
زبدة ثمرات الطوفان
أبريل 9, 2025
﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا: سَتُغْلَبُونَ﴾
أبريل 14, 2025د. حسن سلمان – عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد المتضمن للحقائق الكونية والإنسانية، والكاشف بجلاء لكوامن وخفايا النفس البشرية، قال تعالى: ﴿أَلَا یَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ﴾ [الملك: 14]، وقد تحدث الكتاب العزيز عن مسيرة البشرية كلها ومواقفها من رسلها وأنبيائها، وقد كان التركيز الأكبر على بني إسرائيل خاصةً، واليهود عامةً، وذلك لاعتبارات تاريخية ومستقبلية حول هذا الكيان الديني والنسبي الذي تتابع عليه الرسل.
ولكن الموقف الغالب هو ما جسده القرآن في قوله تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: 87]، والعلّة الكامنة فيهم هي علّة نفسية عميقة جذرها الاستكبار المانع من قبول الحق والخضوع له، والاستعلاء العنصري الذي لا يرى إلا ذاته المتضخمة بالكذب على الله تعالى وعلى عباده: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۚ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ [المائدة: 18].
وهذه النفسيّة المريضة وسمت دوماً بنقض العهود والمواثيق مع الله أولاً ثم مع عباده ثانياً، كما في النصوص الواردة في الكتاب والسّنة.. قال تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100]، وقال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚوَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13].
وهكذا يسجل القرآن الكريم في كثير من الآيات نقض اليهود للعهود مع الله تعالى ومع عباده وخلقه وأنه سلوك راسخ فيهم، ويتأكد ذلك من خلال الواقع العملي في الحياة؛ فقد ثبت في السيرة النبوية نقض يهود المدينة (بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة) للعهود التي أبرموها مع النبي ﷺ، وتواطؤهم مع الأعداء وإثارة الفتن الداخلية، وهكذا هي حقائق التاريخ الكاشفة للنفسية اليهودية المنحرفة عن المنهاج الرباني، والمنطلقة من المطامع والمصالح والأهواء الخاصة والمسكونة بالتعالي العنصري والتعصب القومي، والتي ألفت عبر مسيرتها التحريف والتلاعب بالدين وأحكامه وروحه.
الهدنة الأخيرة في 2025م من التعهدات إلى الانهيار
بعد التصعيد الكبير الذي شهده قطاع غزة في نهاية عام 2024م، تم التوصل إلى هدنة مؤقتة بداية عام 2025م بوساطة مصرية-قطرية وبرعاية دولية، وقد بدأت فعليًا في منتصف يناير 2025م، واستمرت حتى منتصف مارس 2025م، أي نحو شهرين تقريبًا، قبل أن تنهار الهدنة مع اندلاع جولة جديدة من القتال.
وهكذا تتكشف الحقائق القرآنية حول اليهود وعدم وفائهم بالعهود والمواثيق فهم لا ذمة ولا عهد لهم.
مضمون الهدنة
- وقف إطلاق النار المتبادل.
- إدخال مساعدات إنسانية وإغاثية موسعة إلى غزة.
- زيادة تصاريح العمل والتسهيلات التجارية في المعابر.
- إطلاق مفاوضات غير مباشرة حول ملف الأسرى والمفقودين.
- تفاهمات مبدئية بشأن تهدئة الوضع في المسجد الأقصى.
والهدنة كانت على مراحل زمنية يتم في كل مرحلة منها تنفيذ بعض البنود وصولاً للوقف الكامل للحرب بين الطرفين.
ما حدث خلال الهدنة من الطرفين
من جانب المقاومة:
- التزمت المقاومة ببنود التهدئة، دون إطلاق صواريخ أو تنفيذ عمليات عبر الحدود.
- ركزت الفصائل على إعادة تنظيم الصفوف، وإصلاح البنية التحتية العسكرية والمدنية، ودعم الجبهة الداخلية.
- سعت لإبقاء الضغط السياسي على الوسطاء لضمان تنفيذ التفاهمات، خصوصًا في ملف الأسرى والمساعدات.
من جانب الاحتلال:
- تأخير متعمد في إدخال المساعدات وفرض قيود على المواد الحيوية.
- خرق ميداني متكرر عبر طائرات مسيّرة وقصف محدود على مواقع رصدية للمقاومة.
- تصعيد ملحوظ في الضفة الغربية واغتيالات طالت كوادر ميدانية مؤثرة.
