فلسطين … روح الأمة الإسلامية
مايو 17, 2024حوار مع الشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله
مايو 18, 2024إن غياب إيمان النخب بسلطتها المعنوية الكبيرة المؤثرة، يتجلى في ميادين الحياة المختلفة، الدينية والاجتماعية والسياسية، فأول ما تتمثل في ميدان الدعوة إلى الله وبيان شريعته والدفاع عنها ضد حملات التشويه والإفساد الممنهج، وكذا في مجال السياسة العامة التي تغيب عنها النخب في أغلب الأحيان.
حيث يحجم النخبوي عن المشاركة في المدافعات السياسية لعوامل شتى، منها ما هو شخصي ومنها ما يتعلق بمحيطه، فلا يستطيع بعدها صناعة السياسات ولا التأثير بصناعتها، بل يصبح منفعلاً بما يصنعه غيره، غير فاعل ولا مؤثر.
وهذه المشكلة عامة، وهي معضلة النُّخب في العصر الحاضر، وهذا ما نبه إليه العديد من المفكرين الغربيين، بأن الكثير من النخب تحولوا إلى موظفين تقليديين، حتى انعكس هذا الأمر سلباً على جميع المجالات كمظاهر الحياة السياسية والاجتماعية وكذا العملية التعليمية بمختلف مراحلها وأهمها التعليم الجامعي والعالي؛ حيث الاهتمام بالقوانين والأنظمة والروتين والرواتب، على حساب صناعة الكوادر النخبوية الحرّة.
يقول عالم الاجتماع البريطاني فرانك فوريدي: “لم يكن معظم المثقفين يُسخّرون كل وقتهم للجهاد من أجل الحقيقة كغيرهم من الناس، فإن المثقفين كثيراً ما يساومون وينسحبون تحت الضغط، ويمتثلون للمناخ الثقافي السائد. يمكنهم أحياناً أن يتخلوا عن استقلالهم مقابل حياة سهلة، وفي بعض الأحيان تكون فاعليتهم قِناعا يُغطي لُهاثَهم لتحقيق المصلحة الشخصية”1.
والمقصود أن المثقف تحول إلى موظف ينتظر راتبه ومرتبته، ولا يعمل على تغيير واقعه والتأثير فيه، ونقل المعرفة والحقيقة إلى الأجيال.
وهذا تجده في بلاد المسلمين في كثير من النخب من المدرسين والخطباء وغيرهم، حيث يؤثرون الحفاظ على مكاسبهم وعدم الانفعال في أحداث الأمة ومعاركها الفكرية وغير الفكرية.
وبتقليب صفحات القرن الماضي نجد مجموعة كبيرة من النخب صدرتها أعمالُها في واجهة المشاهد الدينية والسياسية والحركية والعلمية، فكان كل فرد من هذه النخب عَلماً، ونقطة فارقة في علمه أو نشاطه والأثر الذي تركه في الأمة من بعده.
فقد كان اشتغال طبقة العلماء والمفكرين من بعد سقوط الخلافة لمدة عشرات السنين في إعادة مفهوم الحاكمية للإسلام والاستخلاف في الأرض، والكلام على قضايا الأمة السياسية الكبرى، والحفاظ على هُويتها وصد هجوم الغرب العلماني على أبنائها، والدفاع عن قرآنها الكريم وسُنة نبيها الكريم صلوات الله وسلاماته عليه؛ فكنت ترى مؤلفات محمد إقبال وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي ومالك بن نبي وسيد قطب ومحمد قطب والبهي الخولي و محمد عمارة ومحمد الغزالي وعبد الوهاب المسيري، ومواقف وأعمال حسن البنا وعبد الله عزام وأحمد ياسين -رحمهم الله جميعاً- وغيرهم الكثير من الأعلام الكبار والمفكرين الأخيار، الذين حملوا هم الدين والدعوة، وبذلوا أرواحهم وأعمارهم وطاقتهم في سبيل ذلك.
