
العدد الحادي والعشرون
فبراير 1, 2024
حجة الوداع
فبراير 2, 2024
تَقَلَّبُوا في أرقى البلاد علماً وحضارةً، وابحثوا عن أسلم الأميين بها فطرة، وأذكاهم جنانات، وأنفذهم بصيرة، وأطولهم بصيرة تجارب، ثم اجلسوا إلى هذا الأمي لياليَ وأياماً، تزنون أقواله بقسطاس الحكمة، وتَعْرِضُون آراءه على قانون المنطق الصحيح، ثم انظروا إلى ما سمعتموه من قول صائب، ورأي مقبول وضعوه بجانب ما تسمعون من أقوال لاغية، وآراء زائفة، لا شك إن فعلتم ذلك عرفتم أن لنبوغ الأميِّيِن مجالاً ضيقاً واحداً غير بعيد.
بل انظروا في نوابغ الرجال من أهل العلم، فإنكم تجدون الرجل منهم قد وهبه الله حظاً عظيماً من رَجَاحةِ العقل، وحكمةِ الرأي، ففاق أقرانه، وصار في عصره العَلَم المشار إليه بالبنان، حتى إذا انقرض ذلك العصر، وأقبل على الناس عصرٌ آخر، ظهر في هذا العصر نابغة يُضاهي نابغة العصر السابق في تصرفه الفكري، وأتى بمثل ما أتى به من ثَمرٍ علميّ.
أما محمدٌ رسول الله ﷺ فإنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع هذه الأمية والنشأة البعيدة عن مواطن العلوم ومجالس العلماء، ينظر إلى الحقائق الغامضة، فيصيب كبِدها، وينطق فإذا الحكمة كاشفة النقاب، والبلاغة آخذة بالألباب.
وحرام على العصور أن تُخرج للناس رجلاً يدانيه في عظمته، أو يقاربه في صدق لهجته وروعة حكمته، لا تفعل العصور ذلك وإن بلغت في الحضارة أشدها، وأشرقت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها وتبيان غاياتها.
فكمال عقل المصطفى ﷺ من النوع الذي يخص الله تعالى به بعض المصطَفين من عباده، ليُعِدَّهم بذلك إلى أشرف مقام، هو مقام النبوة والرسالة.
وإذا كان ما أُلقِيَ على عاتق هذا الرسول العظيم هي الرسالة العامة الخالدة، فمن المعقول أن يهب الله تعالى له من فضل العقل، وسمو الحكمة ما يناسب عموم رسالته وبقاءها إلى قيام الساعة.
وليس ببعيد ما قاله بعض الفقهاء: إن النبي ﷺ كان يجتهد في أحكام بعض الوقائع، أي أنه يقتبسها من أصول الشريعة بروحه المطوي على علم بمقاصد التشريع، فإن الأحكام التي يستنبطها عقلٌ خلقه الله تعالى في صفاءٍ وقوةٍ لائِقَيْنِ بمقام رسوله الكريم، جديرةٌ بأن تدخل في سلك الأحكام الثابتة من طريق الوحي الصحيح.
فإن حدثناكم عن كمال عقل علّامةٍ نحريرٍ أو سياسيٍ كبيرٍ أو فاتحٍ خطيرٍ، فإنما نحدثكم عن عقل أتى الزمان بمثله، وفي وُسعِه أن يأتي بأمثاله، وليس بينك وبين أن تدرك سبب كِبَرَ هذا العقل إلا أن تنظر إلى البيئة التي شب فيها، والمعارف التي تَلَقَّنَها.
وإذا فرضت أن عقلين من هذا النوع قد تماثلا بحسب الفطرة، كان عقل المتأخر أكبر من عقل المتقدم، لأن المتأخر يجد من ثمرات العقل السابق، ما يساعد على التفكير وسرعة الإنتاج، كما انتفع أرسطو من آراء أفلاطون.