- اقتحامات متكررة للمسجد الأقصى، ما اعتبرته المقاومة تجاوزًا للخطوط الحمراء.
- تعطيل غير مباشر لمفاوضات الأسرى، وإرسال رسائل تصعيدية عبر الإعلام والسياسة والدبلوماسية.
الأسباب والدوافع وراء انهيار الهدنة
لا يمكن اعتبار انهيار الهدنة حدثًا مفاجئًا أو طارئًا، بل هو نتيجة حتمية لمسار ممنهج ينتهجه الاحتلال الإسرائيلي، يقوم على توظيف التهدئة كأداة تكتيكية مؤقتة، دون أي التزام سياسي أو إنساني حقيقي بوقف العدوان. وتبرز جملة من الأسباب والدوافع التي أسهمت في تقويض الهدنة، يمكن تصنيفها ضمن أبعاد سياسية وأمنية وإقليمية، على النحو الآتي:
- الدعم الأمريكي غير المحدود للاحتلال:
يمثل الموقف الأمريكي، خاصة خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، أحد أبرز العوامل الممهدة لانهيار الهدنة. فقد اتسم هذا الدعم بعدم وجود أي سقوف أو حدود، وظهر ذلك في الطروحات المتعلقة بتهجير سكان غزة واعتبار الأرض موردًا استثماريًا، ما منح الاحتلال غطاءً سياسيًا واسعًا لاستمرار عدوانه.
- الضعف العربي والفلسطيني الرسمي
جاء التراخي في المواقف العربية والفلسطينية الرسمية، بل وتواطؤ بعضها مع رواية الاحتلال، ليعزز من شعور إسرائيل بأنها غير مُلزَمة بأي التزامات حقيقية. وقد انعكس هذا العجز عن صياغة موقف موحد داعم للفلسطينيين في تساهل الاحتلال مع التفاهمات وانتهاكها بشكل متكرر.
- عجز الجهات الضامنة عن ممارسة الضغط:
رغم تعدد الوسطاء الدوليين والإقليميين، لم تستطع هذه الأطراف فرض التزامات واضحة أو ممارسة ضغط فاعل على الاحتلال الإسرائيلي للالتزام ببنود الهدنة، مما أضعف فعاليتها وفتح المجال أمام خروقات متكررة.
- فشل ملف الأسرى وتصاعد التعنت الإسرائيلي:
شكّل انسداد أفق المفاوضات بشأن تبادل الأسرى مؤشرًا إضافيًا على عدم جدية الاحتلال في المضي قدمًا نحو تهدئة مستدامة، إذ رفض تقديم أي تنازلات ذات مغزى، ما أفقد المفاوضات جديتها وأدى إلى تصعيد التوتر.
- الاستفزازات الميدانية واستخدام الهدنة كغطاء أمني:
لم تتوقف الاستفزازات الإسرائيلية خلال فترة الهدنة بل توسعت الحرب بشكل كبير في الضفة الغربية، ما يعني أن الكيان يستغل فترات الهدوء لتثبيت وقائع ميدانية وتحقيق أهداف أمنية وعسكرية، في عموم الأرض الفلسطينية بما فيها قطاع غزة.
- الاعتبارات السياسية الداخلية لدى الاحتلال:
كثيرًا ما يرتبط نقض التعهدات والهدن المعلنة بالسياق السياسي الإسرائيلي الداخلي، حيث تسعى الحكومات اليمينية المتطرفة إلى توظيف التصعيد العسكري لتعزيز موقفها الشعبي أو لصرف الأنظار عن أزمات سياسية وقضائية، في ظل مزايدات داخلية حول (الحزم الأمني).
- إجهاض أي إنجاز فلسطيني خلال التهدئة:
يسعى الاحتلال الإسرائيلي باستمرار إلى إحباط أي مكاسب سياسية أو معنوية قد تحققها المقاومة أو الشعب الفلسطيني خلال فترات التهدئة، خشية أن تُشكّل هذه المكاسب قاعدة لترسيخ إنجازات على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، سواء في قطاع غزة أو في مسار القضية الفلسطينية عمومًا. ومن هذا المنطلق، تلجأ إسرائيل إلى تنفيذ ضربات استباقية تهدف إلى تقويض البنية التنظيمية للمقاومة والحد من قدرتها على التوسع والتأثير.