فلم يكرّسوا أنفسهم لمسائل الخلاف الفرعية، ولم يشغلوا الناس في الفروع شغلاً تاماً حتى تستحوذ على عقولهم ويصنفوا الناس على أساسها، ولم ينبشوا الخلاف بين الأشاعرة وغيرهم، ولم يتكلموا في علماء الأمة المشهود لهم، ولم يسخروا أنفسهم لخدمة الطواغيت أو التبرير لهم أو اعتبارهم ولاة أمر تجب طاعتهم؛ بل كان همهم إعادة الدين للحياة بمفهومه الشامل الكامل؛ مفهوم ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].
فالردة الأخلاقية التي تجتاح العالم كله -وعالمنا الإسلامي خاصة- تحتاج إلى صحوة عامة تُخاض فيها المعركة في كل الميادين بلا هوادة، كل في اختصاصه وموقعه.. في البيت والعمل والمدرسة والجامعة والمؤسسات والإعلام والمنابر والمساجد والمنتديات…
فالخطب جلل للمستبصرين، فلا ينبغي أن تشتغل النخب في مسائل الخلاف الفرعية عن هذه الأخطار المحدقة بالأمة.
ومن المعلوم لدى المطلع أن هذه النخب الفاعلة دفعت أثماناً باهظة نتيجة مواقفها وحركتها ضمن المحيط، فبعضهم كان مصيره القتل، وبعضهم السجن، وبعضهم النفي، وغير ذلك من المحن والابتلاءات، وكما قال المتنبي (٣٥٤هـ):
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُهم ** الجودُ يُفقِر والإقدام قَتالُ
يقول سيد قطب رحمه الله مبيناً دور النخب والمصلحين في الدعوة وإقامة دين الله عز وجل: “إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع. فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية.
أولا: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله -على عهد النبوات- أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله -على مدار الزمان بعد ذلك- فيستجيب للدعوة ناس؛ يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة. فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيداً ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق.
هؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستاراً لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له، ليقيم مملكة الله في الأرض -أي لينفذ حكم الله في الأرض- ليس له من هذا النصر والتمكين شيء؛ إنما هو نصر لدين الله، وتمكين لربوبية الله في العباد.
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة؛ ولا عند حدود جنس معين؛ ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا الإنسان كل الإنسان: في الأرض، كل الأرض، من العبودية لغير الله؛ وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أياً كانت هذه الطواغيت”2.
صناعة النخب
والأمر الذي يجب العمل عليه مستقبلاً هو العمل على صناعة النخب، وتهيئة الظروف المناسبة لهذه الصناعة، فالخير في الأمة لا ينقطع، ومصانع الرجال فيها لا تتوقف، ولعل من بعض عوامل صناعة هذه النخب ما يأتي:
– تربية الجيل على مبادئ الإسلام وشموليته، والتضحية في سبيل نصرة الدين وحماية مقدساته، وأن ثواب ذلك الجنة وإرضاء المولى سبحانه.
– الابتعاد عن التحزب والتحيز الذي يقضي على النخبوية، ويحصرها في دائرة الحزب أو الجماعة، والانطلاق إلى عالمية الدعوة والرسالة.
– الاقتداء بالرجالات الثابتين الذين قضوا محافظين على المبادئ، ومن سلك سلوكهم من الأحياء، فالجيل يحتاج إلى قدوات حقيقية قريبة منه تتعلم منهم وتقتدي بهم.
– العناية بالجامعات والتعليم، وقد تكون الجامعات أحد مراكز الصناعة أو أهم هذه المراكز، فيما لو صححنا مسار الجامعة من مكان لتخريج الموظفين إلى مكان لصناعة المفكرين.
– زرع الثقة في الجيل والنخب بأنهم قادرون على التغيير، وأن لهم سلطة حقيقية في التأثير وصناعة القرار وتصحيح المسار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فرانك فوريدي، أين ذهب كل المثقفين (ص53).
2 سيد قطب، في ظلال القرآن، ٢٠٠٧/٤.
* د. محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، مقال: فلسطين روح الأمة الإسلامية، رجب 1434هـ – مايو 2013م، موقع إلكتروني (إحوان ويكي).