشعر لا براعة في الكتاب، لا شهرة في الخطاب، لا شيء كان عنده مما يكسب المكانة في نفوس العامة أو يرقى به إلى مقام ما بين الخاصة.
ما هذا الذي رفع نفسه فوق النفوس؟ ما الذي أعلى رأسه على الرءوس؟ ما الذي سما بهمته على الهمم حتى انتدب نفسه لإرشاد الأمم وكفالته لهم كشف الغمم بل وإحياء الرمم؟
ما كان ذلك إلا ما ألقى الله في رُوعه من حاجة العالم إلى مقومٍ لما زاغ من عقائدهم، ومصلح لما فسد من أخلاقهم وعوائدهم. ما كان ذلك إلا وجدانه ريح العناية الإلهية، ينصره في عمله، ويمده في الانتهاء إلى أمله قبل بلوغ أجله. ما هو إلا الوحى الإلهى يسعى نوره بين يديه يضيء له السبيل، ويكفيه مؤنة الدليل. ما هو إلا الوعد السماوي قام لديه مقام القائد والجندى.
أرأيت كيف نهض وحيداً فريداً يدعو الناس كافة إلى التوحيد والاعتقاد بالعليّ المجيد والكل ما بين وثنية متفرقة ودهرية وزندقة؟ نادى في الوثنيين بترك أوثانهم، ونبذ معبوداتهم، وفي المشبهين المنغمسين في الخلط بين اللاهوت الأقدس وبين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم، وفي الثنوية بإفراد إله واحد بالتصرف في الأكوان، وردّ كل شيء في الوجود إليه، أهاب بالطبيعيين ليمدوا بصائرهم إلى ما وراء حجاب الطبيعة فيتنوروا سر الوجود الذي قامت به. صاح بذوي الزعامة ليهبطوا إلى مصاف العامة في الاستكانة إلى سلطان معبود واحد هو فاطر السموات والأرض والقابض على أرواحهم في هياكل أجسادهم. تناول المنتحلين منهم لمرتبة التوسط بين العباد وبين ربهم الأعلى، فبين لهم بالدليل وكشف لهم بنور الوحي أن نسبة أكبرهم إلى الله كنسبة أصغر المعتقدين به.
وطالبهم بالنزول عما انتحلوه لأنفسهم من المكانات الربانية إلى أدنى سلم من العبودية، والاشتراك مع كل ذي نفس إنسانية في الاستعانة برب واحد يستوى جميع الخلق في النسبة إليه، لا يتفاوتون إلا فيما فضل به بعضهم على بعض من علم أو فضيلة. وخز بوعظه عبيد العادات وأسراء التقليد ليعتقوا أرواحهم مما استعبدوا له، ويحلوا أغلالهم التي أخذت بأيديهم عن العمل وقطعتهم دون الأمل.
مال على قراء الكتب السماوية والقائمين على ما أودعته من الشرائع الإلهية، فبكت الواقفين عند حروفها بغباوتهم، وشدد النكير على المحرفين لها الصارفين لألفاظها إلى غير ما قُصد من وحيها، اتباعاً لشهواتهم، ودعاهم إلى فَهمها والتحقق بسر علمها حتى يكونوا على نور من ربهم، واستفلت كل إنسان إلى ما أودع فيه من المواهب الإلهية، ودعا الناس أجمعين ذكوراً وإناثاً عامة وسادات، إلى عرفان أنفسهم، وأنهم من نوع خصه الله بالعقل وميزه بالفكر وشرفه بهما وبحرية الإرادة فيما يرشده إليه عقله وفكره، وأن الله عرض عليهم جميع ما بين أيديهم من الأكوان وسلطهم على فهمها والانتفاع بها دون شرط ولا قيد، إلا الاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة العادلة والفضيلة الكاملة، وأقدرهم بذلك على أن يصلوا إلى معرفة خالقهم بعقولهم وأفكارهم دون واسطة أحد إلا من خصهم الله بوحيه، وقد وكل إليهم معرفتهم بالدليل كما كان الشأن في معرفتهم لمبدع الكائنات أجمع، والحاجة إلى أولئك المصطفين إنما هي معرفة الصفات التي أذن الله أن تعلم منه، وليست في الاعتقاد بوجوده، وقرر ألّا سلطان لأحد من البشر على آخر منه إلا ما رسمته الشريعة وفرضه العدل، ثم الإنسان بعد ذلك يذهب بإرادته إلى ما سخرت له بمقتضى الفطرة.