- اختبار الجاهزية العسكرية وتحسين الردع:
تُوظف الهدن كفرصة لتحسين منظومات الردع الإسرائيلية من خلال اختبار الأسلحة والتكتيكات، ثم يجري خرق الهدنة بشكل مدروس لدفع المقاومة إلى الرد، بما يتيح للاحتلال تقييم فعالية قدراته القتالية وقدرات وجاهزية المقاومة على السواء.
- استثمار الأزمات الإنسانية كورقة تفاوضية:
في كثير من الحالات، يخرق الاحتلال الهدنة بهدف خلق أزمات إنسانية متعمدة، ليعود لاحقًا ويقدّم نفسه كطرف “متعاون” مع جهود الإغاثة، في محاولة لكسب أوراق ضغط تفاوضية أمام المجتمع الدولي.
- الضغط على الوسطاء الإقليميين والدوليين:
تعمد إسرائيل إلى نقض التهدئة بهدف ابتزاز الوسطاء، وإجبارهم على تقديم تنازلات جديدة في ملفات إعادة الإعمار أو المعابر، مدركة أنهم لا يملكون أدوات ضغط فاعلة عليها.
- إرسال رسائل إقليمية عبر التصعيد:
أحيانًا يُستخدم التصعيد العسكري ضد غزة كرسالة غير مباشرة إلى أطراف إقليمية كإيران أو حزب الله، ضمن سياسة ضبط ميزان الردع الإقليمي وتأكيد الهيمنة العسكرية الإسرائيلية.
وبناءً على ما سبق، فإن انهيار الهدنة لا يُعد خروجًا عن سياق مألوف، بل هو استمرار لطبيعة المشروع الاحتلالي الذي يوظف الحرب كأداة مركزية لفرض وقائعه السياسية والعسكرية على الأرض، دون اعتبار لأي التزامات تفاوضية أو إنسانية.
نظرة تحليلية مستقبلية
في ضوء المعطيات الميدانية والسياسية الراهنة، يبدو أن تجدد الحرب اليوم ليس مجرد انفجار عابر، بل جزء من استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد لإعادة ضبط قواعد الاشتباك، وفرض واقع جديد على الأرض. ومع استمرار العدوان، تزداد المؤشرات على أن الاحتلال يخطط لجولة تصعيد أطول وأكثر عنفًا، قد تُغيّر شكل المشهد في غزة سياسيًا وعسكريًا وربما تجاوزت لما هو أبعد من رسم وتشكيل الحدود والخرائط في المنطقة في ظل الدعم الأمريكي غير المحدود وتراجع التوازن الدولي وحالة السيولة التي يعيشها العالم.
ومن جهة أخرى فإن تعنّت الاحتلال في نقض الهدنة يعكس استخفافًا متعمدًا بالجهود الدولية والإقليمية، ما يُضعف من فرص أي تسوية قريبة، ويدفع باتجاه مزيد من التعقيد والتصعيد وربما كان ذلك مقدمة لانهيار الأنظمة العربية التي عجزت تماماً عن حماية المقدسات والأوطان، وهو ما يفتح الباب أمام جولات من الصراع على المنطقة كلها وليس داخل الحدود الفلسطينية.
المرحلة القادمة مرشحة لأن تشهد تصعيدًا مزدوجًا
ميدانيًا في غزة، وسياسيًا في المحافل الدولية، حيث سيُعاد طرح ملف الاحتلال وجرائمه أمام الرأي العام العالمي لكن في الوقت ذاته، فإن سلوك الاحتلال يؤكد مرة أخرى أن التهدئة تحت الاحتلال ليست سوى وهم مؤقت، وأن المعركة الحقيقية لا تزال تدور حول كسر منظومة القمع والحصار، لا مجرد وقف إطلاق نار هش وغير مستدام، وهذا يتطلب من الأمة وشعوبها إعادة النظر في طبيعة الصراع مع الاحتلال وداعميه على صعيد المنطقة كلها وتحديد معالم الاستراتيجية وفق مفهوم الأمة الواحدة ودور قوى المقاومة الفلسطينية في هذه الاستراتيجية؛ فقد ظهر جلياً طوال معركة الطوفان بأن الكيان الصهيوني ما هو إلا رأس الحربة والقاعدة المتقدمة للقوى الدولية المهيمنة على المنطقة وشعوبها ومواردها، ولا يمكن مواجهة هذه القوى بالعقلية القطرية والمنظور الوطني أو القومي المحدود.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73].