أما إذا حدثناكم عن كمال عقل محمدٍ ﷺ فلا نحدثكم عن عقلٍ يرجع سبب عظمته إلى بيئةٍ أو دراسةٍ، إنما نحدثكم عن عقل أودعه تعالى في أكمل خَلْقِه ليفهم به مقاصد الوحي، فيقوم ببيانها، ويدرك أمراض النفوس، فيصف أدواءها، ويتدبر أمور الجماعات، فيحسن سياساتها.
اقرؤوا سيرته في تلك السنين المعدودة، التي قضاها عليه السلام في المدينة المنورة، وانظروا ماذا كان يقوم عليه من جلائل الأعمال، ويدعو إليه من وجوه الإصلاح، ويُبَيِّنَه من حلالٍ وحرامٍ؟
يؤم الناس في الصلوات، ويقود الجيوش في الغزوات، ويُفتي السائلين في العبادات والمعاملات والجنايات، ويجلس إلى الأفراد والجماعات، يُذَكِّرُ الغافلين، ويُرْشِدُ الضالين، ويجادل المعاندين، ويببشِّرُ المتقين، ويَفْصِلُ بين المتخاصمين، وينظر في شؤون منزله، ويسوس آل بيته وخدمه في رفقٍ وعدلٍ.
ولا شك أن هذه الأعمال المختلفة النواحي كما رأيتم، لا يكفي في تدبيرها وإقامتها عقل من هذه العقول التي يحدثنا عنها التاريخ، ولو صدقت في مبالغاته في إطرائها وإعلاء شأنها.
قال القاضي عياض في كتاب “الشفا”:
“لا مِرية أنه ﷺ كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمور بواطنِ الخَلقِ وظَواهرِهِم، وسياسةِ العامةِ والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سِيَرهِ، فضلاً عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع، دون تَعَلُّم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول بديهته”.
فظهور هذا العقل الكبير في أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب، من أظهر الدلائل على أن هذا الأميَّ صادقُ في دعوى أنه رسول رب العالمين، فنحن إذا خطبنا في كمال عقل المصطفى ﷺ إنما نصف آيةً تَبعَثُ في قلب الجاحد إيماناً، وتزيد من قلب المؤمن اطمئناناً.
ولعلك تذكر قوله تعالى:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]
فيختلج في صدرك أن أَمْرَه باستشارة أصحابه يقتضي أن آراءهم، قد تكون أصوب من رأيه.
والجواب: أنه كان ﷺ يستشير أصحابه في أمر الحروب ونحوها، ليقيم قاعدة الشورى بين الناس، وبالشورى تسعد الأمة، ويرتفع شأن الدولة.
قال الحسن رضي الله عنه: “قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يَسْتَنَّ به مَن بَعده”.
وفي استشارته ﷺ لأصحابه تطييبٌ لنفوسهم، وزيادةُ تأليفٍ لقلوبهم، إذ كان العرب من أشد الناس كراهةً للاستبداد، ونفوراً من الرئيس الذي لا يجعل لهم في تصريف الأمور العامة نصيباً من الرأي.
وفي استشارته ﷺ أصحابه إشعارٌ لهم بِعُلُوِّ مكانتهم عنده، إذ يُدلُّهم على أنه يراهم مطلِعَ الآراءِ السديدة ومواطنَ الإخلاصِ، والإخلاص رأس كل فضيلة، وأي منزلة أرفع من منزلة قوم يعرض عليهم رسول الله ﷺ الأمر، يستطلع آراءهم فيه، وهو الغني عنهم بما يأتيه من وحي السماء، وبما رزقه الله تعالى من سمو الفكر، وصفاء البصيرة.