دعا الإنسان إلى معرفة أنه جسم وروح وأنه بذلك من عالمين متخلفين وإن كانا ممتزجين، وأنه مطالب بخدمتهما جميعًا وإيفاء كل منهما ما قررت له الحكمة الإلهية من الحق. دعا الناس كافة إلى الاستعداد في هذه الحياة لما سيلاقون في الحياة الأخرى، وبيّن لهم أن خير زاد يتزوده العامل هو الإخلاص لله في العبادة والإخلاص للعباد في العدل والنصيحة والإرشاد.
قام بهذه الدعوة العظمى وحده ولا حول له ولا قوة، كل هذا كان منه والناس أحباء ما ألفوا، وإن كان خسران الدنيا وحرمان الآخرة، أعداء ما جهلوا وإن كان رغد العيش وعزة السيادة ومنتهى السعادة، كل هذا والقوم حواليه أعداء أنفسهم، وعبيد شهواتهم، لا يفقهون دعوته ولا يعقلون رسالته. عقدت أهداب بصائر العامة منهم بأهواء الخاصة، وحجبت عقول الخاصة بغرور العزة عن النظر في دعوى فقير أمي مثله، لا يرون فيه ما يرفعه إلى نصيحتهم والتطاول إلى مقاماتهم الرفيعة باللوم والتعنيف.
لكنه في فقره وضعفه كان يقارعهم بالحجة، ويناضلهم بالدليل ويأخذهم بالنصيحة ويزعجهم بالزجر وينبههم للعبر ويحوطهم مع ذلك بالموعظة الحسنة، كأنما هو سلطان قاهر في حكمه عادل في أمره ونهيه أو أب حكيم في تربية أبنائه شديد الحرص على مصالحهم، رءوف بهم في شدته رحيم في سلطته.
ما هذه القوة في ذلك الضعف؟ ما هذا السلطان في مظِنة العجز؟ ما هذا العلم في تلك الأمية؟ ما هذا الرشاد في غمرات الجاهلية؟ إن هو إلا خطاب الجبروت الأعلى، قارعة القدرة العظمى، نداء العناية العليا. ذلك خطاب الله القادر على كل شىء، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، ذلك أمر الله الصادع، يقرع الآذان ويشق الحجب ويمزق الغلف وينفذ إلى القلوب على لسان مَن اختاره لينطق به واختصه بذلك، وهو أضعف قومه، ليقيم من هذا الاختصاص برهاناً عليه بعيداً عن الظنة بريئًا من التهمة! لإتيانه على غير المعتاد بين خلقه.
أي برهان على النبوة أعظم من هذا؟ أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما يكتبون وما يقرءون؟! بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون؟ في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء؟ ناشىء بين الواهمين هب لتقويم عِوج الحكماء؟ غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة ويخط للسعادة طرقاً لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها؟!
ما هذا الخطاب المفحم؟ ما ذلك الدليل الملجم؟ أأقول ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم؟!
لا، لا أقول ذلك، ولكن أقول كما أمره الله أن يصف نفسه، ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ ﴾ [الكهف: 110]. نبي صدق الأنبياء ولكن لم يأت في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار أو يحير الحواس أو يدهش المشاعر، ولكن طالب كل قوة بالعمل فيما أعدت له، واختص العقل بالخطاب وحاكم إليه الخطأ والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل مبلغ الحجة وآية الحق الذي ﴿لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ﴾. [فصلت: 42]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأعمال الكاملة، تحقيق: د. محمد عمارة، 3/ 439 وما بعدها.
(1) من معانيه: السمرة والسواد.