وقد نطق القرآنُ المجيدُ بوقائعَ، أشار إلى أن النبي ﷺ جرى فيها على خلاف ما هو الأصلح والأولى،
منها: أَخْذُهُ الفداءَ عن أسرى بدر، وذلك ما عاتبه الله عليه، فقال:
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 67]
والمفهوم من الآية: أن النبي الذي بعث ليطهر الأرض من أرجاس الشرك والفسوق، فقام في وجهه أعداء ألداء، يبسطون إليه وإلى أنصاره أيديهم بالأذى، ويصدون الناس عما جاء به من الهدى، ويذهبون في الكيد له إلى أبعد مدى، ينبغي له أن يأخذ في معاملة هؤلاء الأعداء المحاربين بالشدة حتى يكسر شوكتهم، وتعظم مهابته في قلوبهم، والمال ـ و من وسائل القوة والغلبة ـ ليست له في جانب المصلحة التي أشارت إليها الآية الكريمة من قيمة.. وإن كان.
ومنها: إذنه لبعض المنافقين حين استأذنوه في التخلف عن غزوة تبوك، وذلك ما عاتبه الله تعالى في قوله:
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
والواقع أن خروج هؤلاء المنافقين للقتال ليس فيه مصلحةٌ للدين، بل أشار القرآن إلى ما في خروجهم إلى الغزو من ضررٍ، فقال تعالى:
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 47].
فلم يعاتِبُ اللهُ نبيَّهُ ـ عليه الصلاة والسلام ـ من جهة أنه أذن في التخلف لقومٍ شأنهم أن يبلوا في الجهاد بلاءً حسناً، بل العتاب من جهة أنه أذن لهم في التخلف، ولم يؤخِّر الإذن فيه إلى أن يفتضح أمرهم، ويظهر على رؤوس الأشهاد كذبُهم، وأنه لا عذر يستدعي تخلفهم، حتى إذا قعدوا عن الغزو، قعدوا متألّمِين من هذه الفضيحة، متخوفين من سوء عاقبتها.
واقعتـان، أو ثلاث وقائع، أو أربع، أو خمـس يسبق فيهـا رأي رسول اللہ ﷺ إلى خلاف الأولى، فيرشده علاَّمُ الغيوب إلى ما هو الأولى، لا تقف في سبيل ما وصفناه، وأقمنا عليه الحجة من أن كِبَـَر عقلِ محمـدٍ ـ صلوات الله عليه ـ آية من آيات النبوة، ولعلك تذكر أن طائفة من المشركين بلغت بهم الرقاعةُ أن وصفوا صاحب هذا العقل العظيم بالجنون؛ كما حكى الله عنهم في قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: 6].
ويقدح في خاطرك أن عقلا تهبط منه الحكم البالغة، وتسطُعُ منه الحجج الدامغة، لا يصف صاحَبه بالجنون إلا من فقد عقله، وصار يرمي بالألفاظ في غير معنى، فتقول: “كيف يحكي القرآن كلام من فقدوا عقولهم، وأطلقوا في الهذيان ألسنتهم”؟ والجواب: أن القوم يعلمون أنه ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، وإنما رموه بالجنون؛ تناهياً في العناد، وقصداً للإساءة بالقول، وحكى الله ذلك الزعم البين البطلان؛ ليرينا مبلغهم من العناد، وسقوطهم أمام الحجة، وتخبطهم في تَطَلُّبِ وجهٍ يصرفون به الناسَ عن إجابة دعوته. وأي تخبط بعد تخبط من يأتي إلى أرجحِ البشر عقلاً، وأسناهم خلقاً، وأحسنِهم سمْتاً، وأجلِّهم وقاراً، فيقول عنه: إنه مجنون؟! وقد انحدرت من سماء ذلك العقل العظيم حكمٌ أنفسُ من الدرر، وأنفعُ من الغيث، وفي وسعي أن أسوق إليكم منها مثلاً، وأنبه على ما ينطوي تحتها من المعاني السامية، ولكن ضيق الوقت يدعوني إلى أن أقف عند هذا الحد.
([1]) من كبار علماء تونس وتولى مشيخة الأزهر من 1952 إلى 1954م. مصدر المقال: مجلة الهداية الإسلامية، الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول عام 1354.